Wednesday 15/01/2014 Issue 15084 الاربعاء 14 ربيع الأول 1435 العدد

الطيور البحرية في بحر الوطن (2-2)

ارتفعت حرارة الشمس على جزيرة النبقية وبدأنا نسمع تسارع أنفاسنا من الإعياء, اعتقدت للوهلة الأولى أن الإعياء قد يدخل الملل في نفوس طلابنا فلم يسبق أن عمل أحدهم في مثل هذه الأجواء، كما أن معظمهم قادمون من مدن مرتفعة عن سطح البحر أو مناطق جافة بعيدة عن رطوبة البحر، لكن نظرات التلهف لمعرفة المزيد ومشاهدة أنواع طيور بحرية أخرى جعلهم يسابقوننا لاكتشاف الجهة الجنوبية من الجزيرة الصغيرة والتي امتلأت بالطيور البحرية محلقةً فوقها وبأعداد كبيرة جداً معظمها من طيور الخرشنة المتوجة الصغيرة، عندها التفت للدكتور عبدالهادي وطلبت من الجميع الاستعداد وتجهيز الكاميرات لرؤية أجمل منظر يمكن أن تراه عيناك والتي تجسد أحد أهم الخصائص للطيور البحرية الحقيقية؛ فهي تعشش في تجمعات ومستعمرات قد يصل عدد الأعشاش فيها لأكثر من 5 آلاف زوج، وفي مساحة صغيرة، وعليه فإن التعامل معها يختلف عن سابقاتها اللاتي شاهدناها, تحرك الجميع باتجاه تلك الطيور وأصواتها تعلو وتعلو...وبدأ بعضها بالتحليق فوق رؤوسنا وإصدار أصوات مميزة وكأنها تقول لنا : خلونا في حالنا يا بني البشر.

ما إن ظهر منظر المستعمرة حتى بدأت عدساتنا ترصد مئات من طيور الخرشنة المتوجة الصغيرة قابعة على الأرض منها من يحضن بيضاً وأخرى تغذي صغيرها .. كان منظرها وهي متجمعة على الأرض تحضن بيضها كأنها سجادة متموجة باللون الأبيض والرمادي على الأرض الرملية ولون مناقيرها البرتقالي المحمرة كأنه ورود متناثرة تزين سطح السجادة، وما إن لمحتنا نقترب حتى طارت من الأرض لتعطي درساً في الطيران، فبالرغم من كثرتها وقربها من بعضها البعض فهي لا تلامس بعضها وترتفع في تناغم وتوازن وأصوات حركة أجنحتها السريعة تضفي للمنظر جمالاً والكل يتحرك بطريقة يراعي فيها الطائر الآخر.

طلبت من الجميع الهدوء والجلوس في أماكنهم دون حراك حتى تهدأ الطيور وتعود إلى أعشاشها، وبالفعل فماهي إلا لحظات حتى عادت الطيور خوفاً على بيضها وفراخها من أشعة الشمس الحارقة، عندها أشرت على الجميع أن ينظروا بالمنظار المقرب لهذه الطيور الجميلة، ليتعرفوا على أوصافها فهي تختلف حجماً ولوناً وسلوكاً عن سابقاتها من طيور الخرشنة، فمنقارها البرتقالي المحمر، واللون الأسود والمنقط باللون الأبيض على رؤوسها وكأنه تاج أسود مرصع باللؤلؤ يضفي للطائر جمالاً فسبحان الخالق.

بعد أن استمتع الجميع بهذا المنظر لدقائق تحدثت إليهم عن هذه الطيور وطريقة تعشيشها في مستعمرات متقاربة يصل عدد الأعشاش في المتر المربع فقط بين 8-13 عشا، ومن سلوكيات هذه الطيور أنها قبل التزاوج تتجمع بأعداد كبيرة على السواحل الرملية أو الجزر لتبدأ مراسم التزاوج، فتقوم الذكور بالرقص لجذب انتباه الإناث بعد أن تقوم بتقديم الغذاء للإناث، وما أن يحصل التراضي ويتم التلقيح لعدد من المرات تبدأ مجموعات بالانتقال للجزر لوضع البيض، وما هما إلا يومان أو ثلاثة حتى تكبر المستعمرة، وتضع الأنثى عادةً بيضة واحدة ونادراً ما تكون بيضتين, ويتعاون الزوجان على حضانة البيض. ويعرف عن هذه الطيور بأنها تهاجر بعد موسم التكاثر لبحار بعيدة، فقد تم تسجيل أحد الطيور التي حجلت بالخليج العربي بأحد الجزر الأندنيسية وأخرى بالجزر الهندية وذلك خلال أشهر الشتاء.

بعد أن تم تقدير الأعداد لهذه الطيور ابتعدنا سريعاً من المستعمرة ومشينا باتجاه القارب بمحاذاة الشاطئ الرملي للجزيرة حتى لا نزعج الطيور, كذلك حتى نبرد أرجلنا بماء البحر البارد بعد المسير داخل الجزيرة على الرمال الحارة، وما أن لاح القارب على الطرف الآخر من الجزيرة حتى صرخ أحد الطلاب سلحفاة ...سلحفاة ... يا شباب! كانت السلحفاة محصورة في المياه القريبة من الشاطئ وما هي إلا دقائق وأحطنا بها وعيون طلابنا تنظر إلى هذا المخلوق بشغف المعرفة من يكون هذا المخلوق وأعينهم شاخصة على ذلك المخلوق منتظرين اجابة تشبع رغبتهم بالمعرفة. اقتربت من السلحفاة وحملتها لإعادتها للمياه الأكثر عمقاً والجميع يسير حولي وقبل أن أطلق سراحها جاءهم صوت أخي أبو حسان وكأنه الماء البارد ينزل داخل الجسم في يوم حار... إنها السلحفاة الصقرية المنقار... وهي من السلاحف البحرية التي تعشش بالجزر الرملية في البحر الأحمر، وتأتي الإناث للجزر الرملية كل سنتين تقريباً لوضع البيض، حيث تضع الأنثى حوالي 80 بيضة في المرة الواحدة، وتتغذى هذه السلاحف البحرية على الاسفنجيات، وهذا ربما يفسر تواجدها بهذا المكان حيث ينتشر حيوان الإسفنج حول الجزيرة.

بعد أن أوصلناها لمنطقة أعمق, أطلقنا سراحها فتحركت بسرعة وكأنها وجدت ضالتها وأخذت تسبح ببراعة واستشعر الجميع فرحتها بعودتها لموطنها وحصولها على حريتها ولسان حالنا يقوم.. ما أجملك يا وطن؟

صعد الجميع القارب وأخذ كل منا مكانه متشوقين لتلك النسمات الباردة التي تداعب أجسادنا مع حركة القارب لتخفف عنا حرارة الجو المرتفعة والرطوبة العالية، تحرك القارب وكانت وجهتنا جزيرة ريخة - وما أدراك ما ريخة- فالوصول إلى هذه الجزيرة كان دائما بحد ذاته مجازفة، وكنا نحسب لزيارتها ألف حساب، وكان بعض من شاركونا في السابق يرفض الخروج بسبب صعوبة الوصول إليها فهي جزيرة مرجانية تحيطها شعاب وحيود مرجانية يصعب على الغريب على المنطقة الاقتراب منها.

وريخة جزيرة كبيرة ليست بعيدة عن مرسى الوجه حيث يمكن رؤية المدينة من على الجزيرة وتصل مساحتها حوالي 0.09كم2، وتأتي صعوبة الجزيرة في كيفية الاقتراب بالقارب من كثرة الشعاب المرجانية وتشققات الحيد المرجاني، فالقارب يقف بالقرب من حيد مرجاني وعلينا المشي فوق تلك الشعاب المرجانية والتي يسهل الانزلاق من فوقها, بالإضافة للأمواج المتسارعة التي تضرب القارب فيزيد من صعوبة النزول من القارب، ناهيك أننا وصلناها ظهراً وقد أخذ التعب منا ما أخذ في هذا الجو الحار، ورغم كل الكلمات التشجيعية والحماسية للشباب لرؤية أنواع جديدة على الجزيرة إلا أن البعض بدأ في التردد، فآثرت أن أشجعهم بأن أكون أول المتقدمين للخروج من القارب بالرغم من عدم إجادتي للسباحة، خرجت من القارب بصعوبة لسرعة الأمواج التي تحرك القارب دافعةً إياه للشعاب المرجانية وكان لكبتننا دور كبير في تثبيت القارب قفز للماء بعد رمي المرساة ووقف فوق الشعاب المرجانية ممسكاً بالقارب فخرجت من القارب وسرت متكئاً على عصا معي أستخدمها بالسير بالمناطق الجبلية أهداها لي صديقي منصور الرميح - يرحمه الله ويسكنه فسيح جناته ويجمعنا به في جنة الخلد..- آمين يا رب العالمين.

بدت المسافة من على القارب للجزيرة قصيرة وكأنها بضعة أمتار لكن المشي على تلك الشعاب المرجانية والفجوات العميقة بينها بالإضافة لزيادة الحمولة من كاميرا وعدسات وأدوات القياس وقوارير مياه الشرب وصناديق العينات ناهيك عن الخوف من السقوط بالماء بتلك الأغراض جعل المسافة تطول، وصلت لطرف الجزيرة ونظرت خلفي لأرى من تبعني فكان إبراهيم ومن خلفه علي وأحمد يحاولون الثبات فوق الشعاب المرجانية بالقرب من القارب، عندها أدرت ظهري وبدأت في السير على أطراف الجزيرة للوصول للمنطقة المنخفضة للدخول للجزيرة، وكان المشي حول المنطقة للدخول للجزيرة رحلة أخرى شاقة لكنها أسهل من المشي فوق الشعاب المرجانية.

وأخيرا، وصلت لمدخل الجزيرة وانتظرت الآخرين وما هي إلا لحظات حتى وصل إبراهيم فجلسنا ننتظر الباقين (علي وأحمد) لكن الوقت يمر ولم يصل أحد بعد، فتوقعنا أنهم رجعوا للقارب, ولم يخفف هذا من حماسنا أنا وابراهيم لنكمل مسح الجزيرة، فتوغلنا بالجزيرة لنجد طيور الأطيش البني مع فراخها تنتشر على امتداد الجزيرة تنظر الينا نحن الغرباء على مناطقهم. ويمتاز البالغ منها بلونة البني في معظم أجزاء جسمه ماعدا منطقة البطن فهي بيضاء حتى أن بعض علماء الطيور يطلقون عليه الأطيش ذو البطن البيضاء، وتعتبر السلالة (التحت نوع) الموجودة بالبحر الأحمر وخليج عدن من أكبر السلالات حجماً وأكثر قتامة، كما أن الأنثى أكبر من الذكر، وخلال موسم التكاثر يظهر في الذكور لون أزرق على قاعدة المنقار وبالقرب من العين، اما الفراخ الحديثة الفقس فتحمل ريشاً أبيض خفيفاً يعرف بالزغب يتغير مع نمو الفراخ، وتضع الأنثى عادةً أكثر من بيضة، لكن لا يبقى مع الأبوين إلا فرخ واحد، ففراخ هذه الطيور شرسة مع الفراخ الأخرى خاصة من يفقس الأول فهو من سيعيش بإذن الله حيث يقوم الفرخ الأكبر بنقر إخوانه الصغار ليتخلص منهم وليبقى هو منفرداً بغذاء وحنان والديه.

نظرت الى إبراهيم وقد تحول لون بشرته الشامية إلى سمرة محمرة والعرق الممزوج بماء البحر قد غطى وجهه وأطرافه وعلامات الخوف من أن تلفح الشمس وجهه، فزواجه بعد شهر وتغير لون البشر في هذا التوقيت غير مرغوب فيه، أخذ كل منا منظاره المقرب وارتقينا على منطقة مرتفعة لنتفقد الجزيرة وما بها، وما هي الا لحظات حتى جاءت طيور النورس الأسحم تحوم فوق رؤوسنا مصدرةً أصواتاً تحذيرية. وهذه الطيور من الطيور المتوطنة لمنطقة شمال غرب المحيط الهندي، وهذا يشمل بالطبع بحار الجزيرة العربية، وتمتاز بلون رأسها البني القاتم وكذلك منطقة الصدر وسماكة المنقار ذي اللون الأصفر مع لون أحمر في مقدمته، كما أن الأرجل صفراء زيتونية، وهذه الأصوات التي تصدرها يعني أن لديها بيضاً وفروخاً تعشش بالجزيرة.

انحدرنا إلى وادٍ صغير لنجد عدداً من أعشاش وفراخ للنورس الأسحم تحت الصخور والشجيرات، منها من فيه بيضتان وأخرى فيها ثلاث، ويتغذى النورس الأسحم على الأسماك الحية والميتة وبقايا الطعام بالنفايات ويعتبر هذا النوع من المفترسات الطبيعية على الطيور البحرية الأخرى فهو يتغذى على بيضها وفراخها حتى أنه يوقت فقس البيض مع تبييض الطيور البحرية ليتغذى على بيضها وصغاره، كما يعرف عنه سرقة الطعام من الطيور البحرية الأخرى، ومن سلوكياته الغذائية الأخرى سلوك غذائي يعرف بـ «كانوبلزم» وهو تغذي الطيور على بيض وفراخ من نفس نوعها، وقد سمي هذا السلوك بهذا الاسم نسبة لجزيرة تعرف بجزيرة كانيبل كان سكانها يأكلون الأسرى بعد الحروب.

مكثنا في الجزيرة تقريباً ساعة, قمنا خلالها بمسح وأخذ عينات من الطيور وعدنا بعدها لموقع الخروج الوحيد من الجزيرة، وكنا نتوقع وجود علي وأحمد بانتظارنا ومساعدتنا في حمل الأغراض والعينات ولكن لم نر أحداً مما يعني زيادة الجهد المبذول للوصول للقارب خاصة بعد المشي الطويل داخل الجزيرة تحت أشعة شمس الظهيرة، تقاسمنا الحمولة وتوكلنا على الله وبدأت رحلة العودة للقارب والحقيقة أن المشي للجزيرة ليس كالعودة للقارب، فبعد المجهود المبذول في الجزيرة تحت حرارة الشمس وانتهاء ما لدينا من ماء الشرب، أصبح الوصول للقارب يحتاج لجهد مضاعف، فأرجلنا يصعب عليها الوقوف على الشعاب المرجانية، والقفز بين شقوق الحيد المرجاني، لكننا توكلنا على الله وجمعنا كل ما لدينا من قوة، لنزحف رجلاً ونضع أخرى.. حتى وصلنا القارب وكانت بالفعل أسعد اللحظات في الذاكرة، لقد كان المشي على الشعاب المرجانية بالرغم من خطورته وتكراره إلا أنه ترك لنا ذكرى جميلة تشعرك بروح المغامرة والإصرار لتحقيق الهدف ونشوة الانتصار... فلك الحمد ربنا.

صعدنا القارب ووجدنا الكابتن محمد قد جهز كبسة السمك الطازج، وقد ساعده أحمد وعلي بعد أن عادا للقارب ولم يكملا معنا للجزيرة لسبب لم يذكراه لي بعد.. المهم بالنسبة لي أن الجميع بخير، أخذت مكاناً بالقارب أتلمس الظل ونسمات الهواء الباردة وشرب السوائل الباردة، وما هي إلا لحظات حتى تجمعنا على أرضية القارب لنحيط بصحن كبسة السمك وأمواج البحر تهز القارب ومن عليه؛ فمرة نرى الجزيرة خلفنا وأخرى أمامنا والجوع والتعب ينغز أجسادنا، كانت هذه الوجبة من أجمل الوجبات التي أكلتها في حياتي، فما أجمل أن تأكل بعد جوع وما ألذ أن تأكل طعاماً يحوي روح المكان وعبيره، الجميع صامتون لا تسمع إلا أصوات مضغ الطعام متناغمة مع صوت الأمواج التي تحرك القارب تشعرك بأجواء المكان والزمان.

ما إن انتهينا من غذائنا حتى شعر الجميع بنعشة وراحة صاحبتها نسمة بحرية جميلة تحفزنا للانتقال لمحطاتنا التالية وهي جزيرة شيخ مربط تلك الجزيرة المرجانية - الرملية والتي تصل مساحتها (0.09كم2)، وقبل أن يبحر بنا كابتن رحلتنا نظرت إلى علي فوجدته رابطاً يبده لفافة بيضاء عليها بقع من الدم، فسألته هذا ما أرجعكم للقارب؟...لم أنه كلامي حتى بدأت الضحكات وقال وهو مبتسم... إصابة ملاعب، فقلت له: لا يكون أحمد عمل الفاول، ضحك أحمد وقال.. والله الخوف من أسماك القرش..إلتفت الجميع لعلي وكلنا مندهش... أسماك القرش!...ويش السالفة؟ عندها تحدث علي يشرح الموقف الذي مر به وأحمد وقال قبل أن نصل لموقع الجزيرة شاهدنا جميعنا أسماك القرش بالقرب من الحيود المرجانية، ولما نزلت من القارب للتوجه للجزيرة انزلقت رجلي فوق الشعاب المرجانية الحادة وسقطت بل غطست في ماء وأصبت في يدي ورجلي ونزل دم كثيف منهما، وجاء أحمد لمساعدتي وسقط هو الآخر في الماء واستعدنا توازننا ووقفنا على أرجلنا على الشعاب المرجانية والدماء حولنا.. عندها تذكرنا أسماك القرش التي رأيناها قرب مرسى القارب، عندها لم أشعر إلا بصيحات أحمد بصوت يشوبه الخوف قائلاً: سمك القرش ينجذب نحو الدم، فنظر كل منا للآخر لمعرفة ردة فعل الآخر وما دريت إلا ونحن نقفز فوق الشعاب المرجانية كأننا خبراء في هذه الأماكن لنصل للقارب وألسنتنا تهمس.. يا روح ما بعدك روح... لم ينه علي كلامه حتى تداوت الضحكات على القارب، لم تتلاش إلا بعد تشغيل محركات القارب للإبحار إلى وجهتنا التالية... جزيرة شيخ مربط.

استغرق الوصول لجزيرة شيخ مربط أكثر من ساعتين قضيناهما في صمت فالأمواج القوية وصوت محركات القارب ربطتنا في أماكننا على القارب، حتى وصلنا لجزيرة شيخ مربط مع إشارة عقارب الساعة الخامسة عصراً، نزلنا في الجزيرة وبدأنا بأداء صلاتي الظهر والعصر جمعاً وقصرا، ومن ثم تحركنا داخل الجزيرة، وما هي إلا لحظات إلا وبدأنا نسمع ونرى الطيور وبنظرة بالمنظار المقرب شاهدنا ثلاثة مواقع للطيور المعششة، الأول جنوب الجزيرة وبها طيور الخرشنة المقنعة والخرشنة البيضاء الخد والخرشنة المتوجة الصغيرة، والثانية كان بوسط الجزيرة وبها طيور الحنكور؛ وهي من الطيور المتوطنة لمنطقة شمال المحيط الهندي، تتميز بلونها الأبيض والأسود، ولون مناقيرها السميكة وأرجلها الطويلة أسود، والجميل في هذا الطائر أنه الوحيد بالمنطقة الذي يعشش في جحور بالجزر الرملية يصل عمق الجحر إلى المترين، وتجذب هذه الطيور الكثير من السياح والمهتمين بمشاهدة ومراقبة الطيور، فأعشاشها تنحصر في الجزر الرملية بالبحر الأحمر والخليج العربي، ويعرف عنها أن الأنثى تضع بيضة واحدة حجمها أكبر مما يتوقع من طائر بمثل حجمه، ومن سلوكيات هذه الطيور حول المستعمرة وحمل بعضها الطعام بمناقيرها يشير أن لديها فراخ بالعش، لذا فقد طلبت من الجميع عدم الاقتراب أكثر حتى لا نهدم جحورها على رؤوس فراخها.

ومن الأنواع الأخرى التي سجلناها بوسط الجزيرة خرشنة ساندرز وخرشنة بحر قزوين وهما النوعان الوحيدان من طيور الخرشنة بالمملكة اللذان يعششان في فترة الربيع بخلاف المجموعات الأخرى من الخرشنات والتي تعشش في فترة الصيف.

وخرشنة ساندرز هي من الخرشنات الصغيرة المتوطنة والمعششة في المملكة، وكان يعتقد بالماضي أنهما والخرشنة الصغيرة التي تعشش بالمناطق القطبية الشمالية أنهما نوع واحد، لكن حسب التصنيف الجديد فقد تم فصلهما لنوعين مختلفين لأسباب ظاهرية منها أن البياض بالجبهة ولون الظهر الرمادي الفاتح وأطراف الريش الأولي بالجناح أكثر سواداً من الخرشنة الصغيرة والأرجل والأقدام تميل للون الأصفر زيتوني غامق، وقد سجل تعشيش هذه الطيور بالمملكة العربية السعودية واليمن والسودان، وكذلك على الجزر بخليج عدن، وتم تسجيل أعشاشها في شهر أبريل الماضي وكان لديها فروخ، وربما الطيور المشاهدة بالجزيرة هي لطيور بالغة يرافقها فراخ من هذا العام. وتتغذى هذه الطيور على الأسماك الصغيرة والقشريات والرخويات وكذلك الحشرات، وتضع الأنثى عادةً بيضتين تقريباً، وبالرغم من انحصار تعشيشها ببحار الجزيرة العربية خاصة البحر الأحمر إلا أنه لا توجد معلومات عن تكاثر هذه الطيور.

وتشير الدراسات إلى أن هذه الخرشنة هي من الأنواع المتوطنة لمنطقة البحر الأحمر وخليج عدن وشمال غرب المحيط الهندي وشرق سواحل أفريقيا وشمال غرب الساحل الهندي وهي تتعرض للمخاطر بسبب تعشيشها على السواحل والجزر القريبة من المدن بسبب جمع بيضها ومهاجمة الحيوانات المستأنسة لها كالقطط والفئران، والحقيقة أن هذه الطيور تحتاج إلى دراسة للتعرف على مواقع تعشيشها. وبخلاف خرشنة ساندرز فخرشنة بحر قزوين كبيرة الحجم وذات مناقير حمراء سميكة، وقد سجلنا أعشاشها وبها بيض وفراخ في شهر إبريل الماضي في هذه الجزيرة، وهي من الأنواع التي تعشش في مستعمرات صغيرة على الجزر الرملية والصخرية، ويعرف عنها أن هناك مجموعات تقضي الشتاء بالبحر الأحمر وخليج عدن، وتضع الأنثى بين 3-2 بيضات، ويعرف أنها خلال حضانة البيض ورعاية الصغار تكون عنيفة للدفاع عن منطقة تعشيشها. أما بالنسبة للجهة الشمالية من الجزيرة ففيها أعداد كبيرة من طيور الخرشنة بيضاء الخد فقط.

ما إن انتهينا من مشاهدة الطيور بالجزيرة حتى بدأ الكابتن محمد يلوح بيده لنرجع للقارب، فأمامنا مسافة طويلة ونحتاج لما تبقى من ضوء النهار لرحلة العودة، ركبنا القارب وأخذ كل منا مكانه، وما هي إلا لحظات وتسارعت حركة القارب، وقرص الشمس يقترب من النزول في الأفق والكل ينظر أمامه هائما يمزج أحداث اليوم بمنظر البحر، تغمض عيوننا تارة ونفتحها تارة لأكثر من ساعة ونصف تقريباً حتى اقتربنا من مرسى القوارب بمدينة الوجه، كانت الشمس قد غربت وضوء الشفق الأحمر في السماء يعطي جمالاً لتلك البيوت القديمة على أرض مدينة الوجه ليشعرك بتاريخ ذلك المكان.

توقف القارب بالمرسى وبدأنا نجمع أغراضنا من القارب، ونحن نحمد الله على سلامة الجميع للوصول بسلام، خرجنا من القارب وإستقللنا السيارة وحالُنَا يجمع بين السعادة بما تم تحقيقه والتعب والارهاق جراء المجهود الذي بذل هذا اليوم، لقد كانت أصوات الشباب وابتسامتهم وما هم عليه من رضا من خوضهم لهذه التجربة والتي كان لها أثر في صقل خبرتهم ومواهبهم، وقد علمت أن عبدالله فاز بجوائز تصوير بصور شارك بها من هذه الرحلة، وعلي القرش (الكنية الجديدة والتي أطلقها عليه زملاؤه بالرحلة) بدأ في دراسة الماجستير في برنامج خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله، أما إبراهيم وأحمد فأكملا مسيرتهما مع جامعة الملك سعود في الدراسات العليا، وذكرى هذه الرحلة تتردد كلما اجتمعنا. والحقيقة أن هذ الرحلة عرفتني على قدرة وإرادة شبابنا وإمكاناتهم في تحقيق المستحيل، لكنهم بحاجة لمن يرشدهم ويدلهم على طريق المعرفة، فمرافقة الطالب لأستاذه في رحلاته العلمية مهمة جداً لينقل خبراته، وهذا ما كان يفعله آباؤنا قديما؛ فالأولاد يلاحقون أباءهم ويتعلمون منهم وممن يجالسهم، كما أن طلاب العلم أيام الكتاتيب يجالسون أساتذتهم لينهلوا من العلوم الدينية والدنيوية.

لقد جعلتني هذه التجربة أبدأ في التخطيط لخوض تجارب أخرى خلال السنوات القادمة مع أبنائي وطلابي للتمتع بجمال الوطن مع أبناء الوطن، كما أعطتني أحساساً أن الطيور البحرية في بلادنا... طيور ليست ككل الطيور.

د. محمد بن يسلم شبراق - وكيل عمادة البحث العلمي بجامعة الطائ