Friday 07/02/2014 Issue 15107 الجمعة 07 ربيع الثاني 1435 العدد

حددوا مواصفات «الخطيب الناجح» .. عددٌ من العاملين في الساحة الدعوية لـ«الجزيرة»:

الخطيب الناجح .. ليس الأكثر إثارة .. ولا الأعلى صوتاً..!

الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:

أكد عددٌ من العاملين في الساحة الدعوية والمختصين بالعلوم الشرعية على أن الخطيب الناجح هو الذي يلتزم بنهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خطبته، ويراعي أحوال المصلين ويتلمس قضاياهم ويعالجها برؤية شرعية.

وحذروا من خطب الإثارة والخطباء الأعلى صوتاً وأكثر تهييجاً، وهي خطب لا تنفع وضررها شديد، وطالبوا الخطباء الالتزام بنهج النبوة وهم يقفون على المنابر.

نهج النبوة

بداية يشير الشيخ عبد الله بن عبد العزيز الناصر المدير العام لفرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بمنطقة مكة المكرمة إلى أن البعض يرى أن الأعلى صوتاً هو الناجح ولكن ليس كل من علا صوته حقق نجاحاً والعكس وأما طول الخطبة وقصرها فهديه - صلى الله عليه وسلم - قصر الخطبة - ويكمن الخطيب الناجح في مراعاة مقتضى الحال لمن يخاطب فيما يقول ولمن يقول ومتى يقول، فالحصيف الذي يخاطب الناس على قدر إفهامهم، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة فهو معلم البشرية والهادي البشير والسراج المنير تركنا على المحجة البيضاء فقد أُوتي - صلى الله عليه وسلم - جوامع الكلم ومنه نستقي منهجناً وعلمناً،

وكان - صلى الله عليه وسلم - أفصح خلق الله، وأعذبهم كلاماً، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقاً، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويسبي الأرواح، ويشهد له بذلك أعداؤه.. وكان إذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد، ليس بهذا مسرع لا يحفظ، ولا منقطع تخلله السكتات بين أفراد الكلام، بل هديه فيه أكمل الهدي، قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه.

ونبه الناصر بأنه ينبغي على الخطيب أن يحرص لإيصال كل ما من شانه نفع جماعة مسجده نصحاً وتوجيهاً وإرشاداً بالتي هي أحسن بلين الجانب وحسن العبارة ولطف المنطق مبتعداً عن التيارات والتحزب والطائفية، فقد جاء عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث حديثاً لو عدّه العاد لأحصاه (رواه الشيخان وأبو داود).. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان في كلامه ترتيل أو ترسيل» [رواه أبو داود وحسنه الألباني]، أي لا يعجّل بكلامه - صلى الله عليه وسلم -، وعن جابر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا يا رسول الله قد علمنا: الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون.» (رواه الترمذي وصححه الألباني).

الثرثار: كثير الكلام تكلفاً.. المتشدق: المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه.

المتفيهق: من الفهق وهو الامتلاء وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه ويغرب به تكبراً وارتفاعاً وإظهاراً للفضيلة على غيره.

وأما الإطالة في الخطبة فقد جاء في الحديث الشريف باب قصر الخطبة عن عبد الله ابن مسعود - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن قصر الخطبة وطول الصلاة مئنة من فقه الرجل فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة فإن من البيان سحرا، وإنه سيأتي بعدكم قوم يطيلون الخطب ويقصرون الصلاة» رواه البزار، وروى الطبراني فمن هذا الحديث الشريف وغيره مما جاء في ذلك يتضح أن على الخطيب أن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يحث على تقصير الخطبة فكانت خطبته صلى الله عليه وسلم وجيزة وكانت كلمات معدودات مباركات يلقيها على مسامع الناس, وجاء في حديث أبي وَائِلٍ قال: (خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ فلما نَزَلَ قُلْنَا: يا أَبَا الْيَقْظَانِ لقد أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ فقال: إني سمعت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ من فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ وَإِنَّ من الْبَيَانِ سِحْرًا) وفي رواية: قال عمار رضي الله عنه (أَمَرَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِإِقْصَارِ الْخُطَبِ), وفي حديث جَابِرِ بن سَمُرَةَ رضي الله عنه قال: (كنت أُصَلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا) وفي رواية: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ يوم الْجُمُعَةِ إنما هُنَّ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ).

مقياس الخطيب الناجح

ويُؤكد الدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بالرياض: أن الخطيب الناجح ليس هو صاحب الصوت القوي الجهوري، وليس هو من يطيل خطبته, أو يجعل طابعها وعظياً صرفاً، أو مدنياً صرفاً، أو سياسياً، ولا من يتعمد إثارة الجدل وبلبلة الأفكار.

وهناك علامة نجاح الخطبة أو الخطيب في التقديري يعود إلى ثلاثة أمور رئيسة: موضوع الخطبة، ولغتها، وإلقاؤها فالموضوع لا بد أن يكون محل اهتمام المتلقي، سواء أكان في العقيدة أو العبادة أو الأخلاق أو المعاملة أو الحياة الاجتماعية، ومما يجعله محل اهتمام المتلقين أن يكون له مناسبة زمان أو مكان أو حال.. فإن كان بخلاف ذلك لم يجد أذناً صاغية وأما لغة الخطيب فإنها الوعاء الذي يقدمه للمتلقي فإن كان وعاء جميلاً كان محتواه كذلك أخذه المتلقي بقبول حسن وإن كان غير جميل لم يلتفت إليه المتلقي وإن كان محتواه نفيساً وأما الإلقاء فإنه النادل الذي يقدم الهدية أو الوجبة للمتلقي، فإن كان على صفة حسنة وبطريقة لبقة أخذها المتلقي بانشراح صدر وقلب حاضر, وإن كان بخلاف ذلك فإن النفوس تكون نافرة مهما يكن المحتوى أو الوعاء.

وعلى هذا فكل هذه المقومات الثلاثة: الموضوع، واللغة، والإلقاء إذا توافرت كانت من أهم عوامل نجاح الخطيب وإذا فقدت أو نقص شيء منها، نقصت قيمة الخطبة عند المتلقين.

الاستشهاد بالآيات

ويوضح الشيخ يوسف بن سليمان الهاجري إمام وخطيب جامع والدة الأمير عبد العزيز بن فهد بحي الفلاح بالرياض أن الخطابة فن عربي أصيل وأتى الإسلام فعزز هذا الفن فشرعت لنا خطب الجمعة والأعياد وغيرها وقامت على أسس شرعية يجب التقيد بها ونستطيع أن نقول بشكل مجمل أن نجاح الخطيب يرتبط أولاً بتقيد الخطيب بالأسس الشرعية والسنّة النبوية المطهرة, وسيجد الخطيب كل مقومات النجاح - بإذن الله -، ولعلي أشير إلى بعض منها وغيرها مما يفيد في هذا الموضوع:

أولاً: الإكثار من الآيات القرآنية؛ ففيها الوعْظ والشِّفاء، ثم الاستدلال بالمأثور من الأحاديث الصحيحة.

ثانيًا: الاستعانة بالقصص الواردة في القرآن والسنَّة وربطها بالواقع؛ مثل: قصَّة إبراهيم الخليل مع أبيه، وقصَّة أصحاب الكهف وما فيها من العبر والعظات، وفي الحديث: مثل قصَّة الذي قَتَل مائة نفس في باب التوبة، وغيرها من القصص، ولا بأس من الاستعانة بضرْب الأمثال وتصوير المعاني بأشياء محسوسة من الواقع من أجل تقريب المعاني إلى الأذهان؛ مثل: تمثيل رحمة الله بالعبد، وأنه - سبحانه - أرْحَم منَ الوالدة على ولدها, ولذلك دعاه للتوبة وقبلها منه، وأنه لو شاء أخذه بذنبه، وعجَّل له العقوبة في الدنيا، ولكنه - سبحانه - يمهل ولا يهمل.

ثالثًا: عدم إطالة الخطبة؛ لأنها تورِث المَلَل والسآمَة، وهي مخالفة للنهج النبوي أيضاً.

رابعًا: بدء الخُطبة بما يجلب انتِباه السَّامعين، من حادثٍ مهمٍّ وخبر ذي فائدة، ثمَّ يرْبطه بمعاني القرآن والسُّنن الكونيَّة، ثمَّ على الخطيب بعد ذلك أن يَمضي مسترْسِلاً في وعْظه، ويقرن بين التَّبشير والإنذار، ويتخيَّر من الحوادث ما يكون محْور وعظِه، ومدار خطبته، ثمَّ يخرج بعد ذلك العرض بحلٍّ شرْعي ممَّا استجدَّ من حوادث، وما حلَّ بالمسلمين من ضِيقٍ وبلاء، ويذكِّرهم دائمًا بأنَّ المخرج من ذلك كلِّه هو طاعة الله وطاعة رسولِه وأولي الأمر، فهو سببٌ لسَعادة الدُّنيا والآخرة.

خامسًا: أن يكون موضوعُ الخُطبة واضحًا في ذهن الخطيب، وأن تكون المادَّة العلميَّة التي يُراد طرْحها وتعْريف النَّاس بها حاضرةً في الذِّهن قبل الشُّروع في الخطبة، ويُمكن اتِّخاذ الوسائل والتَّدابير لذلك، مثل تدْوين رُؤوس المسائل والخطوط العامَّة في «ورقة صغيرة» يرْجع إليْها عند الحاجة؛ حتَّى لا يتحرَّج فيخْلط بعدها في كلامه، أو يستطْرِد في أمرٍ لا علاقةَ له بصلب الموضوع، فيفقد هيْبته في القلوب.

سادساً: هناك أمور ينبغي على الخطيب الانتِباه إليها، وهي إن كانت بسيطة لكنَّها هامَّة تجعل الخطيب يَملك زمام الأمور، ويأخُذ بناصية المواقف، وتَمنحه قوَّة الشَّخصية:

مثل هندسة الصَّوت، فلا يرفع صوته لغير حاجه، ولا يكون بطيئًا فتملّه الأسْماع.

ومنها أيضًا عدَم الإكثار من الإشارة بدون سببٍ، فيكون حالُه كالممثِّل على خشبة المسرح، بل يتمَّ توزيع ذلك باعتِدال تامٍّ أمام الحاضرين.

ومنها الالتفات المعقول، فلا يشير إلى أحد بعينه أو طائفةٍ من النَّاس وهو يتكلَّم مثلاً عن المنافقين أو الكافرين؛ لئلاَّ يقع في سوء الظَّنّ.

أخيراً: ينبغي أن يكون كلام الخطيب جامعًا موجزًا، صادرًا من قلْب صادق، وتفكيرٍ هادئ، وألا يحول بيْنه وبين المستمِعين أي حائل نفسي سوى مراقبة الله والخوف منه؛ ولهذا ينبغي عليه قبل الشُّروع في الخطبة وارْتقاء المنبر تصفية نفسِه ممَّا علق بها من شوائب وأكْدار، وتَهذيبها من العلائق، والدُّعاء بصدقٍ أن يوفِّقه الله في وعْظِه، وأن يسدِّد كلامه، وأن يكون له وقْع طيب في الأسماع والقلوب.

الاعتدال والوسطية

ويقول الشيخ سامي بن عبد الله المغلوث إمام وخطيب جامع المغلوث بالأحساء إن الخطبة لغة الموعظة، والكلام المنثور يخاطب به فصيح جمعًا من الناس لإقناعهم، ولا يخرج التعريف الاصطلاحي عن هذا.. وقيل سميت الخطبة خطبة، لأنهم كانوا يجعلونها في الخطب وهو الأمر العظيم، كما أن الخطيب الناجح هو من يلتزم بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطابة، باقتفاء الحكمة والموعظة الحسنة جاعلًا من منبره؛ منبرًا للتوجيه والدعوة والإرشاد، وإحياء السنن، وقول الحق وقمع البدع مراعيًا أحوال المخاطبين، واختلاف مداركهم وبيئاتهم، ومعتمدًا على مصادر المعرفة الإسلامية الموثقة، وملتزمًا بلغة القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأن يعد الخطبة إعدادًا يليق بمكانة هذه المناسبة الدينية الأسبوعية، ويقدم الأولى فيها والأهم من الموضوعات التي تكون حاجة الناس إليها أكثر من غيرها، فهو في هذا المقام مقام الداعية إلى الله الذي وصفه الحق تبارك وتعالى بقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فصلت 33.

أما مقياس علو الصوت.. فينبغي على الخطيب أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم.. خصوصًا إذا علمنا أن هندسة الصوت قد أسهمت عبر وسائل التقنية الحديثة في سهولة سماع العبارة بكل يسر وسهولة، لذلك ينبغي أن يكون صوته موافقًا لأجواء المسجد، وأن يحاول جاهدًا التعامل مع نبرات الصوت بشكل يشد انتباه السامعين، فلا يرفع صوته لغير حاجه، ولا يكون بطيئًا فتملّه الأسْماع.. من هنا كان على الخطيب أن يستخدم العبارات المشوقة في الطرح بدلًا من العبارات الباردة التي لا تحرك مشاعر المصلين، لأن هذا يضفي على الخطبة قبولاً أكثر لدى السامعين، ويزيل عنهم السأم والملل ويشد من انتباههم، بخلاف ضعف الأداء وركاكته فإنه يبعث في النفس الكسل فيصاب السامع بالنعاس وشرود الذهن.. فعليه الإكثار من شواهد القرآن الكريم للمواضع التي ينبغي الاستشهاد فيها؛ ثم الاستدلال بالمأثور من الأحاديث الصحيحة، وتجنُّب الأحاديث المَوْضُوعة، مع إبراز الشواهد الشعرية في نطاق يضفي على جمال الخطبة أدبًا رفيعًا.. وعلى الخطيب الحصيف أن لا يطيل في خطبته مراعاة لأحوال وظروف المستمعين، فقد يكون من بينهم المرضى وأصحاب الحاجات والمهمات، وأحياناً طبيعة الجو تلعب دورًا بارزًا في تحديد وقت (مدة) الخطبة، فيجب على الخطيب مراعاة ذلك بصورة معتدلة.. فقد روى مسلم عن عمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا)).. فهل علم الخطيب كيف يدير دفة خطبته بكل اقتدار ونجاح!؟

وكلما كانت الخطبة قصيرة ومتقنة، كلما كان لها أبلغ الأثر في نفوس السامعين، ودلّت على سعة فقه الخطيب، ودقة فهمه، ورحابة ثقافته، فكما قيل خير الكلام ما قل ودلَّ.. لذلك استطاع هذا الخطيب أن يوصل فكرته من خلال إطلالته القصيرة البهية، والتي أضفت على المكان فوائد جمّة من خلال متابعة الجميع لعناصر الخطبة المباركة المحبوكة.