Saturday 08/02/2014 Issue 15108 السبت 08 ربيع الثاني 1435 العدد
08-02-2014

عباس الجراري.. النهر الخالد

على هامش احد منتديات فاس السنوية التي ننظمها حول تحالف الحضارات والتنوع الثقافي، تم تكريم الأستاذ عباس الجراري عضو أكاديمية المملكة المغربية بمشاركة جم غفير من المغاربة والأجانب نذكر من بينهم:

الأستاذ عبد الحق المريني، السيد عبد العزيز بن عثمان التويجري، مدير عام الإيسيسكو، السيد نورالدين شماعو، مدير جمعية أبي رقراق، السيد محمد العبادي، أمين عام الرابطة المحمدية لعلماء المغرب، السيدة لويزة بولبراس، أستاذة جامعات، كلية الآداب ظهر المهراز، السيد عبد الرحمن طنكول، عميد كلية الآداب السابق بفاس، السيد عبد الهادي التازي، عضو أكاديمية المملكة المغربية، السيد حميد عبد الرحيم عيد، أستاذ مبرز، كلية العلوم، جامعة القاهرة، السيد سعيد عبد الحفيظ حجاوي، رئيس مؤسسة آل البيت، الأردن، السيد عبد الله العثيمين، الأمين العام للجائزة الدولية للملك فيصل، السيد حسين نصار، أستاذ، كلية الآداب، جامعة القاهرة، الدكتور مانع سعيد العتيبة، الوزير السابق والمستشار بدولة الإمارات العربية المتحدة وغيرهم من الشخصيات المغربية والعربية والدولية. وعندما أردنا تكريم هذا العالم الجليل، فإننا انطلقنا من خصوصية هذا الرجل الفذ الذي التزم الفكر وقضايا بلده ووطنه وأمته في كل الظروف وفي كل الأحوال، حيث قضى كل حياته ومازال يقضيها ناسكاً في محراب العلم المقدس؛ وكل الشواهد كانت كافية لإثبات أن عباس الجراري عالم يشرف المغرب يحق أن يوضع اسمه ضمن جهابذة العلماء الكبار الذين سجلوا أسماءهم بحروف من نور في سجل التأليف والتنقيب والترحال ومكارم الأخلاق. وإذا كان مما صنع لمساهمة سيدي عباس الجراري أطال الله عمره في ميادين الفكر والعلم والعمل الدؤوب فرادتها ونوعيتها ما انطوت عليه ثقافته وذكاؤه من موسوعة وثراء عزت لها النظائر -مغربيا وعالميا- فإن مما صنع لها قراراتها وصدقها التزام العالم الجليل قضايا الوطن والأمة، فغدا صاحب مشروع بأتم معنى الكلمة، وهو من شجرة طيبة، شجرة العلم والفكر، أصلها ثابت وفروعها في السماء جنت منه البشرية أكثر من 50 تأليفا، فكيف يمكن أن نؤتي الأستاذ عباس الجراري حقه وثبته عز له النظائر في القديم والحديث.

وأجمع الجميع أنه ليس من اليسير أن نتحدث عن علم هو نهر من العلم المتدفق، ورمز من رموز العطاء الفكري والأدبي، ومورد عذب لكل متعطش إلى المعرفة والثقافة بمختلف فروعها. فهو حبيب الجميع فذ عاشق لتراث أمتنا، مثابر على إحياء هذا التراث والمحافظة عليه بكل الإخلاص والتفاني.

وما كان عطاء حبيب الجميع، الأستاذ عباس الجراري، ليقتصر على التدريس الجامعي فحسب -وما أعظم ذلك بحد ذاته-، ولكن ذلك العطاء تدفق ليكون من ثماره اليانعة أكثر من خمسين مؤلفا منشورا تمتع، وانتفع، بها الكثيرون، إضافة إلى ما يقرب من ذلك العدد ما هو اخذ طريقه إلى النشر. والمتأمل في عطائه الفكري والأدبي الثقافي، منشورا ومنتظرا النشر، يجد أنه لم يكن في ميدان واحد من الفكر والأدب والثقافة، بل كان متعدد الجوانب. منها ما هو دراسات مغربية، ومنها ما هو عن التراث الشعبي، ومنها ما هو الأدب العربي الإسلامي، وما هو دراسات أندلسية، إضافة إلى كتابات في الفكر والثقافة عموماً، وما هو عن الفكر الإسلامي. وموسوعة بمثل ذلك العطاء المتميز لا غرابة أن حظي بما يستحقه من أوسمة وجوائز؛ تكريما وتقديرا، لا من وطنه العزيز فحسب، بل من أوطان عربية أخرى.

ومن الشهادات التي قيلت في حقه شهادة عبد الهادي التازي الذي عرفه أولا فتى يخدم والده المبجل العلامة عبد الله الذي عن طريقه عرفنا كيف نقرأ تاريخ المغرب بطريقة حداثية.

وكان أساتذته يقولون عنه «إنه سيكون من أمره ما يكون»، وبالفعل فقد أمسى عباس يطل على معارج الكمال، وقد حضر الناس له مجالس علمية كان فيها شامخا متفوقا على الذين كانوا يهابون اقترابه من موقعهم أو اقتحامه، وكان الرجل يخطو خطواته في تؤدة وثقة بالنفس عالية وبتواضع جم وأريحية منقطعة النظير.

وكان بعض المعاصرين يتوجسون من فكر عباس الجراري، وزاد عباس الذي كان ينمو ويربو باستمرار، وفي توازن وتنوع، وعمق يغبط عليها.. نقف على هذا التوازن وهذا العمق في تدخلاته الطارئة التي لم يسبقها تحضير، نقف على ذلك في تآليفه وفي محاضراته التي ننعم فيها بأحاديثه المبدعة الرائعة التي كان من آخرها حديثه عن مدى أهمية النقد الذاتي والحاجة إليها مما يعبر عن تطلع الرجل إلى حياة تسودها الموضوعية والصدق ونكران الذات. ليس هذا فقط ولكن تعليقاته المرتجلة على ما يجري في الساحة من نقاش، وما ذكر أبدا أن حضوره في الأكاديمية كان من أجل الحضور فقط.. ولكن اسمه دائما كان مسموعا في قاعة الاجتماع وعلى الذين يرغبون في الاطلاع على البقية أن يزوروا أرشيف أكاديمية المملكة المغربية ويرتكنوا إلى زواياها.

وفي رحاب التازي، رأى المتدخلون ضرورة التنويه بالسيدة الفضلى الأستاذة حميدة الصائغ، والتي تكون دائماً أمينة السر في هذا «النادي» بمن يحتفي بها من باقات عطره، أمينة السر في «النادي» التي لا تغيب لحظة عن عباس، وتلك خصائص كريمات الناس من أهل فاس ومكناس. هذه السيدة هي التي عنيت بالتقادم التي كان عباس يرضي بها أولئك الذين يتمعشرون به، ويرجونه أن يفتح بها مؤلفاتهم تحية من عنده، وأنصح كل متتبع حصيف أن يرجع إليها فهي ليست بتحايا عابرة تروم إلى المجاملة والمكارمة، ولكنها تحايا تحمل معها عطايا ومزايا.

إذا لم تكن في منزل المرء حرة

تدبره ضاعت مصالح داره

ومن أجمل ما قيل شعريا في الأستاذ عباس الجراري في احتفالية التكريم، قصيدة الدكتور مانع سعيد العتيبة التي جاء فيها:

يا صاحبي يا نهر فكر جاري

الأرض في شوق إلى الأنهار

والفكر قبل الماء مطلوب فلا

تبخل على الأجيال بالأفكار

ناداك وحي الشعر فانظم عقده

بحروف نور أيها الجيراري

لا تخف ما في القلب فهو مقدس

وحذار من قتل الشعور حذار

الشعر صوت الحب رجع غنائه

وأراك ميالا إلى الإنكار

يا صاحبي عيناك عينا عاشق

أما الدليل فغيبة استقرار

أحببت يا عباس مجد عروبة

فعلام تخفي حبها وتداري

أعطيتها العمر الجميل ولا أرى

جودا يفوق الجود بالأعمار

يا أيها الإنسان لست مبالغا

لو قلت : إنك قبلة الأنظار

علم وآداب وحس مرهف

ومواطن من مغرب الأحرار

يا عاشق الملحون مدرك سره

والشعر غابات من الأسرار

عايشته وقرأته بمحبة

كقراءة التاريخ للآثار

وله طربت لأنه يا صاحبي

صوتُ الحمى وغناءُ أهل الدار

عباس يا أوفى الرجال أقولها

والحب في عينيّ وهج نهار

إن الوفاء حضارة يرقى بها

عرب وتعشب بالوفاء صحاري

تكريم مثلك واجب يا صاحبي

فعلٌ جميل رائع وحضاري

فيه اعتراف بالجميل لعالِم

أعطى عطاء الفارس المغوار

عباس دمت لنا سراجا هاديا

في عتمة الليل الطويل الضاري

واحمل رسالة أمة عربية

ترنو إليك بعزة وفخار

وأنر قلوب العالمين بما لها

في الحب من فضلٍ ومن إيثار

فألف باقة حب وود لرجل الفكر وعمدة خدام الفكر العربي الكبار، إلى معالي الأستاذ عباس الجراري والداً وأستاذاً ومربياً وصديقاً.

مقالات أخرى للكاتب