Tuesday 27/05/2014 Issue 15216 الثلاثاء 28 رجب 1435 العدد
27-05-2014

التقنين ضرورة مدنية

كثيرون لا يعلمون أن أول من نادى بالتقنين، الذي ننادي به اليوم، كان المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز -رحمه الله-. اقرؤوا معي التوجيه الملكي، الصادر قبل قرابة 90 سنة (1346 هـ)، الذي جاء فيه: (إن جلالة الملك حفظه الله، يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية، يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصيين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة وهذه المجلة ستكون مشابهة لمجلة الأحكام التي كانت الحكومة العثمانية وضعتها عام 1293هـ، ولكنها تختلف عنها بأمور؛ أهمها: عدم التقيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر، بل تأخذ ما تراه في صالح المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلاً من الكتاب والسنة).

وهذه المجلة الفقهية المشار إليها في التوجيه، هي بمنطقنا اليوم (تقنين) أو سمها إن أردت (تدوين)؛ أي أن الشريعة المطهرة ستُكتب وتُفصل وتبوب وتقسم، بلغة اليوم، لا بلغة العصور الغابرة، وعلى غرار المواد القانونية، ثم يُلزم القضاة بها.

وأنا بصراحة لم أفهم بواعث المتحفظين على التقنين؛ فالله سبحانه وتعالى يقول : {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} (105) سورة النساء، فربط الأمر بتحكيم شرع الله جل وعلا، وليس بمذهب ولا فقهاء معينين، ولا كتب معينة، ولا اجتهادات عصر محدد.

وكان وزير العدل السابق ورئيس مجلس الشورى حالياً «الدكتور عبدالله بن محمد آل الشيخ» قد صرح لجريدة (الشرق الأوسط) اللندنية في 14 ربيع الثاني 1428 بتصريح قال فيه: (إن الوزارة انتهت من تقنين أحكام المرأة، وأنه سيتم رفعها إلى خادم الحرمين الشريفين وتطبيقها عقب اعتمادها» وقال «إن وزارة العدل وضعت مدونة لأحكام المرأة، والجوانب والآلية التي تحيط بوجود المرأة في المحكمة» وأكد كذلك «أن الوزارة اعتمدت آراء فقهية محددة وموحدة في هذا الجانب، رغبة منها في توحيد هذا الإجراء في كافة المحاكم السعودية، واصفاً المشروع بأنه سيسر المرأة عند ما يتم تطبيقه). ثم صرح «الدكتور محمد العيسى» وزير العدل الحالي للجريدة نفسها في 6 رجب 1429 هـ عن ذات الموضوع قال فيه: (موضوع تدوين الأحكام القضائية، لا يزال قيد الدراسة في هيئة كبار العلماء، حيث ستستكمل دراسة الموضوع في جلسة الهيئة المقبلة)، أي أنه ألقى بالمسؤولية على هيئة كبار العلماء، وحتى الآن لم يتحقق شيئاً من هذه الوعود؛ ومن المؤسف أن هذه القضية التنموية (الجوهرية) ما تزال مكانك راوح منذ 90 سنة؛ وهذا يعني أن هناك من يسعى إلى وضع العصي في العجلة ليمنعها من أن تتقدم إلى الأمام، رغم أن هناك حقيقة -(وليست نظرية)- مفادها: (لا يمكن إطلاقاً أن تنبني دولة متحضرة، وقادرة على التماهي مع العصر، إلا بتقنين الشريعة).

طبعاً لا خلاف على أن مرفق القضاء في المملكة يشهد تطوراً واضحاً وجلياً، خاصة في تنوع المحاكم حسب الاختصاص، وانضباطية القضاة، والتزامهم بالإنجاز، وعدم تأخير المتقاضين، كذلك إدخال التقنية الحديثة إلى إجراءات الضبط والأرشفة؛ هذا لا ينكره إلا واحد من اثنين: إما مغالط، وله غرض يُخفيه، أو أنه يجهل بُطء إجراءات القضاء والقضاة في الماضي، أما الإنسان الموضوعي فلا يمكن إلا أن يُشيد بالقفزات التطويرية الواسعة التي شهدها القضاء، وكذلك كتابات العدل في المملكة مؤخراً؛ رغم محاولات البعض (اللاهثة) للعودة به إلى الوراء.

ولكن سنبقى متخلفين، ما لم (نُقنن) الشريعة، ونكمل ما بدأه المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- حين وحّد المملكة، ووجّه بالتوجيه المشار إليه آنفاً؛ فلا يمكن أن يقبل عاقل أن يُحكم على مجرم اقترف جريمة ما بعقوبة معينة، ويُحكم على مجرم آخر اقترف ذات الجريمة تماماً بعقوبة أشد وبمراحل مما حُكم به على الأول، كما هي أوضاعنا القضائية اليوم؛ والسبب في هذا التفاوت أن هذا القاضي وذاك اجتهدا، فوصل هذا القاضي إلى هذه النتيجة فحكم بها، والقاضي الآخر اجتهد فوصل إلى نتيجة أخرى وحكم بها؛ أما المظلوم في هذا التفاوت بين الأحكام فهو أحد المتقاضيين الذي ساقه حظه (التعيس) عند هذا القاضي، في حين أن من حسن حظ الآخر أن حظه ساقه إلى هذا القاضي الذي اختار هذا الاجتهاد وهذه العقوبة المخففة.

التقنين، وإلزام القضاة به، يُلغي هذا التفاوت إلغاء تاماً؛ والتفاوت في الأحكام -إن وجد- يكون مُعلقاً على التفاوت في تفاصيل الجريمة، وليس تفاوتاً في مرجعيات واجتهادات هذا القاضي أو ذاك.

بقي أن أقول: عندما يغيب التقنين يجب ملاحظة أن القاضي لا يمارس (القضاء) فحسب، وإنما يضطر إلى ممارسة (التشريع) أيضاً، وهذا ما يُعفيه التقنين منه؛ فالقاضي يبقى قاضياً لا مُشرعاً.

إلى اللقاء.

مقالات أخرى للكاتب