Saturday 12/04/2014 Issue 15171 السبت 12 جمادى الآخرة 1435 العدد
12-04-2014

عسى الله أن يتوب عليهم

ليس من معاني (عسى) في لغة العرب أنَّ المُرَجَّى به واجبُ الحُصولِ؛ وإنما فيها قوة الرجاء، وقد حملها على الوجوب عدد من المفسِّرين؛ لأنه ثبت بدليل من خارج الآية أن الله تعالى تاب عليهم، ولأن الآية عن قوم صدقوا التوبة.. وأما من خلط ومات وهو على خلطه ولم يتب فهو الظالم

لنفسه، وحكمه في سورة فاطر، وحكم هذه الآية عامٌّ للأمَّة؛ لأن خصوص السبب ههنا غير مؤثر في عموم الحكم.. قال الحافظ ابن كثير: «هذه الآية وإن كانت نزلت في أُناسٍ معيَّنين إلا أنها عامةٌ في كل المذنبين الخاطئين المخلطين».

قال أبوعبدالرحمن: بشرط الاعتراف والتوبة، وكلمة {عَسَى} ههنا حملها عدد من المفسرين على معنى الوجوب.. قال الفراء في كتابه (معاني القرآن): «عسى من الله واجب إن شاء الله»، وهكذا حملها على الوجوب النحاس في كتابه معاني القرآن، وأبوالليث في تفسيره بحر العلوم، ومال إلى ذلك أبوالسعود في تفسيره قولَه تعالى: {إِنِ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة التوبة / 102)؛ إذْ قال: «وهو تعليل لما تفيده كلمة عسى من وجوب القبول؛ فإنها للإطماع الذي هو من أكرم الأكرمين إيجاب.. وأيُّ إيجاب؟»، وتابعه إسماعيل حَقِّي في (روح البيان)، وقال محْيِيْ الدين شيخ زاده في حاشيته على البيضاوي: «قال المفسرون: عسى من الله يدل على الوجوب.. إلا أن كلامه تعالى يُنَزَّل على حسب ما يتعارف الناس؛ فالسلطان العظيم إذا التمس المحتاجُ منه شيئاً فإنه لا يُجيب إلا بما يدل على الترجِّي والطمع كلعلَّ وعسى؛ تنبيهاً على أنه ليس لأحد أن يُلزمني شيئاً، وأني لا أفعل إلا على سبيل التفضل والكرم؛ فهذا المعنى هو فائدة ذكر عسى و(لعلّ) في مثل هذا الموضع»، وقال الجمل في حاشيته على الجلالين: ((قال القسطلاني: عبَّر [الأسلم أخبر] بعسى للإشعار بأن ما يفعله تعالى ليس إلا على سبيل التفضُّل منه حتى لا يَتَّكِلَ المرء؛ بل يكون على خوف وحذر.. وفي المواهب ما نصه: واتفق المفسرون على أن كلمة عسى من الله واجبة.. قال أهل المعاني: (لأن لفظة عسى تفيد الإطماع، ومن أَطْمَعَ إنساناً في شيء ثم حرمه كان عاراً عليه، والله تعالى أكرم من أن يُطْمِع أحداً في شيئ ثم لا يعطيه إياه)، وقوله: (واجب) أي ثابت بمعنى أن ما دلَّتْ عليه من الترجِّي ليس مراداً في حقه تعالى؛ بل هو مُحَقَّقٌ الحصول»، وتابع الصاوِيُّ أستاذَه الجملَ باختصاره عبارة المواهب؛ إذْ ذكر نصَّ أهل المعاني.

قال أبوعبدالرحمن: معنى قوله: ((ليس مُراداً في حَقِّه تعالى)) أن الله لا يُعْجِزه شيئ فَيَرْجُوه؛ وإنما الرجاء تعليمٌ من الخالق للمخلوق، وَوَعْدٌ من الخالق جَلَّ جلاله مشروطٌ بأدلة شرعية غير دلالة (عسى) كما سيأتي بيانه، ويظهر لي أنَّ (عسى) كانت فعلاً ماضياً من الواوي (عسا) بمعنى اشتدّ وقوي؛ فلما أصبح لها زيادةُ دلالة، واشْتُقَّ منها معانٍ من اليائي: استقلَّتْ مادةً يائية.. هذا على فرض أنها واوية، وإلا ففي القاموس: عسا النبت، وعَسِيَ.. وبيان اشتقاق معنى عسى للترجي من معنى عسا (أي قوي واشتد) وارِدٌ في تأصيل الإمام ابن فارس؛ إذْ ذكر أن العين والسين والحرف المعتل أصل في قوة الشيئ واشتداده.. فلما كان هذا هو الأصل دلَّ على أن الرجاء مُشْتَقٌّ من هذا المعنى العام؛ لأن كلَّ شيئ اشتدَّ وقوي فقد أوشك على غايته، وقرب ما يُرجى منه؛فعلى سبيل المثال إذا صوَّح النبت، واستعجل القومُ الذهابَ؛ ليقطنوا على المياه قرب الحواضر قال كبيرهم: عَسِيَ النبتُ، أو عسا بمعنى كبر واشتدَّ.. فالمعنى انتظروا، فقد قرب الرحيل وأوشك؛ لأن النبت عسي وكاد يَيْبس.. ثم توسَّع العرب فجعلوا المادة بمعنى نتيجتِها، فصارت عسى بمعنى قرب وأوشك، ومع القرب يشتد الرجاء ويقوى؛ فجعلوا عسى بمعنى أرجو، ويجب أن يكون لها ميزة على أفعال المقاربة بأن تكون لِقُوَّةِ الرجاء وشدته.. وقد بيَّن الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى معناها الأخير فقال: «فأمَّا عسى فكلمة ترجٍّ تدل على قرب وإمكان».. ولدلالتها على القرب والإمكان أصبحت للترجي؛ ولأصل معناها الاشتقاقي كانت لقوة الرجاء وشدَّته؛ فهي رجاء قويٌّ لمرجوٍّ قريب.. وذكر الفيروزآبادي أن عسى تأتي لليقين، ولا أعلم لها استعمالاً كان المطلوبُ فيه مَتيقَّناً بدلالتها، ولو وُجِد الاستعمال لكان هذا مجازاً مَبْنِيّْاً على أن رجحانَ تحقُّقِ المرجو في قوة اليقين، ولعل مَأْخَذَ الفيروزآبادي ما جاء من دعوى أنها للإيجاب في حق الله، كما مضى نقله من كلام المفسرين، وهكذا ذهب جمهور من اللغويين.. قال ابن فارس: «وأهل العلم يقولون: عسى من الله تعالى واجب»، وقال الفيروزآبادي: «ومن الله إيجاب».

قال أبوعبدالرحمن: استعمالها للترجي القويِّ لا غير، وشكُّ المتكلم في حصول المرجوِّ فِعْلُ نفسِه هو، وأما عسى فلم توضع للشك وإن وُجد في النفس؛ وإنما دلَّت مجازاً دلالةً غالبةً الاستعمالَ على قوة الرجاء، وذكر الفيروزآبادي أنها تُشبَّه بكاد.. وهذا وارد؛ لأن القُرْب جزءُ معناها، والجزء الآخر قوة الرجاء.. والخلاصة أن عسى لقوة الرجاء، وليست لليقين ولا الإيجاب؛ وإنما قُرْبُ المرجوِّ يقوِّي الرجاء، ولا يجعل المرجوَّ حتميَّ الحصول.. ومما اشتق منها لغةً لا نحواً الناقةُ المُعْسِية يُشكَّ أبها لبن أم لا؟.. ولابد أن الملحظ في أصل الاشتقاق الرجاء لا الشك، وعدمُ حصول الَمرْجُوِّ لم يُلْغ دلالتها على قوة الرجاء، الذي وُضِعَتْ له؛ وإنما تخلَّف مدلُولها لِغياب العِلْم عن ضَعْفِ الرجاء في مَرْجُوٍّ بعينه؛ لأن الناقةَ المُعْسِيَةَ أخلفت الرجاء.. وهذا في حَقِّ المخلوق، وأما بالنسبة للخالق سبحانه وتعالى في مثل قوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} (سورة محمد/22) فهو عن سابق علمه بما هو الأحرى بالمُخاطب، وما هو الأحرى بأكثر المخاطبين؛ فالتَّعْسِية ههنا ليست أمراً بالرجاء؛ إنما هي خبر عن الإيشاك ومن المعلوم بيقين أن الشَّكَّ المُتَوَهَّم -وقد بينت أنه غير وارد- فإنما هو في المادة اللغوية، ولا يُوجد في (عسى) النحوية، بل هي على بابها في الرجاء في استعمالات أخرى مثل: أَعْسِ به أي أخلق، وهو عسيٌّ بالخير أي خليق به، وبالعَسَى أن تفعل أي بالَحرِيِّ؛ فجاءت كلمات خليق وحري من قوة الرجاء.. ولا أحد يوجب على الله شيئاً؛ لأن له القهر والهيمنة والإحاطة وهو الغني الحميد.. وإذا أوجب على نفسه شيئاً وجب؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يُـخلف الوعْد، ومنزَّه عن كل نقص، والصدق من لوازم كماله في أسمائه وصفاته.. ولو فُرض أن (عسى) للإيجاب في حق الله لكان ذلك بدليل من خارج صيغة (عسى)، ولكان الدليل خبراً من الشرع أن الله أوجب على نفسه أن يحقق الرجاء لمن رجاه.. ولا يوجد خبر بذلك؛ بل إن الله لا يُحقِّق المرجوَّ أحياناً لِعِلَّة في الراجي وعمله، أو لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو سبحانه.. وأما قول الله سبحانه وتعالى: {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة التوبة/ 102). فذلك عن قوم أُمِر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو ويستفر لهم،ومع هذا جعلهم على عُقْبَى ما هم عاملون مُسْتَقْبَلاً بقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (سورة التوبة/ 105)، والآيات من سورة غافر تتناول الخالطين؛ لأنهم بمعنى {ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} (سورة فاطر/ 32) فهؤلاء ماتوا على (الخلط)؛ فهو خبر عمن مات كذلك، وليس ترجية بكلمة (عسى) لمن هو حيَّ لم تتحقق خاتمتُه بعد..والذين أخبر الله عن خاتمتهم نجوا بغير كلمة (عسى )، بل بقوله تعالى عن الأصناف الثلاثة: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (سورة فاطر/ 33) والظالم لنفسه ههنا ليس هو المُجَرَّدُ من الخير، بل هو ببرهان الآية أنه من المُصطفينَ، وببراهين المحاسبة على أن مَن كثر ظلمه لنفسه ولكن له حسنات رَجَح بها ظُلْمُه لنفسه فهذا تحت المشيئة إن شاء رجَّح ميزانه بزيادة ثواب الحسنات ,وإن شاء جعله من أهل الأعراف الناجين، وإن شاء طهَّره بالعذاب، ولا يُخَلَّدُ مؤمن في النار.. وعلى المُكَلَّفِ أن يجتهد في العبادة حال صحته بين الخوف والرجاء؛ فإذا أُقْعِدَ فليعبد الله بقلبه وما يستطيع من حركة اللسان، وليكن على الثقة وَحُسْنِ الظن بربِّه.. وإن كان في حال يأسٍ من نفسه فليكثر بقلبه وحركات لسانه من قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)؛ لعلها تكون هِجِّيراه فيختم الله له بها.. وأولى من ذلك بالقضاء على (فَواتِ الحِرْص) أن يكون تجديدُ الشهادتين في الصباح والمساء هِجِّيراه منذ بلوغه الحلم.. وأمَّا رؤيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي رواها سَمُرة بن جندب رضي الله عنه، وأتم سياق لها في صحيح البخاري في كتاب الرؤيا فهي وحي من الله، وهي خبرٌ عن قوم غفر الله لهم بتحقيقه الرجاء الذي رجَّاهم إياه، وصِفَتهم بيقين أنَّ حسناتهم وسيئاتهم متساويةٌ، وأما الآية الكريمة من سورة التوبة فهي عن ترجيتهم بعسى في المستقبل، وليست خبراً عن عاقبتهم فيما مضى قبل انتهاء أجلهم، وإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله، والله المستعان وعليه الاتكال.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب