Saturday 30/11/2013 Issue 15038 السبت 26 محرم 1435 العدد
30-11-2013

التناقُضاتُ الوجوديةُ والحُكْمِيَّةُ:

في العقل، وفي النفس (مشاعر القلب)، وفي الطبيعة (خارج النفس) أمور متعارضةٌ حمل الماركسيون تعارضَها على التناقض.. والتناقض يُحتِّم صراعاً يزول به أحد المتناقضين.. ومن أقطاب الماركسيين (موس كافين)، و(جي يبس)، و(جورج بولينزر) الذين بنوا فلسفتهم على دعوى تلك المتناقضات في كتابهم (أصول الفلسفة الماركسية).

وهكذا فعل زعيمهم (ستالين) في كتابه (المادية الجدلية والمادية التاريخية).. والمادية الجدلية تعني صراعَ (نَفْيِ النفي) المُستلْهَم من الهُيامِ الهِيجَلي.. ومثل هذا في كتاب (الكُرَّاسة الشيوعية) لزعيمهم الشرقي (ماوتسي تنج).. وبعض هذه الكتب تُرْجم قديماً، وأفرغتُ مكتبتي من رُكامها، ولم يبق إلا ما قَمَّشْته منها في كُنَّاشتي، ولم آسَ إلا على أسفار (لينين) عن الفن التي فَرَّطتُ فيها؛ لأنه عَسُرَ عليَّ فهمها، ثم طلبتها فتعذَّر عليَّ وجودُها.

قال أبو عبدالرحمن: في العقل أفكار متناقضة، وهكذا غرائز النفس، وهكذا مشاعر القلب، وهكذا أحوال الطبيعة الخارجية.. هي تناقضات وجودية لا حُكمية، وهي متناقضات غير مُـحالة؛ فليس من المحال أن أقول مُخْبِراً لا حاكماً: (في عقلي أفكار تحتمل أن هذا الذي أراه إنما هو جدولُ ماءٍ غزير مُنْسابٍ، وتحتمل أنه سرابٌ إذا جِئْتُهُ لم أجده شيئاً.. وفي نفسي غريزة تريد البطش والعُدْوان، وفي نفسي غرائز الحب والصبر والتسامح.. وفي قلبي مشاعر فرح وبهجة، وفيه مشاعر ترح وانقباض.. وفي الطبيعة رجال في شراسة السِّباع المتوحِّشة، وفيها رجال على صفة ديوثة الخنازير القذرة).. كلُّ هذه متناقضات بلا ريب، وكلها موجودة مُتَفرِّقة بلا ريب، وليست مُحالة ألبتَّة؛ لأنني لم أحكم باجتماعها أو ارتفاعها وليس عندي ثالث غير مرفوع؛ فقولي (في البشر الحياةُ والموت) وأنا أعني حقيقة معناهما لا مَجازه خبرٌ عن وجودين متناقضين غير مجتمعين؛ فذلك خبر صادق لا إحالة فيه، ولكن التناقض في الحُكْم الجَمْعي حينما تقول: (زيد الآن لا حيٌّ ولا مَيِّت) وأنت تريد حقيقة معناهما؛ فهذا محال لا يستطيع العقلُ تصوُّرَه، ومحال أن يكون موجوداً بهذا الجمع كما يستحيل أن تقول: (هذا الخنزير الآن ليس قذراً ولا طاهراً، وليس غيوراً ولا ديُّوثاً) إلا أن الغيور والديوث كانا في آن قصير لا يظهر به أحد الحالين؛ فالحاكِمُ بأحدهما بانٍ على علمه بطبيعة الخنازير، وغير العالم صامت عن الحُكم وهو يعلم أنه: إما كذا، وإما كذا.. كما يستحيل أن تقول: (هذا الرجل تجاه ذلك الرجل مَعْنيٌّ به وغير معنيٌّ به الآن، باطش به عدواناً وغير باطش به، وذو علاقة به ولا علاقة له به، وكل ذلك الآن!!).. والفارق بين وجود المتناقضات أنَّها غير مجتمعة وهي غير محالة، وأنَّ الحكمَ فيها بدعوى وجودها مجتمعة في الآن والزمان قائم على عدم (الثالث غير المرفوع)؛ وذلك مُحال؛ فإنْ نَفَى الأمرين مع وجود الثالث غير المرفوع كان ذلك غير مُحال.. وقد يكون غير المرفوع أكثر من واحد كاختلاف الآن والمكان، واختلاف دلالة اللفظ بِصْرفه عن حقيقته إلى مجازه كقول الخنساء عن أخيها: (لا حيٌّ فَيُرْجَى، ولا مَيِّتٌ فَيُبْكَى).. ومِنْ غير المرفوع اختلاف الهُويَّة والكيفية والإضافة.

قال أبو عبدالرحمن: وما أجْملَهُ الماركسيون تحت عنوان (التناقض) مختلف جداً بثنائيَّة الوجودي والحكمي التي أسلفتها.. والتناقض الحُكمي ليس على عمومه، بل هو أحد ثلاثة أحوال حُكْمِيَّة: الأول ما لا يمكن للعقل أن يتصور إثباته ونفيه في آن واحد؛ لتخلُّفِ ثالثٍ مرفوع؛ وذلك هو التناقض المُحال.. وكذلك ما لا يمكن للعقل أن يتصوَّره إثباتاً، وهو اجتماع الضِّدين؛ فهذا أيضاً تناقض محال.. والثاني أحوال حُكْمِيَّة يتصوَّر العقل إثباتها ولا يتصوَّر نفيها سواء أكان المنفيُّ متعيِّناً أو احتمالِياً؛ وذلك هو احتمال نفي أحد الضدين كقولك: (فلان راكع ساجد) وأنت تريد حقيقة اللفظ ووحدة الزمن، ولا تريد أنه يُمضي فراغه لعبادة ربه؛ فالثالث المرفوع موجود بأضداد كثيرة؛ فيمكن أن يكون نائماً غير راكع ولا ساجد تعييناً، ويمكن بالاحتمال أن يكون قائماً أو مضطجعاً أو راكضاً أو راكعاً.. والثالث أحوال حكمية تُسمَّى تعارضاً وليست تناقضاً ولا تضاداً، وهي تعارضٌ في الذهن لا في الواقع ينتفي بتوَقُّفِ مَنْ لم يعلم المتعيِّن من الأمرين، ويستيقن أن اجتماعهما محال.. ويرتفع عند مَن علم بالمتعيِّن كمن علم الناسخ من المنسوخ، فاستيقن أن النصين حقاً كل واحد له حُكْمه في زمنه.. ومنه ما يكون مُنجلياً عند فحول المجتهدين كالعلم بأن استخراج الخاص من العام يُبقي بقية العام على عمومه.. وهذا التعارض من أعظم ما يواجه المجتهدين في الجمع بين النصوص، ويرفع الله به درجات المتميزين بالفكر والعلم في استقصاء النصوص وتوثيق الثبوت والدلالة، وهو الركن الركين فيما ألَّفه العلماء عن أسباب الاختلاف.

قال أبوعبدالرحمن: والماركسي يريد فسادَ الأرض والحرث والنسل، وإصابةَ العقول بالخبال، وحجزَ القلوب في دائرة القلق؛ وذلك بالفلسفة الممروضة تعمُّداً لا المريضة واقعاً؛ إذ يحاول الماركسي بحيلته الخاسئة نَفْيَ الحقائق الثابتة من وجود المتناقضات غير مجتمعه.. وأمُّ المتناقضات عندهم القضاء على الطبقيَّة؛ ليكون الناس سواسية في الرزق؛ فهذه المحاولة أوَّلاً كاذبة في سلوكهم، فالحزب الشيوعي في منتهى الرفاهية؛ فرجل مثل (خروتشوف) مِن أكثر الناعمين بمباهج الحياة.. ولم يرتفع الفقر لسلوكهم الكاذب المبنيِّ على خلاف ما يعتقدونه من جحد الله سبحانه وتعالى؛ فإن استطاع العامل بجهده أن يشبع ويكتسي فذلك هو شِعار (يا عُمَّال العالم اتَّحدوا)، وإن لم يستطع فمنطقهم {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ} (47) سورة يس .. ومن هذا الضلال وُلدت فكرة (البقاء للأصلح أو الأقوى)؛ فلا حرج في قتل المريض المُزمِن في المستشفى؛ لأنه عبءٌ على المجتمع.. ولا حرج في ضرب المجانين أو نفيهم إلى البحر أو قتلهم؛ لأنه لا سعادة لهم إلا بذلك، ولا خلاص للمجتمع وحماية خزينة الدولة إلا بهذا.. وهكذا قتل مُشَوَّهي الحرب أو الحريق.. وبعد هذا كُلِّه فالماركسية والثقلان جميعاً غير قادرين على نفي التناقض الوجودي في سنة الله الكونية، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.. وأدنى نموذج أنهم عاجزون عن تسوية العقول والمهارات؛ ليكون العامل الخامل نديد العالِـم الماهر في موهبته.. والله جعل هذه السنة الكونية برهاناً جلياً في الآفاق والأنفس، وهو هداية من الله كونية تمنح العقل يقيناً، والقلب طمأنينة.. وأما صراع المتناقضات، ونفي النفي في دنيا الأحياء العاقلة فذلك حقٌّ مِعْياري يُمَيَّزُ به الحق والخير والجمال بالمعادلات في القُدرات التي قد تركن في حين إلى الرضا بأحلى الأمَرَّين.

تفجير اللغة:

قال أبوعبدالرحمن: تفجير اللغة خير وبركة للغة والأدب وإن كَرِه المُتَخثِّرون، ولقد باركها قديماً الفيلسوف أفلاطون في محاورة (ثياثيوس) عندما قال: “ليست الكلمة هي التي ينبغي أن تُقال، بل ينبغي التأمل في الموضوع الذي نسميه الكلمة “؛ فهذا هو دلالة المُـسمَّى الذي يمنح التعبير الأدبي ويُعْتِقُه من الجمود على النموذج الجالب المللَ، وهو غذاء فكري تتداعى به المعاني والأفكار والأخيلة..وفي عبارة أفلاطون إلماحٌ إلى الانتقال من معنى الكلمة إلى فكر الكلمة؛ فكلمة ككلمة (العدم) يعرف معناها العرفي اللغوي كل الناس؛ لأن معناها عادة لغوية، ولكنَّ فكرها مما لا يُحَقِّقُه إلا الطلائع.. وقال أفلاطون: “اللغة أضعف وسائل المعرفة، وأنها غير قادرة على التعبير”.

قال أبوعبدالرحمن: هذه كلمة فيها حَيْفٌ؛ لأن أجلى وجوه البيان بيان اللغة، ومن مجاز المُفردة اللغوية مما يتعلق بالمُسَّمى دلالةُ التضمُّن ودلالة اللزوم، ولكنَّ بركة تفجير اللغة من جهة دلالة المسمَّى توسعةٌ للتعبير الأدبي البلاغي المُركَّب بالإيحاء والتداعي، وليستْ عن فقرٍ في لغة العرب؛ لأن اللغة تفي بالتعبير بجملٍ كثيرة، ولكنَّ الإيحاء الأدبي يختصر الكلام، ويمنحه الإيجازَ والسموقَ الفنيَّ.. وأصالة المُفكِّر الغيور أن يكون يقظاً على التدليس الطائفي ملةً أو نحلةً أوشعوبيةً؛ بأن يجعل بركات تفجير اللغة مَطِيَّةً لاصطناع العبث باللغة كما يفعل أدونيس محتجاً بكلمة أفلاطون الأولى الجميلة مضيفاً إليها الكلمة الثانية؛ ليجعل من كلمة أفلاطون الأخيرة عن دعوى عجز اللغة سبيلاً إلى اختراع مدلولٍ للألفاظ من غير عرف سابق أو مُواضعةٍ ذات دلالة تصحيح؛ وذلك هو تحطيم الكيان، واجتثاث الجذور، وأما العبثيُّ المخدوع فلا نقول له: (حرام عليك أن تمشي على رأسك!!.. ولكننا نقول: افعل ولن تجد لسنة الله تبديلاً!!).

مِنْ هفوات الإمام حول النحو:

قال الإمام أبومحمد ابن حزم رحمه الله تعالى في سياق كلامه عن التربيةِ التعليميةِ: “ومعنى النحو هو معرفةٌ تَنْقل هجاء اللفظ، وتنقل حركاته.. والذي يدل على كل ذلك اختلاف المعاني: كرفع الفاعل، ونصب المفعول، وخفض المضاف، وجزم الأمر والنهي، وكالياء في التثنية والجمع في النصب والجر، وكالألف في رفع التثنية، والواو في رفع الجمع، وما أشبه ذلك؛ فإن جهل هذا العلم عَسُر عليه علم ما يقرأ من العلم.. واللغة هي ألفاظ يُعبَّر بها عن المعاني فيَقْتضِب من علم النحو كل ما يتصرف في مخاطبات الناس، وكتبهم المؤلفة، ويقتضِب من اللغة المستعمل الكثير التصرف.. وأقل ما يجزئ من النحو كتاب الواضح للزبيدي، أو ما نحا نحوه كالموجز لابن السراج، وما أشبه هذه الأوضاع الحقيقية.. وأما التعمق في علم النحو ففضول لا منفعة به، بل هو مشغلة عن الأوكد، ومَقْطَعةٌ دون الأوجب والأهم؛ وإنما هي تكاذيبُ؛ فما وجه الشغل بما هذه صفته؟.. وأمَّا المَـنفعة من هذا العلم فهي المخاطبة، وما للمرء حاجة إليه في قراءة الكتب المجموعة في العلوم فقط؛ فمن يزيد في هذا العلم إلى إحكام كتاب سيبويه فحسن.. إلا أن الاشتغال بغير هذا أولى وأفضل؛ لأنه لا منفعة للتزيُّد على المقدار الذي ذكرنا إلا لمن أراد أن يجعله معاشاً؛ فلهذا وجهٌ فاضل؛ لأنه باب من العلم على كل حال”.. مراتب العلوم ضمن رسائل ابن حزم 4/66-67.

قال أبوعبدالرحمن: كلَّا؛ بل التوسع في النحو أعظم الأركان في علم الدلالة؛ لمعرفة مراد المتكلِّم في الكلام المركَّب، وكم في تفاسير كلام الله، وفي شروح الأحاديث من أخطاء شنيعة صلعاء مخالفةٍ مُرادَ الله ودلالة كل كلام مركَّب فصيح؛ فبسبب الانخداع بالصناعة النحوية، والتخيُّر من احتمالات النحو ما هو عندهم أصح دلالة.. بينما فهم المُراد ليس وقفاً على (الأصح دلالة) في احتمالات النحو، بل يكفي أيُّ معنى صحيح دلَّ عليه برهان الرجحان من مراد المتكلِّم؛ لهذا ينبغي التوسُّع في النحو و اللغة بفكرٍ دقيق لمَّاح.. ولو أدرك أبومحمد موسوعات النحو التي أُلِّفت بعده كشرح الخلاصة للشاطبي لعلم عِظم فضل النحو.. ولا ريب أن المرادَ معرفةُ المقدار الضروري من كل فنٍّ، ولكنَّ المقدار الضروري من علم النحو لا حدَّ له؛ وإنما يجعل له حداً التوسُّع فيه؛ لتحرير الأسفار في فضوله، ووضع القواعد والنماذج الكافية لتفسير القرآن والحديث ونصوص الشعر والأمثال المخالفةِ المتعيِّنَ من مراد المتكلِّم.. والكتب التي ذكرها أبومحمد موجزة لا تمنح القارئ فقهاً نحوياً، وإلى لقاء، والله المستعان، وعليه الاتِّكال.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب