Friday 07/02/2014 Issue 15107 الجمعة 07 ربيع الثاني 1435 العدد
07-02-2014

هجاء ابن الخطيب

كتبنا عن الكثير من أعلام الأندلس مثل ابن زيدون، وابن شهيد، وابن حزم وغيرهم، ولنعد للحديث عن لسان الدين ابن الخطيب، فنذكر أنّ هجاءه كان منصباً على تلاميذه ومخدوميه الذين أساؤوا إليه وتنكّروا مع تنكُّر السلطان الغني بالله له، شأنهم شأن المنافقين، الذين غالباً ما يحفون بالسلاطين، فيميلون حيث تميل الريح، ومن أمثال أولئك ابن زمرك، وأبو الحسن البناهي، وابن فركون، وابن قطبة، أما ابن كماشة فيبدو أنه هجاه لسخط السلطان عليه نفاقاً منه للسلطان عندما كان راضياً عليه.

ويبدو أنّ لسان الدين ابن الخطيب وقور في هجائه، مترفع بما يليق بمكانته الأسرية والمالية والسياسية، لكن شعره ونثره لا يخلو من المداعبة والمفاكهة مع أصحابه وأقرانه وأعوانه، والهجو والقدح، والتهكم بأعدائه، وهو لا يحب الحديث عن الخمر إلاّ من باب الدعابة، أو بأمر من السلطان فيقول مثلاً: «وأمرني رحمه الله بنظم أبيات صبوحية على عادته من الانحطاط عن الجزالة ولين عريكة الكلام».

ولم يقتصر قدح ابن الخطيب على تلاميذه ومخدوميه الذين تنكروا عليه، فها هو يسل لسانه على رجل من رجالات السلطان الغرناطي الغني بالله هو ابن كماشة الذي فشل في مهمات كثيرة أوكلها له السلطان، ومنها سفارته إلى المغرب لإحضار عائلة السلطان، وهي المهمة التي نجح فيها ابن الخطيب بينما فشل فيها ابن كماشة، فقال في ابن كماشة:

كماشيكم من أجله انكمش السعد

إذا ما اطرحتم شؤمه أنجز الوعد

ومن لم تكن من قبل للسعد عنده

مخيلة نجع كيف ترجى له بعد؟

وتصريفه المشؤوم فلتتذكروا

وما قلت إلا بالذي قد علمت سعد

وقال فيه أيضاً:

قيل لي: ماتت فراشة

من بخار ابن كماشه

أحرزت أجر شهيد

ناله الطعن وناشه

رحمة الله ورضوا

ن على تلك الفراشة

وفي أخرى:

مر الدباب على فم ابن كماشة

فانفض عسكره وهيض جناحه

فكأنهم صرعى وقد عصفت بهم

مسمومة عند الصباح رياحه

صرعان حرب من بني حرب وقد

حمل السلاح عليهم (سفاحه)

أعلي جل الله كم من حائن

ناجيته صبحا فساء صباحه

وهو في قوله «بني حرب» يشير إلى الأمويين أبناء بن حرب الذين أطاح بهم العباسيون على يد أبي العباس السفاح، وهو المشار إليه في كلمة «سفاحه»، ثم يشير مرة أخرى في البيت الأخير إلى الخليفة الراشد «علي» بن أبي طالب كرّم الله وجهه وصراع الأمويين معه. وأخيراً نقف على بعض من أشعاره، ففي الهجاء يقول قصيدة في رجل أفرط في الكبر، وتباهى وتفاخر، يقول:

يا طلعة الشؤم التي مهما بدت

يئست عفاة النجح من أسبابه

يا وقفة الناعي بمقتل واحد

أذكى على الأحشاء حر مصابه

يا زورة الألم الذي قد لا يرى

جاءت ركاب الموت في أعقابه

يا فرقة السكن الذي لا ترتجي

يوم الوداع النفس يوم إيابه

يا خجلة من ضارط في محفل

تبقى غضاضتها على أعقابه

وهو يقول عند تقديمه للقصيدة: «والله يتجاوز بفضله وكرمه»، ونحن نقول: فعسى الله أن يتجاوز عنه ويعفو، وطالما أنه لم يبح باسمه فلا غيبة لمجهول.

وشاعرنا لسان الدين ابن الخطيب تجاوز عداؤه للإنس ليشمل خلقاً آخر، هم البراغيث الذي يبدو أنه يتضايق منها، فقد بات ذات ليلة في مرحلة من مراحل سفره في طريقه إلى مدينة سلا، المعلومة في المغرب الآن والمتداخلة مع مدينة الرباط، مع ما بين المدينتين من تنافس فيما مضى من الزمن، فكثرت عليه البراغيث، وأفسدت عليه لذة النوم، مع أنه في الغالب لا يتلذذ بالنوم لإصابته بداء الأرق، ولهذا فقد سمي بذي العمرين كما أشرنا إليه سابقاً، فقال:

بتنا نكابد هم القحط ليلتنا

وأنجد السهد والكرب البراغيثا

وكان يحمل ما كنا نكابده

من المشقة لو أن البرا غيثا

وفي آخر البيت الثاني يظهر إبداع لسان الدين ابن الخطيب واستخدامه للجناس، حيث ورد كلمة (البرا) وهي تعني التراب، وأردفها بكلمة (غيث)، وهو المطر، أي أنه يتمنى لو أن الغيث أصاب التراب فذهبت بالبراغيث. هذا هو ابن الخطيب الأديب والشاعر والسفير والوزير، وكانت مناصبه ومواهبه سبباً في تكالب طلابه وحسّاده عليه، حتى أودى به ذلك إلى أن قتله السلطان الغني بالله الغرناطي الأندلسي الذي كان وزيراً عنده. وهكذا كانت المماحكات سبباً في فقد الأندلس والتاريخ الإسلامي، عالماً عظيماً، يمكنه أن يضيف للمكتبة الإسلامية الشيء الكثير لو امتد به العمر.

مقالات أخرى للكاتب