Saturday 01/03/2014 Issue 15129 السبت 29 ربيع الثاني 1435 العدد
01-03-2014

نعمة النسيان

شكرا لك أيتها الذاكرة البيضاء!

شكرا لك أيها السجل الخالي من أي نقش، من أي رسم، من أي وجوه لم تكن عابرة كانت تسكنه وتشقيه!

شكرا لعدم التذكر!

ما أجملك أيتها الذكرة حين تدب إليك الشيخوخة مبكرة!

كم أنت حان ورقيق وعذب أيها السجل الناصع الذي يعبر بنا محطات هذه الحياة دون أن توقفنا مكرهين عند تلك العتبات المؤلمة التي فقدنا فيها بعضا؛ لقد رحلوا ببعضنا وتركوا لنا بعضنا ليس إلا!

خذ معك أيها النسيان ما بقي في الذاكرة من وشم الماضي وارحل به بعيداً بعيداً؛ فأنا لا أملك قدرا كافيا من الصمود أمام وجوه من أحببت.. ثم رحلوا!

كيف يمكن أن أحيا ووجوههم تستبد بي ليلاً ونهاراً؟!

هذا وجهها الصبوح المتوقد بالمحبة والحنو والحنان تشرق به أيامي، وهذا وجهه الممتلئ حكمة ورجولة وثقة يمطرني بوابل عذب من الدعوات والصلوات وتراتيل الحماية والوقاية والتوفيق والصلاح!

هذه خلواتنا التي كانت تضج بدم الشباب المتوقد القوي الذي لم يكن صاحبه يخشى أن يهزم يوماً في إبراهيم، وبروح الألفة والطيبة والسماحة والنقاء في عبد الرحمن ؛ يجتمعون وكأنهم ليسوا جميعا على موعد مع فراق آزف قد يحل قريبا!

يلتقون وتلتقي معهم بساطة الحياة وعذوبتها وتغادر بحضورهم البهي المبهج مشاعر التعب والشكوى!

غادرني أيها الماضي!

امسح ما نقشته على صفحاتك من قصص وحكايات!

فقد غادرني في ومضة عين من أحببت ؛ كيف يمكن أن نحيا بدون أحبابنا الذين سكنونا واختلطت ذراتهم بذراتنا وامتزجت كريات دمائهم بكريات دمائنا؟!

فلو أن الذاكرة التي وهبنا الله إياها تعمل بكامل طاقتها كل وقت وحين، صباحاً ومساءً، إشراقا وغروبا لما تذوقنا ساعة هناء، ولا كركرنا، ولا شدونا طربا بلحن أو غناء!

لولا نعمة النسيان التي وهبنا الله إياها لكانت الوقائع السوداء التي رقمها الزمن كالوشم في ذاكراتنا حاضرة أبدا كشاشة عرض مخيفة مرعبة!

إنها نعمة النسيان!

النعمة التي تجعل بيننا وبين ذلك الماضي أستارا ثقيلة عميقة من النسيان!

هل أتذكر ؟!

لا .. لن أوقظ الساكن النائم مما تخزنه الذاكرة في تجاويفها العميقة!

في كل يوم يمنحني الإله الكريم مزيدا من نعمة النسيان يمنحني قدرا أكبر على الحياة بدون ألم، وعلى النوم بدون شاشات عرض لوقائع غربت وأصبحت كبقايا وشم على ظاهر اليد!

يا رب امنحني قدرا كافيا من الصبر والحكمة كي أحتفظ بما يبهج وأمسح ما يشقي!

يا رب امنحني قوة على الانتصار على التاريخ!

فالتاريخ الذي دونته الذاكرة في دفاترها العتيقة أهم عندي كثيرا من تاريخ كل العالم!

ماذا يهمني من تاريخ البشرية إن هي سعدت أو شقيت ؟ هل أملك أن أمنحها السعادة والعدل والحرية والكرامة والمحبة إن هي فقدتها ؟! هل أملك خاتم سليمان كي أحضر لها دواء ناجعا يشفيها من أوجاعها المزمنة ؟ هل يمكن إن تذكرت الحروب والمآسي أن أرسم بسمة ضائعة على وجه طفل بائس ؟! أو أن أمنح لقمة سائغة لفم جائع ؟ أو أن أواسي مكلوما على فقد حبيب مزقته شظايا آثمة ؟!

لن أصلح هذا العالم البائس بتذكر مآسيه ؛ يكفي أن أصلح ذاكرتي بموت مآسيها!

كيف نعطل آلة التذكر فينا؟!

كيف نمسح من تجاويف النواقل العصبية وأسلاك التوصيل الدقيقة في خلايانا ما احتفظت به من صور وذكريات وقصص وملامح وضحكات وليالي أنس وأيام مسرة، لو اشتغلت تلك الذاكرة المحتشدة بكل ذلك التاريخ الحافل بصور ومباهج وأنس ووفاء وجمال ونقاء من رحلوا من الأحباب لن نكون مع الأحياء، بل سنكون حتما مع من غادرونا، مع من أخذوا معهم مضغة واجفة ساكنة بين الأضلع وتركوا لنا جسدا وحيدا غريبا إلا من ذاكرة يدب بها على الأرض بوحشة!.

moh.alowain@gmail.com

mALowein@

مقالات أخرى للكاتب