Thursday 06/02/2014 Issue 15106 الخميس 06 ربيع الثاني 1435 العدد
06-02-2014

قراءة تحليلية للأمر الملكي!

أمر في غاية الخطورة، ما حذّر منه الأمر الملكي، والذي نصّ على فرض عقوبات بحق من يقاتل في الخارج، أو ينتمي لتيارات متطرفة دينية، أو فكرية، أو مصنفة إرهابية داخلياً، أو إقليمياً، أو دولياً، أو يدعمها، أو يروج لها، ما يستدعي تحليلا، وتحديدا لأهم الأسباب التي أدت إلى تلك الاستمرارية في الخروج إلى مناطق القتال، فكان من نتائجه المريرة: إزهاق الأرواح، وأسر الشباب في أيدي جهات عديدة، رمت بهم إلى مهالك دينية، ودنيوية، والزج بهم في غياهب السجون.

إن قراءة جملة المصالح، والمفاسد المترتبة على هكذا قضايا، تعود إلى الأمة - كلها -، ولا تختص بمن يباشر الجهاد - فقط -. بل إن الأعمال الاجتهادية الفردية، يترتب عليها من الانفلات، وعدم القدرة على ضبط الأمور، ما لا يترتب على الأعمال الاجتهادية، والتي يختص بها ولي الأمر، ومن معه من أهل الحل، والعقد، فيكون الفعل في الشرع من ناحية التكييف الفقهي محظورا، مراعاة لجلب المصالح للأمة، ودفع المفاسد - كلها -.

ولأن الأوراق اختلطت في هكذا قضايا، وانتشرت كثير من الفتاوى غير المؤصلة تأصيلا شرعيا؛ لجعل هؤلاء الشباب أدوات في أيد مجهولة، وحطب لمحرقة حرب مجهولة العواقب، ودون تقدير لمآلاتها، ونتائجها، بعد أن اختطفوا مفهوم الجهاد؛ ليحولوه إلى مشروع دموي، فإن - ما سبق - يجعلنا نؤكد على أن ملف الجهاد، لا بد أن يكون بيد ولاة الأمر، والعلماء - الراسخين في العلم -، وبعيدا عن أولئك المحرضين، الداعين إلى الجهاد في دول تشهد حروبا طاحنة، واضطرابات ساخنة؛ حفاظا على بقاء المجتمعات، واستقرارها؛ وليأتي الأمر الملكي بموقف حازم تجاه ذهاب الشباب إلى أماكن الجهاد، - وخصوصا - تجاه من يغرر بهم في محرقة الحرب السورية، فيمثل وقفة تاريخية تحسب لمصلحة المسلمين، وتعمل على تجنيبهم الكوارث اللا محسوبة.

لم يكن تأكيد الأمر الملكي، سوى قراءة صحيحة لامتداد تأثير الصراع الدائر في المنطقة، والذي أصبح يمثل تهديدا واضحا لدولها. وما لم يتم احتواء هذه التأثيرات، والسيطرة عليها، فستلتبس النصوص الشرعية بواقعات السياسة. ذلك أن المصالح المطلوب تحصيلها، قد تكتنفها مفسدة، أو عدة مفاسد، أو أن المفاسد المطلوب دفعها، تكون مختلطة بمصلحة، أو عدة مصالح. ولن يتحقق الفقه في هذا الباب إلا بإدراك الدلائل الشرعية، والقرائن الخفية، - سواء - عند الإقدام، أو الإحجام. إذ قد يكون الأمر في ظاهره الصلاح، ومآله غير ذلك، - ومثله - إذا كان الأمر في ظاهره الفساد، ومآله غير ذلك.

إن القدرة الممنوحة شرعا لولي الأمر، ستمكنه من القيام بالحفاظ على الدين، ورعاية مصالح العباد وفق مقصود الشارع، ومبادئه، وقواعده. ويتفرع عن هذين الواجبين الكثير من الواجبات الفرعية، وهو ما يمليه مصطلح « السياسة الشرعية «، والتي تُعنى بتحصيل المصالح، وتكميلها، وتقليل المفاسد، ودرئها، وتعطيلها.

وتأسيسا على ما سبق، فإن المسائل العظيمة التي تحل بالأمة، ومنها « الجهاد «، لا تُعرف إلا بالشرع، ويكون القول الفصل فيها لأولي الأمر، وليس لكل أحد. فالجهاد المشروع لا يكون إلا بإذن ولي الأمر، فهو من ينظم الجهاد، ويعد له عدته، وهذا هو مقتضى العلم، والعقل، والحكمة. وتأمل على سبيل المثال، رسالة - المشايخ - عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحسن بن حسين، وسعد بن حمد بن عتيق، ومحمد بن عبد اللطيف، وفيها: « إلى جناب عالي الجناب، الإمام المفخم، والرئيس المكرم، عبد العزيز ابن الإمام عبد الرحمن آل فيصل.. ورأينا أمرا يوجب الخلل على أهل الإسلام، ودخول التفرق في دولتهم، وهو الاستبداد من دون إمامهم، بزعمهم أنه بنية الجهاد، ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد، ومصالحة العدو، وبذل الذمة للعامة، وإقامة الحدود، أنها مختصة بالإمام، ومتعلقة به، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك إلا بولايته؛ وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، فأخبر بشروطه، بقوله صلى الله عليه وسلم: « من أنفق الكريمة، وأطاع الإمام، وياسر الشريك، فهو المجاهد في سبيل الله «، والذي يعقد له راية، ويمضي في أمر من دون إذن الإمام، ونيابته، فلا هو من أهل الجهاد في سبيل الله « الدرر السنية (9 / 95).

وقد ظهر - مع الأسف -، من أفتى في مسائل الجهاد، فاعتركت في المختلف فيه، وصمتت عن تضييع المتفق عليه؛ ليزجوا بشبابنا في فتن مدلهمة، - لاسيما - وأن مناطق الصراع مضطربة، والأحوال ملتبسة، فحرضوا شبابنا على الزج بأنفسهم في أتون صراعات ملتهبة، - وهم مع هذا - ينسون أنفسهم، ولا يرسلون أبناءهم، دون الالتفات إلى الشروط، والضوابط التي رسمتها نصوص الشريعة، ففارقوا جماعة المسلمين بمصاحبة الغوغاء، ومجاراة أهل الأهواء تحت ذرائع وهمية، ومتناقضة مع الواقع، والمنطق، والعقل، فكان من نتاج ذلك، أن حدث خلل كبير في الخروج إلى تلك الأماكن بما لا يحمد عقباه. مع أنه من القواعد المهمة في فقه الجهاد: لزوم غرز العلماء، وهذا من فقه مقاصد الشريعة، - سواء - فيما يتعلق باستنباطهم الأحكام من النصوص الشرعية، أو ما يتعلق بإيضاحهم للشرع. وهذا المنحى، هو الموافق لما قاله - العلامة - محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - في « الشرح الممتع - (8 / 25)، بأنه: « لا يجوز غزو الجيش إلا بإذن الإمام مهما كان الأمر؛ لأن المخاطب بالغزو، والجهاد هم ولاة الأمور، وليس أفراد الناس، فأفراد الناس تبع لأهل الحل، والعقد، فلا يجوز لأحد أن يغزو دون إذن الإمام إلا على سبيل الدفع، وإذا فاجأهم عدو يخافون كلبه، فحينئذ لهم أن يدفعوا عن أنفسهم؛ لتعين القتال إذن. وإنما لم يجز ذلك؛ لأن الأمر منوط بالإمام؛ فالغزو بلا إذنه افتيات، وتعد على حدوده؛ ولأنه لو جاز للناس أن يغزوا بدون إذن الإمام؛ لأصبحت المسألة فوضى، كل من شاء ركب فرسه، وغزا، ولأنه لو مكن الناس من ذلك؛ لحصلت مفاسد عظيمة، فقد تتجهز طائفة من الناس على أنهم يريدون العدو، وهم يريدون الخروج على الإمام، أو يريدون البغي على طائفة من الناس».

إن تجريد القصد لله - تعالى -، ووضع مصلحة البلاد، وأهلها في التوحد على أساس شرعي، لا يقدرها إلا أولو الأمر عند التطبيق، وتحقيق مناط النصوص على أرض الواقع. وليس للقارئ الذكي، وغير الذكي أن يستنتج ما يشاء؛ لأن مقاصد الشريعة تمثل ضابطا لأحكام السياسة الشرعية الواقع، وضرورة مراعاة الظروف المتغيرة، والموازنة بين المصالح، والمفاسد.

إن أس الجهاد في سبيل الله، لا بد أن يكون خالصا لوجه الله - تعالى -، وموافقا لشريعته. وما لم يكن الأمر كذلك، فإنه سيكون خارجا عن مسمى الجهاد الشرعي، ومن ذلك: أن الجهاد - في تلك الصور السابقة - مرهون بإمام المسلمين، - باعتبار - أن مسائل السياسة، فوضتها الشريعة لولاة الأمر القائمين على الدولة المسلمة، وهذا المعنى عبّر عنه إمام الدعوة - الشيخ - محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، بقوله: « أمر الجهاد موكول إلى الإمام، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه «. كما عبّر عنه - سماحة الشيخ - محمد بن عثيمين - رحمه الله -، حين قال: « الجهاد ماضٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة، ولكن الجهاد يجب أن يكون مدبراً من قبل ولي الأمر؛ لأنه إذا كان غير مدبر من قبل ولي الأمر، صارت فيه فوضى، وصار كل طائفة تفتخر على الأخرى، بأنها هي التي فعلت كذا، و فعلت كذا، - وبالتالي - ربما لا تحمد العاقبة، كما جرى في أفغانستان - مثلا -، فإن الناس - بلا شك - ساعدوا الأفغانيين مساعدة عظيمة بالغة، وكانت النتيجة ما تسمعون الآن «.

إن العمل على استرداد عقول هؤلاء الشباب قبل أجسادهم، ومحاربة جهود التفريط، لن يكون إلا بتسليط الضوء على فكرة الجهاد الصحيح، وأسسه، وقواعده التي يبنى عليها، وهي مهمة العلماء الراسخين في العلم قبل غيرهم؛ لإبراز رسالة الإسلام، والاهتمام بمقاصد الشريعة، ومنها: فريضة الجهاد - كما بينت -، بعد أن طالته أيادي العابثين، وأفرغته من مضمونه بما لا يقره شرع، ولا يرضاه عقل.

عنصر المفاجأة في هذه الإشكالية، تكمن في محدودية الثقافة لدى هؤلاء الشباب، - إضافة - إلى ضعف الوعي الديني، والسياسي. وهو في واقع الأمر شكّل أزمة؛ لعدم وجود البديل في واقع أمورهم الحياتية. ومن تأمل حال الشباب السعودي، عندما ذهب إلى أماكن الصراع، وكيف تم إلحاق الأذى بهم، سيدرك تماما أن مستوى التفكير الذي ساد في إطار اعتقاد هؤلاء الشباب، كان ضيقا. مع أن شعيرة الجهاد في سبيل الله، تُوكل في المقام الأول إلى علماء البلد المعني، الذي حلت به الكارثة، بعيدا عن فرض تأويلات مغرضة، تصيب مضامين النصوص الشرعية من خلال التفسيرات الخاطئة.

إن الأمر يتطلب رؤية إستراتيجية، تتجاوز رد الفعل. فعلى الصعيد الفكري، نحتاج إلى العمل على منع الذهاب إلى أماكن الصراع، وذلك عن طريق خلق خطاب فكري جاد، يقوم على التوازن؛ لاستيعاب الشباب، وعدم الاستهانة بالنفس البشرية، أو سفكها، أو إراقة الدماء بما يتنافى مع مبادئ الإسلام. ولعل هذا ما عناه سماحة مفتى عام المملكة - الشيخ - عبد العزيز آل الشيخ - قبل أيام -، حين حذر من انخراط الشباب السعوديين في الجهاد في الخارج، واعتبر: « أن خروجهم بالطريقة التي يفعلونها، استجابة لنداءات من آخرين، عصيان لولاتهم، وعلمائهم، وإخلال كبير بالتشريعات «.

صحيح، أن المناخ العام للسياسة، والاقتصاد في العالم الإسلامي، وما نتج عنه من غزو أفغانستان، وتدمير العراق، والانحياز المطلق لإسرائيل، وغيرها من قضايا المنطقة، التي تمارسها سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الغربية غير العادلة، هيّأ هذه الفئة؛ لتقبل فكرة الخروج إلى تلك المناطق الملتهبة. الأمر الذي شكّل مأزقا رئيسا، بل ومهددا بالتجدد الدائم بحسب أماكن الصراع. فالعلاقة بين الاستبداد السياسي، والأزمات الاقتصادية، وبين هذه الإشكالية، علاقة طردية. ومثل هذا الشعور، لا يأخذ مكانه على خارطة الزمان، والمكان من دون دوافع، تعمل على خلق كينونتها.

من الناحية التكتيكية، فقد أصبحت الشبكة العنكبوتية، ومعطيات التطور التكنولوجي الحديث، مكانا لالتقاء هؤلاء الشباب، والتفافا فكريا منقطع النظير. وقد يكون ذلك بسبب الخطاب فوق العادة، وأثره على الدعوات الجهادية المحتملة على بنية العلاقات الاجتماعية، أو على سيرورة الممارسات السياسية، والموجهة لتلك الفئة. ثم إن قلة التكلفة، وضعف الرقابة المؤسساتية، وسرعة انتشار المعلومة، شكّل استجابة تكتيكية لظرف الواقع المعاش، وهو ما أشرت إليه قبل قليل، مما يجعلني أؤكد: على أننا أمام استقطاب عناصر جديدة من خلال تلك التقنيات - شئنا أم أبينا -.

إن السمة البارزة لهؤلاء الشباب، تكمن في حداثة سنهم، وحداثة عهدهم بالالتزام الشرعي، وقلة معرفتهم بفقه الدين، وأحكامه، ومفارقتهم لعلماء هذه الأمة، ودعاتها الربانيين من الراسخين في العلم. - ومع كل ما سبق - فإنك تجدهم - عند عقلاء القوم - غير مرحب بهم في كثير من مناطق الصراع التي يرتادونها؛ بسبب تنفيرهم عن الإسلام، وتشويه صورته، وفتح الباب أمام المتربصين للطعن فيه، والصد عن الدعوة إليه، فأفسدوا أكثر مما أصلحوا. ودون أن نتطلع إلى الأمنيات، فإن خطر مواصلة شبابنا إلى تلك الأراضي الملتهبة، والتغرير بهم؛ ليكونوا حطبا جاهزا للاشتعال تحت تأثير رموز التغرير، وأجهزة دول استخباراتية - إقليمية ودولية - معادية، ما كان ليكون، لولا أن صوت الإنكار عليهم كان ضعيفا - تصورا وتطبيقا -، فحصل التلبيس على آحاد الناس، وتمادى من أفتى لهم، ومن ذهب منهم تحت مسمى الجهاد، من أن بين ما اقترفوا، وبين الهدى أمدا بعيدا.

ثم إن الواقع يشهد - مع الأسف -، أن مصير هؤلاء في الغالب، إما القتل، وإما تقديمهم للمحاكمة غير العادلة، بحجة تلبسهم بتهم قاعدية، أو ارتباطهم بالعمل القتالي، بعد أن يتم تجنيدهم، وتحريكهم كأدوات - من حيث لا يشعرون -، في - المكان والزمان - المناسبين؛ لتحقيق أهدافهم من قبل المستعمر.

الفئة المستهدفة، هي فئة الشباب، - وبالتالي - فإن جذبها سيكون سهلا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تحرض الشباب على الذهاب إلى أماكن الجهاد، من خلال فتاوى لا تستقيم مع منهج كبار العلماء في المملكة، فدفعوا تلك الفتاوى كأحد أهم أدوات الاستقطاب في مواجهة السياقات الضاغطة، التي تمر بها الأمتان - العربية والإسلامية -.

إن مواقع التواصل الاجتماعي لا تعتبر مرجعا للفتوى الشرعية؛ ولأن الأمة مستهدفة من ثمار الإفتاء غير المسؤول، ونتائجه ستكون كارثية؛ نتيجة الاندفاع دون تأسيس شرعي منضبط، ودون معرفة بأسباب النصر، وعوامل الهزيمة، كونه لم يمتلك أدوات التحليل المنطقي لقراءة التاريخ، وفهم السنن الكونية الجارية. - ولذا - سيكون مقياس النظر في قضية الحال - اليوم -، هو حماية شبابنا من الاندفاع إلى تلك المواقع المشبوهة، التي تتبنى أطروحاتهم. وهي مسؤولية مشتركة بيم مؤسسات المجتمع المدني. ولا يكون ذلك إلا بفتح قنوات الحوار معهم؛ لمناقشة شبهاتهم على وجه الإجمال، أو التفصيل بالحجة، والبرهان، وإيراد الحقائق.

في المقابل، فقد بليت الأمة في هذا العصر بأناس ينطلقون من مبدأ الوصاية على الدين، عندما تفرقت بأصحابها الأهواء، فتصدروا قبل النضج في العلم، والعقل، وخاضوا في مسائل كبار قد تعد من الأصول، دون جمع بين النصوص، والتي تحتاج إلى رد المتشابهات إلى المحكمات، والظنيات إلى القطعيات، والفروع إلى الأصول، فضلوا، وأضلوا. وأذكر أن أحدهم حدثني قائلا: إن الجهاد - اليوم - أصبح « فرض عين « على كل مسلم، قادر على الجهاد. وما دام الأمر كذلك، فلا استئذان - حينئذ - فيه لأحد؛ انطلاقا من القاعدة الشرعية: « لا استئذان في فروض الأعيان «، دون أن يفرق بين أنواع الجهاد المعروفة بضوابطه، وقيوده، وأهدافه، وغاياته، ومن ذلك: أن الجهاد لا يكون إلا تحت راية ينظمها ولي الأمر، ويرتب أحكامها الشرعية.

حاولت أن أصحح فكرته عن الجهاد، وجعلت الإقناع بالدليل سبيلا إلى الدخول معه في حوار دون إكراه؛ ليكون هذا المنهج هو الأساس المعتمد في تصحيح مفاهيم الجهاد، - بدءا - من أن الخلاف إنما هو في جهاد الطلب، وليس في جهاد الدفع. واستشهدت بقول بعض علماء المذاهب المعتبرة، ومن ذلك قول ابن قدامة - رحمه الله -: « وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ، وَاجْتِهَادِه ِ، وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ «. وبقول البهوتي الحنبلي حين علق على كلام ابن قدامة، شارحًا له: « وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ، وَاجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِحَالِ النَّاسِ، وَبِحَالِ الْعَدُوِّ، وَنِكَايَتِهِمْ، وَقُرْبِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ. وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ لقوله تعالى: ? يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم ?، وقوله: ? إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوه?. - ومثله - قول - الإمام - الكاساني الحنفي - رحمه الله -، عندما قال: « وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُنْدَبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ، أَوْ السَّرِيَّةِ إلَى الْجِهَاد ِ، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: إنَّهُ يُنْدَبُ إلَى أَشْيَاءَ، مِنْهَا: أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، مَا بَعَثَ جَيْشًا إلَّا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْأَمِيرِ مَاسَةٌ، لِأَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ، وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ، وَلَا يَقُومُ ذَلِكَ إلَّا بِالْأَمِيرِ؛ لِتَعَذُّرِ الرُّجُوعِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ إلَى الْإِمَامِ «.

كم نحن بحاجة إلى علماء ربانيين نهتدي بأفهامهم، ونقتبس من أنوارهم، يزيلون الشبه العالقة في أذهان هؤلاء، ويبينون خطأهم، وتهافت أفكارهم، وكيف أن الخطأ في تدينهم، نابع إما من جهة إخلاصهم، أو من جهة إتباعهم، الأمر الذي أفرز كثيرا من أحكام الجهاد الخاطئة في رؤاهم، وتصوراتهم، ومن أخص تلك الأحكام: ما يتعلق به - زمانا ومكانا -، دون تمحيص، أو تدقيق، أو تحرير، - وبالتالي - العمل على تفكيك خطاب، ومرجعية كثير من تلك التنظيمات الجهادية المعاصرة.

إن موافقة الحق لا يكون إلا بالاستقراء التام لنصوص الشريعة، ومعرفة الجمع بين النصوص، وهذا الأمر لا يتم إلا بأكابر العلماء الربانيين؛ لمناقشة مفهوم حكم الجهاد، وصوره، وأسبابه، وتداعياته في عصرنا الحاضر. وكيفية التعامل معه في ظل الأوضاع الدولية الحديثة، دون أن يتعارض ذلك مع نص صريح، أو مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كل ذلك؛ من أجل صد الهجمات الشرسة على مفهوم الجهاد في الإسلام، أو وصمه بالإرهاب، والعنف، والتطرف. والعمل على قطع الطريق ضد خصومه بالهيمنة، والسيطرة على بلاد المسلمين. وعليه، فإنني أقترح على معالي وزير الشؤون الإسلامية، والأوقاف، والدعوة، والإرشاد - الشيخ - صالح آل الشيخ، دعوة كوكبة من علماء المسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها إلى مؤتمر علمي؛ من أجل الوصول إلى أحكام فقهية معاصرة حول موضوع الجهاد، تستحق الخروج إلى حيز الوجود.

ثم إن عناية نصوص الشريعة الإسلامية بلزوم جماعة المسلمين، ووحدتهم، والتحذير من سلوك سبيل الشذوذ عن الجماعة، سيجلي الغموض حول هذا المفهوم. بل إن عناية تلك النصوص جاءت؛ لتؤكد على وجوب طاعة ولي الأمر في غير معصية، وحرمة الخروج على ولي الأمر إلا عند الكفر البواح، عندهم من الله فيه برهان. كل ذلك؛ من أجل تحقيق العبودية لله، وإقامة الشريعة، وجمع كلمة المسلمين على الحق. وهذا - بلا شك - من مقاصد الشريعة الإسلامية، ومحاسنها، وفضائلها. كما أنه أحد الأسس التي قامت عليها عقيدتنا؛ امتثالا لأمر الله، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من وجوب لزوم جماعة المسلمين، والحذر من التفرق.

لن نستطيع البحث عن أمن دون استقرار، ولئن كنا مضرب الأمثال في هذه البلاد - أمام العالم - في تحقق الأمن، والأمان، والتعايش السلمي، والوفاق الوطني بين شتى طوائفها، وقبائلها، فإن الحفاظ على هكذا مبادئ راسخة، لن يكون إلا بسد الثغرات، التي يمكن أن تحدث شرخا فيها. - ولذا - كانت الوحدة سنة كونية، منظمة للحياة البشرية، وأصل من أصول كافة الأديان، ومقصد عظيم من مقاصد الإسلام.

الأمن مطلب أساس لجميع الناس، - لاسيما - ونحن نعيش عصرا مدلهما بالمتقلبات الفكرية، والتحديات السياسية، والمجتمعية، والمؤثرات الثقافية. وبغير هذا المبدأ، فإن السعادة التي ينجرّ إليها بعض المخدوعين خلف بصيصها، لا تعدو أن تكون مجرد سراب، يحسبه الظمآن ماءً؛ ولكي تكون الفكرة واضحة، فإن أهم مقاصد الشريعة الإسلامية، وما ترمي إليه من خير للبشرية جمعاء، هو الوقوف صفا واحدا ضد أي عبث بمقدرات الوطن؛ حتى تتطابق نتائج حكمة الحفاظ على أمن الوطن مع مبادئه. ويتجلى ذلك في الهدف الأساس، الذي ترمي إليه أحكام الشريعة، وذلك - من خلال - الحفاظ على المقاصد الأساسية الخمسة، وهي - بلا شك - أساس عوامل قيام الدول، والحضارات، والمجتمعات.

نحن - اليوم -، أشد ما نكون فيه إلى البر بالوطن؛ حتى نصونه من مؤامرات عبثية، ونحميه من أي عدوان، - سواء - كان عدوا متربصا بنا، أو طامعا يتلمس الفرص - من خلال - مظاهرات فئوية، تريد الحصول على مكاسب آنية، ومنافع ذاتية؛ حتى أصبحوا - مع الأسف - مجرد رقم في معادلة غير مفهومة، عبث بمصيرهم المجهول. وهو ما يجعلنا نؤكد على: أن الإنسان، هو جوهر العملية الأمنية، بل هو نواة الأمن الداخلي، والخارجي. وبإمكاننا أن نقدم لوطننا نموذج العطاء الصالح، وأن نسلك به السبيل الأسلم، الذي يحقق بها معنى طاعة ولي الأمر، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من وحدة الصف، وجمع الكلمة، وحقن الدماء، وتسكين الدهماء؛ ولما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين، وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم.

وعليه، فإن مصالح الدنيا، والآخرة، وجمع أصول الدين، وقواعده، لا تنتظم إلا بلزوم جماعة المسلمين بعد كلمة التوحيد، ومناصحة أولي الأمر. وهذا هو الطريق الأسلم، والمنهج الأوفق، والأمر الذي كان عليه سبيل الدعوة أيام الرسالة. بل إن منهجا كهذا، هو من عزائم الدين، ومن وصايا الأئمة الناصحين. أليس التاريخ حفظ لنا قول أحدهم: « إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان؛ فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح؛ فاعلم أنه صاحب سنة - إن شاء الله - « !.

إن إدراك الظروف المحيطة بنا، وما يجري حولنا من أحداث متسارعة، وتجاذب القوى بين عدد من دول المنطقة في الوقت الراهن، تستلزم لمّ الشمل، وتوحيد الصفّ، وبذل الوسع في سيادة النظام العام، واحترامه من حيث القيمة العملية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، بثّ رسالة واضحة للمتربصين بنا: أن لا مجال للعبثية المقيتة على حساب قضايا الأمة المصيرية، والدعوة إلى معالجة القضايا الكبرى بروح المسؤولية. وألا ننسى الخطوط العامة في عدم التعاطي مع الأحداث برؤية خاطئة، أو كل ما يؤججها، ويساعد على إيقاظها.

إن المأمول من أهل العلم المعتبرين، توعية المواطنين في ضرورة حفظ الأمن، وفرض النظام العام، بعيدا عن المعالجات التي تقوم على الارتجال، أو استثارة الغرائز العدوانية، فالأمن مسؤولية الجميع، وهو خط أحمر. - وبالتالي -، فإن حفظ النظام العام في منظومة مقاصد الشريعة، هو حق مشروع، يتعدى ذلك إلى نظرة شاملة، تضع في الاعتبار: تحقيق المصلحة الخاصة؛ لتكون مكملة للمصلحة العامة. وتحقيق المصلحة العامة؛ لتكون متضمنة للمصلحة الخاصة، دون تهديد لتلك الغايات العظيمة بما يهدمها، أو يلغيها.

drsasq@gmail.com

باحث في السياسة الشرعية

مقالات أخرى للكاتب