Sunday 06/04/2014 Issue 15165 الأحد 06 جمادى الآخرة 1435 العدد
06-04-2014

أربعٌ وعشرون ساعة .. في «غادة الجنوب»! 1-2

على ما يُسمى بـ(الطريق الساحلي) - الذي لا ترى البحر منه (أبداً)!! - بين (جدة) و(القنفذة).. كنا نسير في ذلك اليوم الربيعي من أيام شهر آذار - مارس - الماضي.. في طريقنا إلى مدينة (القنفذة) الساحلية بصحبة الصديقين الكريمين: الدكتور عبد الله السلمي رئيس نادي جدة الأدبي، والأستاذ

عبد العزيز قزَّان (الإذاعي) الفنان وعضو مجلس إدارة النادي، اللذان أصرَّا - تفضلاً منهما - على هذه الرفقة.. حتى يتمكنا من حضور (المحاضرة) المتفق على إلقائها مساء ذلك اليوم بـ(الكلية الجامعية).. تلبية لدعوة (اللجنة الثقافية بالقنفذة) التي تتبع إدارياً رئاسة نادي جدة الأدبي..؟! وهو ما علمته بعد اتفاقي الهاتفي.. مع سكرتير اللجنة والمسؤول عن إدارة علاقاتها العامة: الأستاذ حسن الجفري.. المتّقد حيوية ونشاطاً.

خلف مقود العربة.. كان الأستاذ القزَّان يتكلم: يحكي و(يدردش) ويتذكّر بعضاً من أجمل ما حفظته ذاكرته من عيون الشعر العربي، في محاولة منه.. لتبديد صمت الطريق وامتصاص مشاعر القلق.. التي أخذت تستبد بنا هلعاً من الطريق ورياحه الخماسينية العاصفة، وغباره الذي كان يزداد سوءاً كلما أوغلنا سيرنا جنوباً في اتجاه مدينة (الليث)، والتي تقع على منتصف المسافة.. بين (جدة) و(القنفذة)، وإلى الحد الذي جعلني أقترح على الصديقين: فكرة.. العودة إلى (جدة)!؟ والاتصال بالأستاذ الجفري.. الذي كان يتابع سيرنا على الطريق ساعة بساعة.. بطلب (تأجيل) المحاضرة إلى يوم آخر.. باعتبار أن قدومنا إلى (القنفذة) هو من أجل تقديم محاضرة لأعضاء ناديها الأدبي أو لجنتها الثقافية ولجمهور مثقفي ومثقفات القنفذة.. وليس تقديم أرواحنا لـ (مهلكة) هذه العواصف، وهذا الغبار المتزايد، وهذه الرمال الزاحفة على الطريق.. حتى يكاد لا يبين، لكن الصديقين العزيزين - وهما أصحاب خبرة بـ (الطريق) من كثرة ارتيادهما له - كان لهما رأي آخر.. عبَّر عنه الدكتور السلمي عندما اقترح بأن نتمهل في سيرنا وفق معطيات الأجواء في تلك الظهيرة.. حتى نصل إلى مدينة (الليث)، وعندها نتأمل الأجواء مجدداً.. فإن أصبحت أفضل مما كنا فيه.. واصلنا سيرنا إلى (القنفذة)، وإن ظلت على ما كانت عليه أو أسوأ.. عدنا أدراجنا إلى (جدة)..؟!

كان (الرأي).. حصيفاً دون شك، ينأى بنا عن حرج الاعتذار وطلب التأجيل إلى يوم آخر.. أو إلى موعد آخر، لنواصل سيرنا.. بهدوء وتؤدة، ويواصل الأستاذ القزان.. أحاديثه وأشعاره.. بل وقصصه و(قفشاته) وكأنه يتحدث في إحدى حلقات برنامجه الإذاعي الأكثر شعبية واستماعاً: (سنابل الكلمات)، وهو يدفع لي بنسخة من آخر إصدار لصديقنا المشترك الدكتور سعيد السريحي الكاتب والناقد الأدبي المعروف عن حي (الرويس).. عن حياته وأحزانه.. عن نشأته وأيامه ولياليه.. وعن ذاكرته الدفينة على شواطئه وتحت أصدافه، وخيراً فعل.. فقد شدّني (السريحي) بعذوبة أسلوبه، ورشاقة سرده وانتقائيته الإنسانية الرائعة لما كان في تلك الأيام الأولى من حياة هذا (الحي) بخليط بيئته: «البدوية» الصحراوية من المزارعين والرعاة، و»السواحلية» من عمال البحر والصيادين.. المنسجمة مع بعضها وفقرها وقلتها تمام الانسجام، فإن (تعشّى) أبناؤها ورجالها.. حمدوا الله على نعمه، وإن لم يجدوا ما يأكلونه وباتوا على (الطوى).. دعوا الله.. أن يعوضهم خيراً في غدهم، و(جميعهم) ينظرون من على بُعد تلك الأكيال الخمسة.. إلى «بعبع» المدينة المتحصنة خلف شبعها وعمرانها الفاره، وسورها العتيد والعنيد الذي يقفل أبوابه مع غروب شمس كل يوم.. فلا يفتحها إلا مع شروق شمس اليوم التالي..؟!

لقد أنستني تلك العشرون صفحة الأولى (الماتعة) من (رويس) السريحي.. خيبتي في الحصول على إطلالة على البحر - عبر استراحة أو مقهى - في هذه الطريق الطويلة الممتدة لمائة وستين كيلاً.. والمسماة بـ (الطريق الساحلي) والتي لا علاقة لها بالساحل أو البحر.. إلا أنها تمر بمحاذاته من على بُعد يتراوح ما بين ثلاثين إلى خمسين كيلاً..؟! وهو ما أكد لي فعلاً (خصوصيتنا) المضحكة المبكية في تسمية الأشياء بغير أسمائها..؟!

* * *

في استراحة (ريدان) الجميلة وغير المتوقعة.. عند مدخل مدينة (الليث)، ومع فنجان القهوة الدافئ والمُشْبِع - الذي طال انتظارنا وشوقنا إليه -.. بدت الأجواء من حولنا أقل حدة وخطورة، وأكثر أمناً، فقد خفت هبات (الخماسين) المتلاحقة.. ومعها كانت تتحسن الرؤية، ويصفو الأفق.. بما يحسم الأمر لصالح الـ(رأي) الذي أطلقه الدكتور السلمي في معمعان حيرتنا بين: (الرجوع).. إلى جدة، أو (التقدم) والاستمرار في مواصلة سيرنا إلى (القنفذة)..؟ لنصلها بعد خمس ساعات من الخوف والرجاء، فنجد في استقبالنا على أطرافها: رئيس اللجنة الثقافية الدكتور عبد الله بانقيب وسكرتيرها الأستاذ الجفري، الذي توثّقت علاقتي الهاتفية به.. مع تبادل الرأي بيني وبينه حول (موضوع) المحاضرة، والذي حسمته جاهزيته.. بداية، بأن يكون.. عن (العلاقة الحضارية والثقافية بين جدة والقنفذة)..؟

ولكن.. وقبل أن نذهب إلى (المحاضرة) وقاعتها عند التاسعة - بعد صلاة العشاء - من ذلك اليوم.. كان الزميلان العزيزان بعد الترحيب والسلامات والقبلات التي تبادلوها مع الدكتور السلمي والأستاذ القزان - بحكم علاقتهما الأدبية الثقافية المبكرة مع نادي جدة الأدبي الثقافي - يقترحان علينا القيام بجولة خاطفة لـ (القنفذة) قبل الراحة لسويعة في شاليه (بيت البحر).. بينما كنت أمني النفس بـ (قيلولة) متأخرة عن موعدها.. حتى ولو لنصف ساعة إن جاد عليَّ سلطان النوم بها، فما زلت من أنصار تلك المقولة الرائعة.. في كل مدينة أزورها: (قيلوا.. فإن الشياطين لا تقيل)..؟! إذ إن بعد (القيلولة) تأتي ساعات أخرى.. ويولد مساء جديد..!!

لقد تحقق الأمران.. معاً في النهاية: «الجولة» و»القيلولة» المتأخرة.. لننطلق بعدها قرب التاسعة مساءً إلى (الكلية الجامعية) في قلب المدينة.. فيستلفتني مجدداً ذلك القدر من (نظافة) الميادين والشوارع والأرصفة الذي لمحته في جولة الساعة الأولى في القنفذة، والذي حسبت أنه كان اختياراً مقصوداً أو مبيتاً له من الدكتور بانقيب والأستاذ الجفري.. ليريانا - في تلك الجولة الخاطفة - أفضل وأجمل ما في مدينتهم (القنفذة)، وكما يفعل دهاة أو خبراء المرشدين السياحيين في المدن السياحية.. عندما يأخذون (السياح) إلى أجمل ما في مدنهم!!

ولكن يبدو أن ذلك لم يكن سوى سوء ظن مني.. أو توقع في غير محله، فـ (النظافة) في المدينة.. حقيقة كـ (الخيال)، حتى لتبدو وكأنها تقليد أصيل متوارث.. أو (تاريخ) يتمسك به أبناء (القنفذة): الفخورون بأن (بلدية) مدينتهم - المحافظ على مبناها القديم حتى اليوم - هي (ثاني) بلدية يتم إنشاؤها في العهد السعودي - عام 1351هـ -..!، والفخورون - بالضرورة - برئيس بلديتهم المهندس (علي القرني)، فـ (البلدية) ليست مبنى.. ولكنها (رئيس) و(كادر) من المهندسين والإداريين والمساعدين المخلصين والمحبين لبلديتهم ولمدينتها (القنفذة)، فله ولهم - حتماً - الفضل في هذا المستوى الملفت من النظافة، الذي رأيت المدينة عليه.. في الساعات الأولى من وجودي فيها.

* * *

في صالة الاستقبال الصغيرة الملاصقة لقاعة المحاضرات بـ(الكلية) الجامعية.. التي تضم كليات التربية واللغة العربية والإنجليزية والرياضيات والعلوم (كليات الهندسة والحاسب والعلوم الصحية.. في مواقع أخرى من المدينة.. بينما يجري إنشاء كلية للطب في موقع ثالث).. ومع فنجان ترحيبي من القهوة العربية وحبات من تمر (القنفذة)، ووسط مشاعر حميمية دافئة من قلوب.. من اتسعت لهم (الصالة) من الأدباء والشعراء والأكاديميين.. كان محافظ القنفذة الأستاذ (فضا البقمي) يُفاجئنا بحضوره قادماً للتو من مدينة (تربة) حيث كان في مهمة عمل رسمية سحابة ذلك اليوم.. معتذراً عن تأخره بسبب رداءة الأحوال الجوية التي عانى منها.. كما عانينا، والتي كان يمكن أن تكون مبرراً لـ (اعتذاره) لو أراد، ولكنه آثر (الحضور).. على (الاعتذار)!! تقديراً لـ (اللجنة الثقافية) وأعضائها وعضواتها والدور الذي تقوم به.. واحتفاءً بـ (ضيوفها)، ليتجه جمعنا إلى قاعة المحاضرات.. التي كانت تكاد أن تمتلئ بحضورها من الجنسين.. عن آخرها، ليبدأ (رئيس اللجنة) الدكتور بانقيب بكلمة افتتاح ترحيبية فياضة بالمشاعر، وهو يسلم إدارة الأمسية للأديب الأستاذ (غازي الفقيه).. ليتولى تقديمها بلغة أدبية شاعرية رقيقة مفعمة بالصدق والمحبة، أخجلتني بقدر ما أسعدتني.. وإن كشفت عن أسرار (عُمْرٍ).. كان يصح أن يغض الطرف عنها..!!

على أي حال.. قبيل الدخول إلى تفاصيل (المحاضرة) و(العلاقة الحضارية والثقافية بين جدة والقنفذة)، التي أمكنني جمعها من المراجع والمعاجم وذاكرتي السمعية [نص المحاضرة.. والتعليقات التي أعقبتها موضوعتان على موقع النادي الأدبي الثقافي بجدة فوق شبكة الإنترنت].. كنت أسترجع أمام ذلك الجمع الكريم سؤالي الذي قدمت به: (لِمَ سُميت هذه المدينة الصغيرة الجميلة بـ (القنفذة)؟ وما أورده (المعجم الوسيط) في توصيفه لـ (القنفذ) بأنه (يقضي الليل.. ساعياً)! حتى ليقال عن الإنسان بأنه (قنفذ ليل.. لا ينام)، وهو ما قرّبني - بالدلالة - إلى أن (القنفذة).. هي مدينة تحب الحياة والليل.. وتعشق السهر، إلا أن الأديب الشاب الحسين حسن إبراهيم الفقيه ابن الأديب والمؤرخ المعروف الأستاذ حسن إبراهيم الفقيه.. قدم إضاءة تاريخية في آخر دقائق الأمسية، عندما قال: بأن بعضاً من أبناء (حضرموت) قدموا إلى هذه البقعة على ساحل البحر الأحمر.. ربما وهم في طريقهم إلى (جدة) أو ساحل مكة للحج أو العمرة، وأنهم أقاموا فيها وأسموها بـ (القنفذة).. طبعاً (دون مذكرة إيضاحية.. عن أسبابهم في هذه التسمية)، التي ربما قطعت الطريق على اسمها العربي التاريخي القديم: الـ (قناة).. كما يقول (الحموي)، ولم تسمح بتسيّد اسم (البندر) الذي أطلقه عليها العثمانيون طوال قرون حكمهم.. التي امتدت لما يزيد على أربعة قرون، وبقي اسمها (القنفذة) الذي أخذت تتداوله الكتابات التاريخية مع بدايات القرن التاسع الهجري.. إلى أن ولد لها اسمها الوصفي الجديد والجميل: (غادة الجنوب) المعبر فعلاً عنها.. وعن بحرها بألوانه الخلاّبة.. وعن إنسانها برقته ووداعته وابتسامته الدائمة، والذي لما يُخدم بعد.. ويروّج له ثقافياً وإعلامياً بما يستحقه، وتلك هي مسؤولية أبنائها.. ومن أحبوها من قبل، ومن سيحبونها من بعد..!!

* * *

مع انتهاء (المحاضرة)، والتعليقات والأسئلة التي أعقبتها .. في جو احتفالي لا يصدق، كان رئيس وأعضاء اللجنة الثقافية .. يدعون الحضور إلى (عشاء) بحديقة الكلية الجامعية، جاء - بالنسبة لثلاثتنا - في موعده حقاً.. بعد صيامنا الطويل منذ الثانية ظهراً .. لنودع بعده الصديقين (الدكتور السلمي والأستاذ القزان) اللذين فضلا العودة إلى جدة .. بينما آثرت البقاء الذي اعتزمته من قبل .. لأرى تفاصيل جمال هذه (الغادة)؟ فـ(المدن) .. تعاش مساءً .. ولكنها تُرى في رابعة النهار .. وهكذا كان، ليصطحبنا - الدكتور بانقيب والأستاذ الجفري - في زيارة ثانية لـ(المدينة) .. وقد انتصف ليلها، لنرى كورنيشها - أو شاطئ النور - كما يسمونه .. بجلساته ومظلاته وممراته .. والبقية من رواده .. فبدا رائقاً رائعاً في سكون الليل ونسماته الجميلة والساهرون في كنفه .. لأواصل مشاهدة بقية تفاصيلها في اليوم التالي..؟

- جدة

مقالات أخرى للكاتب