Saturday 18/01/2014 Issue 15087 السبت 17 ربيع الأول 1435 العدد
18-01-2014

أَدْلِجْ أيها الساري بعد (فتحِ الباري)

قال أبو عبد الرحمن: طلبة العلم في هذا العصر حَسَبَ الأغلب إذا حزبتهم الأمور، وضاق عليهم وقت التحقيق : ركنوا إلى فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى؛ فقد استعير لموسوعته المُستوعِبة دلالةٌ من نصٍّ شرعي، وهو (لا هجرة بعد الفتح).. أي فتحِ مكة المكرمة؛

فاستعاروها لكتاب فتح الباري، وأنعم به وأكرم من كتاب بلغ في الاستيعاب ما لا يكاد المتأمِّلُ يجدُ له مثيلاً في جُهد الفرد، ولا يكاد يبلغُه إلا جهودُ عددٍ من العلماء؛ وجعلوا تكاسُلَهم عن البحث مُعَوَّضاً عنه بجهود ابن حجر لا غير.. وهذا من جُهْد ابن حجر يُفْرح به ولا يُكتفى به لثلاثة أمور:

أولها أن أكثر استيعابه إما إحالةٌ، وإما باختصار واقتضاب.. وثانيها أن الاستيعاب لا يعني صوابَ الاستنباط وإصابةَ المراد، بل لابدَّ من استنطاقِ أقلامِ الفحول مِن العلماء مِن أمثاله رحمه الله.. وثالثها أنه يوجد علماء عندهم زيادة استيعاب قد لا يُوجدْ فيما استقرأه ابن حجر.. يوجد هذا عند أمثال ابن رجب وَمُغلطاي، وفي طليعتهم ابن المُلَقِّن الذي أراح بمصادره استيعابَ ابن حجرٍ؛ ولهذا أُذكِّر وأوصي في هذه المناسبة بكتابه الفحل (التوضيح لشرح الجامع الصحيح)، والمؤلف شيخ ابن حجر هو أبو حفص عمر بن علي ابن المُلّقِّن المُتَوَفَّى قبل ابن حجر بثمانية وأربعين عاماً رحمهم الله تعالى، ولم يحفل ابن حجر بالنقل عنه مع أن اهتداءه بمصادره - إن كان رجع إليها كلِّها مباشرة - واضح جداً بالمُقارنة بين الكتابين؛ فما أعجب توضيح ابن المُلَقِّن؟!.. إن عنده من اليقظة الفكرية، والإشارة العلمية ما يرد بأوجز عبارة، وقد قال ابن حجر عن شيخه - كما في المجمع المؤسِّس 2/318 - : «العراقي، والبلقيني، وابن الملقن كانوا أعجوبةَ هذا العصر على رأس القرن: الأول في معرفة الحديث وفنونه، والثاني في التوسع في معرفة مذهب الشافعي، والثالث في كثرة التصانيف».. قال أبو عبد الرحمن: كَلَّا ما أنصفه؛ فابن المُـلَقِّن فوقهم في الأمور الثلاثة، ولا ميزة كَمِّياً في كثرة التصنيف؛ فما أكثر تصنيفات السيوطي!!.. وقال أيضاً - كما في ذيل الدرر الكامنة ص 122 - : «اشتهر اسمه، وطار صيته، ورغب الناس في تصانيفه؛ لكثرة فوائدها وبسطها وجودة ترتيبها».

قال أبو عبد الرحمن: ومع ثناء ابن حجر على شيخه ابن المُلَقِّن وَجَدتُ عند ابن حجر نفسه ظاهرتين لا تليقان بسمعته العلمية : أولاهما أنه في كتابه (فتح الباري) عالةٌ على كتاب شيخه ابن المُلَقِّن (التوضيح بشرح الجامع الصحيح) سلخ منه أكثر نقوله عن المصادر - وهو ذو مكتبة حافلة - ، كما اعتمد على مَرْوِيِّه ومكتبته، ومع هذا لم يُشر إليه بكلمة واحدة في فتح الباري.. وقد ألَّف الشيخ أبو عبيدة مشهور بن حسن، وزميله أبو حذيفة رائد بن صبري معجماً عن المصنفات الواردة في فتح الباري، وقد بلغت (1430) ما بين كتاب ورسالة، كما أنني لم أجد في فهرس الأعلام من كتابهما أي إشارة إلى ابن المُلَقِّن، الذي يقارن بين فتح الباري والتوضيح يجد العجب العجاب من أخذه مصادر شيخه في شرحه الأحاديث دون إشارة إليه؛ ففي هذه رذيلة الإهمال لِشُكْرِ العلم كما ذكر ذلك القاضي عياض في الإلماع، وفيه رذيلةُ عقوقِه شيخَه، ومع أنه في هدي الساري 2/1269 - 1276 لخَّص مناسبة الترتيب لأبواب صحيح البخاري، وختم بقوله : « أبدى فيه لطائفَ وعجائب».. يعني شيخه ابن المُلَقِّن، ولم يحل إلى مصدر هذا النص، ولم يُشِرْ في فتح الباري بكلمة واحدة إلى التوضيح لشيخه؛ وما هذا إلا الإخفاءُ لإفادته من مصادر شيخه الثرية.. ولا يُعْفي ابن حجر من مسؤولية شكران العلم أن يَدَّعيَ مُدَّعٍ أنَّ ابن حجر قد يكون رجع إلى تلك المصادر مباشرة؛ فالرجوع إليها شيء، والهداية إليها شيء آخر.. وهكذا رأيت في الكتب والجرائد، وسمعتُ في الإذاعة استلابَ ما حكَّه فكري، ومَوْسَقَه بياني بسلخٍ يَبْعُد عن أسلوبي قليلاً، وبسلخِ مصادري، والرجوع إليها حسب إحالاتي ولا سيما من كتابي (ابن حزم خلال ألف عام)، وقد أخبرني الأستاذ عدنان بن عيسى العِمادي أن أحد علماء المغرب الفضلاء ألفَّ كتاباً عن السرقات من ابن عقيل.. لقد ألَّف ابن حجر (انتقاص الاعتراض) رَدّاً على العيني، متألِّماً من سرقة العيني كتابه (عمدة القاري) من (فتح الباري)، ومن ضمن هذا الأخذ أن العيني رجع إلى مصادر ابن حجر مباشرة، ولم ينسب إليه الهداية إلى شواردها، ثم زاد ذلك سوءاً أَخْذُه عبارات ابن حجر بتحوير.. ولو كان ابن المُلَقِّن حياً لتألَّـم من تلميذه ابن حجر.. إلا أن ابن حجر بدأ تأليف (فتح الباري) بعد وفاة شيخه بتسع سنوات.. والظاهرة الثانية أن ابن حجر لم يكتف بإهمالِه كتابَ شيخه، بل أثنى عليه قليلاً، وجعل الثناء الؤقَّتَ وسيلة إلى التهوين من شأن ابن المُلَقِّن وشأن كتابه؛ فذكر في المجمع المؤسس 2/315 أن شرح شيخه للبخاري عالة على شيخه قطب الدين الحلبي ومُغلطاي مع زيادة قليلة؛ فما باله لم يُفصِّل هذه الدعوى العارية من الإنصاف خلال فتح الباري؟.. ثم كيف يكون عمدتُه كتاب (التلويح في شرح الجامع الصحيح) لمُغْلُطاي وهو قاصر على تتميم الأطراف والعناية بالتصحيح والتصحيف، وقد تعقب ابن الملقِّن مغلطاي كثيراً، والمادة التي اِهْتَمَّ بها ابن الملقِّن أعمُّ من الجزئية التي اهتمَّ بها مغلطاي.. وكيف تكون عمدته شرح القطب الحلبي وهو لم يُتِمَّ النصف الأول من شرحه ثم نجد العجب العُجاب عند ابن الملقِّن في آخر كتابه الذي لم يصل الحلبي إلى شرحه.. وبعد هذا فابن المُلَقِّن دقيق في العَزْو إلى العلماء، وقد ذكر مصادره إجمالاً كما في 33/597 - 602، وما كان مستعجلاً؛ فقد ألَّفه فيما بين آخر ذي الحجة 763هـ و23/1/785هـ، وحصل له انشغال بغيره في مدة لم يذكر تحديدها، ولكنه واصل العمل منذ عام 872هـ، ثم نجد مصادره بالتفصيل تقرب من أربعة آلاف مصدر كما في فهرسة الكتاب 36/128 - 309.. وزاد ابن حجر رحمهم الله جميعاً سوءاً؛ إذ قال في المجمع المؤسس 2/315 عن شرح شيخه: «وهو في أوائله أَقْعَدُ منه في أواخره، بل هو في نصفه الثاني قليل الجدوى».

قال أبو عبد الرحمن: هذه فِريةٌ عُظْمَى؛ فعلى الرُّغم من أن من ألَّف موسوعة يضعف في آخرها: إما لملل، وإما لفراغه من تحقيق شيئ استجدَّ تكرُّره.. إلا أن ابن المُلَقِّن حَلَّق في أول الكتاب وآخره، وابن حجر في أول كتابه وآخره عالةٌ على هِداية شيخه إلى المصادر الكثيرة، وحسبك أن تطَّلِع على التوضيح 30 /124 وتعليق ناسخ كتابه تلميذه سبط ابن العجمي في الحاشية، ثم قارن بالمجلد 28.. وكل جملة لابن حجر موجزة من الثناء يُتْبِعها بكثير من الهمز واللمز، والتُّهم الباطلة.. وقدحُه مناقضٌ ثناءه؛ فأين هو من قوله السالف ذكره عن مؤلفات شيخه: «لكثرة فوائد، وبسطها، وجودة ترتيبها»؟.. أفهذا يليق بتهمِ ابن حجر لشيخه بأنه غير متقن ولا مُجَوِّد، وأن أكثر كتبه سرقة؟.. بل السرقة عند الحافظ ابن حجر الذي سلخ كثيراً من فوائد شيخه من مصادر شيخه نفسه بالحرف الواحد.. وحسبي ههنا أن ابن المُلَقِّن ذو ميزات تفرَّد بها؛ فهو أولاً مُعَمَّر صرف كلَّ وقته للعلم، وهو ثانياً عُني بالعلم في صغره وجَرَّدَه لعلوم الديانة، وهو ثالثاً ذو يسار لم تشغله لقمة العيش، بل كان يُعين الطلبة على شراء الكتب.. وهو رابعاً ذو مكتبة ثرية جداً لم يُعْهَدْ مثلها للعلماء الأفراد.. وأما كتب الوجهاء الغزيرة وليسوا متفرَّغين للعلم فليس من هذا الباب.. وهو خامساً لا يعاني معاناة المُقمَِّشين من دور الورَّاقين كابن النديم والزركشي، ثم يتفرغون لدراستها، بل الوِراقة في بيته وفي مكتبته.. وهو سادساً سريع الاستيعاب، وقد بدأ باختصار كثير من الكتب من أجل استيعابها، ثم تدرج إلى تحقيقها وتقويمها، ثم أَلَّف الموسوعات التي تبهر العقل.. ولم يكن جهده كجهد الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى الذي أفرغ في كتابه (الخصال) محتوى عشرات من مُقتنياتِه؛ لتكون منطلق خطواته في التأليف، بل كان ابن المُلَقِّن يستوعب بالتقميش كل فوائد مكتبته الثرية، ويوظِّفها في التأليف بتفرُّغ فكري، وكان فَطِناً لَـمَّاحاً لا يُعاب إلا بانغماسه في كِهانات التصوف، وهو في دقة استنباطه يكاد يقرب من ألْـمَعِيَّة ابن دقيق العيد رحم الله جميعهم؛ فمئات الكتب التي أَلَّفها انتهتْ إلى نُضجٍ علمي فكري في موسوعاته كشرحه صحيح البخاري.. كيف لا وهو صاحب (جمع الجوامع) الذي بلغ مائة مجلَّد يرجع إليه في تأليف الموسوعات؛ فلله دَرُّ هذا الإمام؛ فما أصبره على التقصِّي من غير إجمالٍ ولا اقتضاب، وما أروع يقاته الفكرية؟!.. إنه أعجوبة من أعاجيب الزمان في كثرة التأليف الموسوعي، وجلده وصبره المرير على الاستيعاب، وعنايته بجمع الكتب؛ ولهذا أصيب بالذهول ومات رحمه الله حزيناً لما احترقتْ مكتبته وفيها كتابه الضخم جمعُ الجوامع؛ ولهذا قال ابن حجر - على الرُّغم من جحدِه شيخَه - يُعَزِّيه في كتابه (ذيل الدرر الكامنة) ص122:

لا يُزْعِجنَّكَ يا سراج الدين أن

لعبتْ بِكُتْبِكَ أَلْسُنُ النيرانِ

للهِ قد قَرَّبْتَها فَتُقُبِّلَتْ

والنارُ مُسْرِعة إلى القربان

يعني بتقريبها أنه جعلها وقفاً، وفي الشطر الأخير اقتبس من سورة المائدة من قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (27 سورة المائدة)؛ فالذي تقبَّل الله منه هو الذي أكلت النارُ قُربانَه، وَقَدْ سَهَا محقِّق كتاب ابن المُلَقِّن (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام 1/33)؛ فعزا هذا الشعر إلى ولَده.. وكرَّر ابن حجر هذا المعنى بقوله : وقلت في ذلك أيضاً:

ألا يا سراجَ الدين لا تأسَ إن غَنَتْ

بكُتْبِكَ نارٌ ما لِمَعْرورها عَارُ

لِربِّك قَدْ قَرَّبْتَها فَتُقُبِّلَتْ

كَذَلكُمُ القُرْبانُ تأكُلُه النارُ

وفي تُهم ابن حجر التي قالها في حـق شيخه أو نقلها جزافاً عن غيره : أنه غير مُتْقن في بعض ما ألَّفه، وأنه يُسأل عن مسائل فيما ألَّفه فلا يوجد عنده جواب!!.

قال أبو عبد الرحمن : الدعوى الأولى هل تُقْبل بغير ذكر أمثلة ؟.. والدعوى الثانية أنه من السَّفه ونقص العقل أن يتفرغ عالم لحفظ موسوعة ألَّفها ويُضيِّع الوقت في ذلك، بل هو مُلِمٌّ بالمسائل وأحكامها واختلاف العلماء إجمالاً؛ فإذا أُرِيد منه الاستيعاب أحال إلى كتابه.. وابن المُلَقِّن عالم إمامٌ مُحَسَّدٌ امتُحِن في آخر عمره بدعوى كاذبة، ثم احترقت كتبه؛ فأصيب بالذهول؛ فإن صح بعضُ الزعم أنه لا يستحضر الجواب على السؤال فهذا في آخر عمره بعد امتحانه وقُبيل احتراق مكتبته، وأما بعد الاحتراق فقد حجبه ابنه عن الناس.. وإلى لقاء آخر، والله المستعان، وعليه الاتكال.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب