Friday 27/12/2013 Issue 15065 الجمعة 24 صفر 1435 العدد
27-12-2013

مات متجمداً على الرصيف...

مات متجمداً على الرصيف.. لم يكن مشهداً درامياً من فيلم.. أو لقطة سوداوية في رواية.. ولا حتى خيالات انهزامية لتعيس محطم.. إنها نهاية فنان تشكيلي روائي موسيقي مثقف.. مات متجمداً على الرصيف بعد أن ضاقت به الأرض بما رحبت فلا بلده مسقط رأسه اتسعت لفكره وإبداعه وقدمت له الدعم الذي يستحق, ولا حتى فرنسا بلد الفن أنصفته ولم يجد أرحب من رصيف شارع في القاهرة يموت فيه ملتحفاً بجليد الخيبة والخسران ومفترشاً ألم الحاجة ووجع العوز والتهميش له ولأصحاب الحس المرهف والعقول المبدعة فباتوا يموتون بلا مأوى على الأرصفة والطرقات في ذلة ومهانة...

الفنان التشكيلي والروائي والموسيقي السوداني محمد حسين بهنس مجموعة مواهب في شخص واحد, عرفه أصدقاؤه في الجامعة فنان ومبدع متعدد المواهب ومحب للجميع وكان يتنقل بحب بينهم يشارك هذا لوناً ويرسم مع هذا خطاً وتعددت أنشطته حيث أقام أول معرض له في الخرطوم عام 1999م، وشارك بتميز في ندوة لغة الألوان عام 2000م بألمانيا، وتلا ذلك بمعرض في الخرطوم وآخر في أديس بابا بأثيوبيا، كما أطلق في وطنه الكثير من الفعاليات المناهضة لانفصال الجنوب عبر منظومة أسسها وهي (سوداني يونيت) أقام من خلالها العديد من المعارض والرسومات في الشوارع اعتراضاً على فكرة الانفصال وتأييداً للوحدة, ولكن ذلك لم يستمر طويلاً فقد شُرد قسراً من بلده إلى فرنسا لعله يجد مساحة الحرية التي ينشد وبالفعل أقام هناك وقدم معرضا في مدينة تانت ودخلت أعماله قصر الإليزيه ولقيت القبول والإشادة وتزوج بفرنسا وكان له ولد.. ولكن لم يستمر له ذلك فقد اعتاد الفقد لما يحب فبعد فقده وطنه بالإبعاد فقد أخيه بوفاته ببريطانيا وأمه بالسودان في فترات متقاربة وتلا ذلك انفصاله عن زوجته الفرنسية الذي أفقده ابنه وإقامته في فرنسا وانتقل مجبراً للقاهرة وأقام فيها وقدم العديد من الرسوم الجرافيتية...وساءت حالته المادية ولم يعد يجد ملجأً له سوى رصيف الشارع وتوفي عليه بعد عامين من عيشه بالقاهرة...

توفي على رصيف كان له أوسع من الكون كله وفي أجواء باردة أبرد من إنسانيتنا التي تقف عاجزة وغير منصفة للمبدعين.. رحل بهنس صاحب رواية( راحيل) الذي قال عنها النقاد إنها تشي بمولد روائي سوداني بحجم طيب صالح...

مات ولم ينتهي مسلسل الفقد لطاقاتنا المبدعة.. مات ولم تنصفه المؤسسات الثقافية ولا الإعلامية ولم يكتب عنه إلا بعد وفاته وحتى هنا أخجل من تسجيل موقف متأخر بعد أن رحل ولكن هي هموم المبدع وآلامه نتقاسمها خارج حدود الخارطة فيما تبقى لدينا من إنسانية ونحلم بوضع أفضل لمبدعينا قبل أن تزدحم بهم أرصفة الفقد.

توريقة أخيرة:

مات متجمداً على الرصيف.. لم يكن بهنس بل ضمير العالم.

Fasilkh.er@gmail.com **** faisalkhudaidi@

مقالات أخرى للكاتب