Friday 18/04/2014 Issue 15177 الجمعة 18 جمادى الآخرة 1435 العدد
18-04-2014

اليدْ

يقول العلي الكبير سبحانه في توضيح بطلان آلهة المشركين، وأنها جماد لا تحسّ ولا تنفع ولا تضرّ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (195) سورة الأعراف.

قال أبو السعود في تفسيره: تبكيت إثر تبكيت، مؤكد لما قبلها لإفادة،

لما يفيده الأمر التعجيزي من عدم الاستجابة، ببيان فقدان آلاتها بالكلية، فإن الاستجابة من الهياكل الجسمانية، إنما تتصور إذا كان لها حياة، وقوى محركة ومدركة، وما ليس له شيء من ذلك فهو بمعزل عن الأفاعيل بالمرة، كأنه قيل: ألهم هذه الآلات التي بها تتحقق الاستجابة، حتى يمكن استجابتهم لكم، وقد وجه الإنكار للكل، فكل واحدة من هذه الآلات الأربع، على حدة، تكريراً للتبكيت، وتثنية للتقريع، وإشعاراً بأن انتفاء كل واحدة منها، يحيلها: كاف في الدلالة على استحالة الاستجابة، ووصف الأرجل بالمشي بها للإيذان بأن مدار الإنكار هو الوصف، وإنما وجه إلى الأرجل، لا إلى الوصف، بأن يقال: أيمشون بأرجلهم، لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من سائر الأرجل، فهي ليست بأرجل في الحقيقة، وكذا الكلام فيما بعده من الجوارح الثلاث الباقية. (تفسير أبو السعود).

والبدهي في أول نظرة، أن من فقد الاستجابة في واحدة من هذه الأربع لغير علة فهو فاقد الحياة، إذ الكون دلالة من الدلالات الأولية التي يستدل بها الناس على ذلك. فكل من هذه الدّلالات الأربع، المذكورة في الآية الكريمة، تعطي دلالة، على ما أودع الله في الإنسان من سرّ في تكوينه وفي أفعاله وفي الوظائف التي يؤديها كل جهاز فيه، بل وفي الأعمال الكثيرة المتعددة الدقيقة، لكل ذرة في هذا الجسم البشري، الذي سواه العليم القدير، ليكون موطن عبرة، وركيزة تأمل، يدركها كل في مجال تخصصه، وإن كانت النظرة، المتفحصة عند علماء الطب، والأحياء والتشريح أمكن؛ لأن الخصائص تبرز أمامهم في كلّ موقف، ومع كل نظرة. إذ كل جهاز من أجهزة هذا الجسم مهما كبر أو صغر، أو ظهر عمله، وبان ما يؤديه من وظائف، أو كان من الدقة والخفاء بما لا يدرك بعضه.

ولذا، نرى الإنسان تخفى عليه أشياء في جسمه، لذا نراه يتعجب مما يشاهد أكثر مما يسمع، ومن هذا المنطلق ليس غريباً أن ينسى عجائب ذاته، وما أودع الله في جسمه من أسرار، وما تؤديه الأجهزة الدقيقة، والكثيرة من أعمال، وهي أضخم وأدق، وأحكم وأعمق مما حوله من صناعات، وأجهزة بما لا يدع مجالاً للقياس، والمثل العربي يقول: ليس راء كمن سمع.

والدراسات العلمية، أبرزت بعضاً من ذلك، فهذه مجلة العلوم الإنجليزية تقول مثلاً: إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعية الفذة، وإنه من المستحيل أن تبتكر آلة تصارع اليد البشرية، من حيث البساطة والقدرة والسرعة والدقة والتكيّف، فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك، ثم ثبته في الوضع الملائم للقراءة، وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائياً، وحينما تقلب إحدى صفحاته، تضع أصابعك تحت الورقة، وتضغط عليها بالدرجة التي تقلبها بها، ثم يزول الضغط بقلب الورقة، واليد تمسك القلم وتكتب به، وتستعمل كافة الآلات، التي تلزم الإنسان من ملعقه إلى سكين، إلى آلة الكتابة، وتفتح النوافذ وتغلقها، وتحمل كلّ ما يريده الإنسان، واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة، وتسع عشرة من العضلات لكل منها عمله.

هذه الأعمال العجيبة، التي نوّهت عنها هذه المجلة هي جزء صغير من الأعمال الدقيقة والكثيرة التي تؤديها اليد، ويمسّ بها الإنسان في كل موقف، من مواقف حياته، وفي كل تصرّف من أعماله.

ويدرك ذلك الراغب في التوسع الكامل في عرض التكوين الخِلْقي في هذه اليد وما تؤديه من أعمال بالغة الدقة والحساسية، ومحكمة الأداء، وحسن التوجيه من مراقبة الأعمال الكثيرة التي تؤديها هذه اليد ومع كل حرفة من الحرف.

وكبرهان أدق في دور اليد، وأثرها البالغ في المنزلة الرفيعة والأهمية، أن العلم الحديث في أدقّ صناعاته، وفي أهم أجهزته (الإلكترونية)، وأحوط أعماله الحسابية، وخاصة العمليات الرياضية التي رصدت بأجهزة الكمبيوتر، تلك الاختراعات التي استحوذت على عقل الإنسان وفكره، حتى سمي هذا العصر بعصر (الكمبيوتر).

هذا العلم الحديث بصناعاته، ومخترعاته، وبجهد مفكريه وموجهيه، لم يستطيعوا الاستغناء عن اليد في عملها إذ هي الموجهة، والمصوبة، وهي المحركة والفاعلة، وهي المسيطرة في الأعمال الدقيقة، والمصححة لأي خطأ يطرأ، بل الأهم من ذلك أنها المبرمجة، والخازنة للمعلومات الحديثة في جميع الأجهزة والمخترعات الحديثة، وفي أي جهاز من تلك الأجهزة الحديثة.

وبدون ما تقوم به هذه اليد من أمور كثيرة، ومسائل قيادية تعليمية، فإن تلك الأجهزة، تتحول إلى جماد لا يعطي ولا ينبئ عن الدلالة المقصودة بغير اليد، ومع كثرة المهمات والأعمال من اليد فإن الإسلام أرخصها عندما تسرق جزاء من عند الله، بآية من سورة المائدة يقول سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (38) سورة المائدة.

ولما سرقت المخزومية، جاء نفر يتشفّعون فيها، فقال - صلى الله عليه وسلم: والله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.

وقد قال بعض الزنادقة، معترضاً ومستخفاً بهذا الحكم:

يد بعشر مئين عسْجدٍ فديتْ

ما بالها قطعت في ربع دينار

فرد عليه ابن القيم في قصيدة، منها هذا البيت:

عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها

ذلّ الخيانة فافهم حكمة الباري

وقد فضل الله اليد ففيها السبابة التي هي للتشهد، والأصابع مع دقتها وعظامها فإنها يعدّ بها تسبيح الله وتحميده، وهي مقياس حرارة، لتمييز ما يتلاءم مع الجسم، وأعمال كثيرة لا تحصى ولا يدري عنها إلا بعد ما تصاب بأذى، أو كسر في اليد، حيث تنشل اليد، فسبحان الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه، ومنها أعضاء جسم الإنسان، ولا يقدّرها الإنسان، إلا بفقدانها.

mshuwaier@hotmail.com

مقالات أخرى للكاتب