Sunday 24/11/2013 Issue 15032 الأحد 20 محرم 1435 العدد
24-11-2013

حاضرنا باهر كأنما فصله خياط ماهر!

علينا أن نكون عصراً في الدمام ، أعددنا كامل أغراضنا التي تليق بالبحر وبالسفر، كان المساء صافيًا، زرقته تثير وتستحضر فيروز وحبيبها الذي كان دائمًا بعيدًا كالسماء، قاد صديقي الودود السيارة بحرفية تامة وانتباه، اتّكأت على زجاج الشباك الجانبي، أغمضت عينيّ للراحة، لم أفكّر بشيء معين، كنت سارحًا، كمن في داخله آخرُ لا يجيد إلّا النبش في مزارع الماضي، أنا ابن من ولدوا تحت الشمس وعلى سفوح الرمل، باحثين عن غيمة واعدة وأرض خصبة وعن غدير ماء وعشب وكلأ، أفراحهم كانت هشة كأفراح الحمام حين يأمن نافذةً يبني عليها عشّه، فجأةً تذكرت ملامح (معيبد) ذلك الرجل الهرم الغاضب دوماً، لكنه في المقابل كان مؤمناً صادقًا بما يقول، قبل شهر حدّثني عن حياته الطويلة، ببسمته الخارقة ورقته التي تذيب قلب شاعر، وكيف شرب الهم والركض والتعب زلالاً صافياً، وكيف كانت تأتي أفراحه منقوضة، مقضومة، منهوشة، وكيف كان يهاجر طويلاً طلباً للرزق، كان بدوياً قحاً، لكنه تعلم السباحة والغوص كي يصيد اللؤلؤ كما يفعل أهل البحر، وكيف كان يفيض سعادةً وفخرًا حينما يحصل على شيء يسيراً من اللؤلؤ يدفعه نحو والديه بكل فخر وعزة وتباه، تسعون حولاً مضت من عمره بين نومٍ وصحو وهزيمة وانتصار وأسى، سرد لي حياته طفلًا في الفيافي، وتلميذاً عند مطوع شديد البأس يضرب بالعقال وبالعصا دون هوادة أو رحمة، ثم بحاراً، ثم حين صار غضًّا اختار العودة إلى حياة البادية التي هجرها يافعًا لينتهي به المقام تاجراً في المدينة بعيداً عن البحر والشاطيء والمركب وتضاريس البادية ومناخها، كرّ لي شريط عمره الطويل كالريح، ثم صفعني بسؤال: هل يفعل ذلك الجيل الحاضر؟ لم ينتظر إجابتي، أردف:أنا لم أجلس عاطلاً أو متواكلاً على غيري أو أسلم نفسي لليأس مرة واحدة رغم ندرة الفرص وقلة اليد والحيلة كما يفعل الكثير من شبابنا اليوم رغم الفرص العظيمة المتاحة لهم الكثيرة والكبيرة والمهولة والمتشعبة، كان همي الرسمي أن أحيا ويحيا أهلي، كنت أرعى أحلامي وأحلامهم وأسقيها كمزارع، أحتضنها كما يحتضن الفلاح الصباح، في كثير من اللحظات كانت سعادتنا أكبرَ من دانة البحر وأهم من ماشية البادية، أردف: لا تحاول أن تجرني إلى وجعي الذي مضى، وإلى مخاضاته الكسيحة، عندها تغاضيت مشفقًا على قلبه، يكفيه وجعًا، في ذلك المساء عند البحر، لا شيء سيفسد علينا هدأة الليل ونداه، أكلنا وشربنا وأصغينا لحكايا بعضنا واقصيد، بحر ورمل ووجوه طافحة بالفرح، في آخر الليل، أحسست بالبرق يفر من عيني من فرط سعادتي، السعادة فرصة لحظة إن أضعناها ضاعت ضياع غيمة، الساعة الآن تجاوزت منصف الليل، البحر هادئ، والناس نامت، ليس هناك على الشاطئ سواي، سألت لبلادنا أحلاما عالية وتطلع، وبساتين خضرة، وصحاري لها آفاق، وشبابا كالجواهر، وعلى الرغم من التهم الموجهة لهم بالوهن، إلا أنهم خامات ثمينة، وينهمر من منابعهم الجمال، وأينما تكتظ الحياة بالقسوة تزدحم سماواتهم ببوح الأرواح الناهظة، مشهدنا الشبابي باهر بكل شموسة، وله أعمال ثرية، له إخفاقات، لكنها في محيط ضيق، هم الإضاءات والرهان والمنجز القادم، لهم لمعان، ولغة، وملامح بهية، ومخيلةعالية، هم مثل رواية لها لغة صافية وشفافة، تذكرت أيضاً كيف كنا وكيف صرنا الآن، الأشياء عندنا تغيرت بسرعة البرق، صارت لنا منتزهات وحدائق وحقول ذرة وبساتين فاكهة، وطرقات وجسور معلقة في الهواء وجامعات كثيرة ومصحات وأنفاق، والبنايات الشاهقة انتشرت في كل مكان، مرت من حولي الكثير من الأحداث والصور، مر أصدقاء ومعارف وأوغاد، مرت غيوم كثيرة، ومطر غزير، مرت مدن وأحلام وكوابيس، مر العالم كله أمامي، مرت بي تلك الريح المحملة بالرمل والتي أقتلعت عمود الواسط ذات شتاء، مر بي زمن الرحيل المر، والقيظ والبرد والقحط، مرت بي سحابة قهقهة، قبل أن أوقظ أصحابي، كي نحث الخطى مغادرين بحر الدمام، حاضرنا الآن كل شيء فيه رائع وكامل كأنما فصَله خياط ماهر بإتقان تام.

ramadanalanezi@hotmail.com

ramadanjready @

مقالات أخرى للكاتب