Tuesday 14/01/2014 Issue 15083 الثلاثاء 13 ربيع الأول 1435 العدد
14-01-2014

مِنْ صَوْلةِ الإْنقَاذِ إلى صِرَاعِ التَّسلُّطِ..!

حين سقطت السلطات المرفوضة من قِبل الشعوب العربية لتسلطها، خلفت من بعدها سلطات، قد لا يعبّر بعضها عن إرادة الشعوب. ومن ثم تحول الصراع من أجل الإنقاذ إلى الصراع من أجل السلطة بصورها المكررة. وحين تنافست الكيانات عليها، نسلت من جحورها الحزبيات، وتعددت التكتلات

مما أتاح للمتربصين بالشعوب إتقان الحِيَل لخلق الأزمات، وفتح الملفات، وتشتيت الأمة، وتصديع وحدتها.

هذه المصائر المعقدة صَعَّدت الغليان، وقَرَّبت لحظة الانفجار، ومكّنت الطامعين من طرح [أجِنْدَتهم] ثمنا للدعم المتوازن بين كل المتنازعين، والتلوُّن لعبة مُعَتَّقة، يمتد معها أمد الفشل المهلك للحرث والنسل.

تلك الأوضاع المتفاقمة تُضَيق الخناق على كل المحتربين. وتحدو بهم إلى مزيد من القتل، والتشريد، والخنوع، والتسليم، واستبدال ثقافة العنف بالذي هو خير.

والشَّجِيُّون في ظل هذه الظروف العصيبة، تمر بهم لحظات مُسْوَدَّةٌ، يَغُور معها الأملُ، والرجاء، والتفاؤل. ويتعاظم اليأس، والقنوط، والتشاؤم. ثم تتمخض تلك اللحظات الحرجة عن تصورات، [كأنها رؤوس الشياطين]، تحار فيها الآراء، وتَسْوَدُّ الرؤية، وتستحكم حلقات المشكلات، وتنسد الطرق، إلا طريق السماء. وكم يكون للشدائد من أفضال، لأنها تُعَرِّف القانطين بالملاذ الأخير.

وراكبو البحر يدعون الله مخلصين له الدين. والوضع العربي قاب قوسين، أو أدنى من [الصَّوْملة] و[الأفغنة ].

وتَخَلِّي الغرب المتحكم بمصائر الأمور عن ثوابته السائدة، وعلاقاته التاريخية، يحدو بقراء الكفِّ السياسية، وبالمحللين للأحداث إلى استبدال آلياتهم، وتغيير مناهجهم، وترتيب أولويات اهتماماتهم. وليس من الأفضل للمستهدفين بتلك الرزايا مواجهة المتغيرات بمثلها، إذ ربما يكون [وراء الأكمة ما وراءها]، ولن يكون من مصلحة المفاجأ بهذا الحراك المريب الغريب أن يحسم أمره، ولا أن يصفي حساباته. فلربما يأتيه بالحلول من لم يُزّوِّد، ولربما يكون عامل الزمن من أقوى العوامل، في ظروف ضاعت فيها الحيل : [وربك يفعل ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة].

لم يكن التلون الحرباوي مفاجئاً في السياسة الغربية. وقديما قالت المرأة الحديدية: ليست هناك صداقات تدوم، وإنما هناك مصالح تتغير.

كما لم يكن الوضع [السوري] المعقد مفاجئاً، إذ لم تكن رهاناتي على شاكلة من يظنون أن ثورة الشعب ستعصف بالسلطة، ولقد أَثْبَتُّ ذلك في أكثر من مقال سَلَفَ، أشرت إلى عقبات [المحورية]، و[الطائفية]، و[الأطماع الصفوية].

كما أن الظاهرة [الإيرانية] لم تكن حدثاً آنياً، وإنما بدأ تشكلها، منذ أن احتفت السياسة الأوربية بزعيم الثورة الطائفية [آية الله الخميني] بوصفه لاجئاً سياسياً، ثم تمكينه من العودة، بعد نجاح الثورة بالسَّلامة، وهذا يعني القبول بقيام حكومة طائفية تحفظ التوازن المنشود.

كانت توقعاتي تقوم على رؤيتين أحلاهما مُرُّ : فإما أن يُمَزَّق العالم العربي للمرة الثانية، على شاكلة تمزيق [سايكس بيكو]، وهي محاولة قابلة للتحقق، لكنها لم تكن الخيار الوحيد، وقد تتم، أو يتم شطرٌ منها، إلى جانب الرؤية الثانية. وهي تقوية الطائفة الشيعية، بحيث تكون معادلاً لـ [السنة] في العالم العربي، وذلك بقيام حكومات طائفية في [العراق] و[سورية] و[لبنان] وشطرٍ من [اليمن] تابعة لـ [إيران]، إلى جانب أقليات قوية نافذة في دول الخليج، والعمل على مراوحة الموقف الغربي بين [السنة] و[الشيعة]، بحيث يظل الطرفان بحاجة إلى مساند خارجي، يفرض [أجندته]، ويملي إرادته، ويسعى جهده للإبقاء على الاحتقان والخوف، وتبادل الحروب: الباردة والساخنة. لتلهو دول المنطقة: [سنة] و[شيعة] عن كل مكرمة.

فـ[العراق] كما هو معلوم من السياسة بالضرورة، سُلِّمَ لإيران، وأصبح دولة شيعية، تتلقى أوامرها من المرشد الديني في [إيران].

كنت من قبل أتصور أن [أمريكا] تكيد لـ[إيران] بجر قدمها إلى حمام الدم في العراق، أملاً في استنزافها. وهذا تصور له ما يبرره، غير أن تجليات الأوضاع، أغرتني بتصورات أخرى، أشد ضرراً وضَراوةً على المشرق العربي. وهو التقسيم الطائفي، بدل التمزيق الإقليمي.

المؤكد أن الغرب لا يثق بـ [إيران]، ويعرف أن له [أجندة] لا تلتقي مع [أجندته]، لكنه أمام خيارات صعبة. فهو لا يريد القضاء عليه، بحيث يصفو الجو للعالم العربي، ثم لا يكون أمام العرب إلا العَدُوَّ التقليدي [إسرائيل]. وهو لا يريد لـ [إيران] الغلبة المطلقة، بحيث تصعب مواجهته يوماً ما.

والغرب الحائر في أمره أمام هذه المعادلات الصعبة، لن يكشف عن خارطته المرتقبة، حتى يُنْهِك جميع طرائده. والطرائد قابلة، ولهذا تستبق النهاية، على شاكلة: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ}.

وهو لكي يُبقي على توتر المنطقة، وإكمال مهماته، فإنه لا يفتأ يوزع ابتساماته على الجميع، ومهندسو العمليات الصعبة، ما يَحُطُّون من سفر إلا إلى سفر، متنقلين بين عواصم المختصمين، يطمئنون هذا، ويربتون على كتف ذاك، ويَعِدُون أولئك {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا }.

وتظل حروب الإبادة، والاستنزاف خارج الاهتمام. وستظل الأوضاع على ما هي عليه، حتى لا يبقى بين أيدي [الفرس] و[العرب] ما يؤبه به من معنويات، أو حِسِّيات.

المتوقع الذي لا نرجوه، مجيء النتائج مُجْحِفةً، تصبُّ كلُّها في صالح دول الاستكبار، وعظم الرَّقَبَةِ للمتردية والمَوْقُوذة والنطيحة، وهي آتية لا محالة، إلا أن يَسْبق لطف الله إلى هذه الأمة: {وَمَا تَشَآءُونَ إلا أن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.

ولما كانت إمكانات القراءِ للأوضاع، والمحللين للأحداث حسية، فإن الغيب عند الله: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.

والمفكرون حين يتوقعون، يكون توقعهم ناتج قراءة للأحداث البادية للعيان على السطح. وإذا كان للسياسة خباياها، وأسرارها، فإن لله قَدَرَهُ وقُدْرته على تصريف الأمور: [وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى]. ومع هذا فلا احتجاج لأحد بالقَدَرِ. وحين عَلِمَ الصحابة بحقيقته تساءلوا:

- إذاً لماذا العمل؟

فكان الجواب: اعملوا، فكلٌّ ميسّر لما خُلق له.

إن على الأمة المغلوبة أن تعمل، وإن تجاوزها الركب، وفاتتها الفرص. وأن تُحاول البحث عن قوارب النجاة، وإن عَلَتْ الأمواج وطغى الماء. وكيف لا تعمل؟ والمصائب تجتال الرسل، وأقوامهم: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ متى نصر الله}.

ويأتي الجواب الشافي: {الا ان نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ‏}.

لقد تعقدت الأوضاع في [سورية]، وأصبحت فيها عدة جبهات، يقتل بعضها بعضاً، وتتلقى أوامرها من خارج الساحة. وهذا الاستحكام سَيُبَطِّئ بالحلول.

وخلط الأوراق بهذا الشكل، يحول دون تحقق الرهانات. فالنتائج غامضة، ولا أحد يتوقع حلاً قريباً.

ولاسيما أن [تركيا] اللاعب الأقوى، شُغِلت بنفسها، وقُرِئَتْ أحداثها بطرائق شتى. لوسقنا طرفاً منها، لتفرقت بنا السبل. وقد نخص أحداثها بمقال، نقارب به شتيت القراءات الغرائبية.

و[مصر] التي تشكل العمق الخليجي، دخلت في نفق، قد يطول أمد مكثها فيه.

و[المغرب العربي] دوره حيادي، لأنه خارج البؤر المتوترة، ولديه ملفاته الساخنة، التي لم يحن فتحها بعد. وهو حين يبدي مواقف مؤثرة في أزمة المشرق العربي، يُلَوَّحُ له بهذه الملفات، فيرضى من الغنيمة بالإياب.

لا أريد بهذه التنبؤات التشاؤمية تضخيم [نظرية المؤامرة] ولكن [السيناريوهات] تضخمها.

إذاً فـ [قُبُّرةُ معمر] ذَهَبَ صَيَّادوها، ورُفِعَت فِخَاخُها، ومن ثم خلا لها الجو، كي تأخذ راحتها في البيض، والصفير، والتنقير.

والأمة العربية - وقد سقطت الأقنعة، وانهارت المبادئ - لابد لها من صياغة خطابٍ جديد، ينبثق من الأزمة، ليقضى عليها، أو يحاصرها، ويحول دون استفحالها. خطابٍ تتمكن الأمة به من توفير غطاء لتراجعها، وإعادة ترتيب صفوفها، وأوراقها.

الراهن العربي لا تنقصه الأنظمة على هذه الشاكلة البائسة، وإن كانت أم الأزمات فيه أزمةُ الحكَّام، لكنه في راهنه بحاجة إلى منقذين، يُعْمِلون مباضعهم في جسده المهترئ ، ثم يَمْضون، ليأتي من يعوله، ويرافقه في فترة النقاهة. الراهن العربي بحاجة إلى المكاشفة، والشفافية، ليعرف الرأي العام حجمه، وعجز قادته عن تبني القرارات السيادية، وحلِّ الأزمات الخانقة.

المصطرعون اليوم، إنما يصطرعون حول الزعامات المكررة بكل بشاعتها. فمثلهم كمثل العنكبوت التي اتخذت بيتاً من أوهن البيوت.

والأحزاب، والطوائف التي تَقْتَتِلُ على الكراسي، كالفراش المتهافت على اللهب. ومن أراد حفظ ماء الوجه، فعليه أن يسعى لإقالة العثرة، وتضميد الجراح، وجمع الكلمة، لا أن يظل الصراع حول غنيمة متردية.

ومن نفذ بجلده من الخريف العربي، فواجبه أن يغلق على نفسه الباب، فالزمن زمن الذهول، وخويصة النفس، والعض على جذع الشجرة.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب