Saturday 08/02/2014 Issue 15108 السبت 08 ربيع الثاني 1435 العدد
08-02-2014

بَشَرٌ.. ويعبرون..!!

خرجت من بوابة الجامعة العريقة متجهة إلى الضفة الأخرى من الطريق راجلة لتتنفس قدماها, بيدها حزمة أوراق كانت قد أدت قطفها حرفاً حرفاً.., منتشية برائحة العبق الذي تركته في جوفها..

المسافة لم تكن قصيرة لتلحق بأول مقعد يحملها لمدينة أخرى تركت فيها حقيبتها, وموعد سفر..

في الطريق بين الجامعة، ومحطة القطار استوقفتها رسومات على طول الطريق زخرفت جدران العبور..

ضحكت وهي تتأكد عند اقترابها منها بأنها أصوات العابرين.. سواء بفرح أو بأسى..!

إذن ليس هناك وحيد يعبث بفضاء الجدران، بل في أي مكان..!

وفي المحطة لقيت «العابث» أيضاً يشكل بزخارف ألوانه, مرايا مجسمة لاعتلاجاته..

في مقهى المحطة كانت أكواب القهوة، وكؤوس العصير، وأنيات السلاطات على الطاولات, والوجبات الخفيفة، مرسوم شيء منها أيضاً بأشكال كاريكاتورية, بعضها بحروف واضحة كلماتها، وبعضها برموز عاجلة يفهمها أهل لغتها..

قرأتْها كلَّها وهي تتلفت لكل حيز من حولها فتجد من مرَّ به ترك صوته، ومضى..

ذهب المعبِّرون, وبقيت قلوبهم, وجأشهم, ودمعهم, وغضبهم, ورضاهم, وحاجتهم, وفرحهم, وسخريتهم، وأصواتهم على الجدران.. والسطوح..

بل بالغ منهم من حجب منها حيزا بلوحة ورقية ترك فيها كلامه, ومضى..

أهم عابثون حقاً من يتكلمون بصمت..؟

على نداء موعد تحرك القطار تركتْ قهوتها، وانعكاسَ نظراتها بصماتٍ في المكان، وذهبَتْ..

لم تترك غير الدهشة, وأسئلة..!

في القطار وهي تقرأ رواية عن معاناة السود, ورحلة كفاحهم للعيش بسلام، وصور اندحاراتهم، تذكرت الآنسة «ريفر» أستاذة الأدب في جامعتها على نهر المسيسبي، تلك السوداء الفارهة..

كانت أول من تحدث أمامها في قاعة درس عن الأصوات الخافتة الصاخبة.., عندما كانت تشرح قصائد تحمل هم الإنسان حين يولد منبوذا في مكانه.., ويحيا على قوت أعصابه..الإنسان الأسود في أمريكا..

هذه الرواية ذكرَتْها ساعتها بالآنسة «ريفر» وهي تصفق لها بدهشة، بعد أن أصغت لمشاركتها في القاعة حين قالت فيها: يا آنسة ريفر وزملائي، ليست تلك الأصوات فقط في الروايات الطويلة, وقطع الموسيقى الزرقاء, والقصص الملحمية، والقصائد الإنسانية التي تحمل التعبير الصامت الصاخب، لكنها في رأي هي أيضاً تلك التي تخرج من الصدر، وتتشكل في حركة لاعب سيرك, وهيئة دمية متحركة, أو مهرج فوق مسرح, أو درويش في الشارع, أو عراب في حديقة حيوان..، الآنسة «ريفر» تركت دفء مصافحتها لها، تلمسته وهي تواصل في القطار قراءتها.. فخرجت لها «الآنسة «ريفر» من بين صفحات الكتاب.. تجسمت ورقة في صورتها الناحلة يومذاك, وعيناها كانتا تشعان بقهر اللون الذي تحمله.. تماماً كلون الحبر الذي غطى جدران المحطة، وشوارع المدينة،..

قالت لطيف «ريفر» الذي تجسد أمامها: لو أنك تسمعين يا آنستي ما أضيف الآن: الصوت الصامت الصاخب هو أيضاً على الجدران,.. فالإنسان الذي في كبد ديمومي، لن ينتهي به المطاف.., وليس هو العابث في الوجود أبداً...!!

انغمست في قراءة الرواية بين يديها حتى توقف القطار, وترجلت لتصافح أصواتاً صاخبة خافتة أخرى حتى بلغت المكان..

فالمجتمع البشري حتى في أرقى بقع الكون يبقى بشريا.., ويعتريه القصور.., وتلم به الكربات, وتصدح في جوانبه الأمنيات..

وتحديداً في هذه المرحلة من فوضى الحروب, وعلو مراتب الدخان النار, وفوضى الخليط, وشتات الأفكار.

()()()

بالتأكيد هناك في كل مجتمع من الدارسين من يعنى بكتابة بحوث عن «أدب» الأصوات على الجدران.., وفي النكات, وفي جميع أشكال التعبير.. لما تفرزه مآسي الفقر, والجهل, والعدوان الذي يعم البشرية.., وعلى مستوى المجتمع البشري قاطبة، حيث لم تفده حتى الآن بالشكل الحازم, والحاسم منظمات أخذت على نفسها حمايته، ومعالجة أمنه, واستقراره.., ولم تفلح..

فهذه الوسائل للتعبير مصدر ثري لمعرفة حاجات الناس, ومنازل آلامهم، ومواطن خيباتهم, بمثل ما هي كشف لخيوط توصل لعوامل عبثهم، وتسيبهم, وقصور وعيهم في حال أن تكون الأسباب هم الأفراد أنفسهم..

عنوان المراسلة: الرياض 11683 **** ص.ب 93855

مقالات أخرى للكاتب