Thursday 05/06/2014 Issue 15225 الخميس 07 شعبان 1435 العدد
05-06-2014

في توريث الملك والدين والتجارة

توريث الملك والأمارة في عائلة أو قبيلة له أصل في النصوص الشرعية الثابتة، بعضها صريح وبعضها بدلالة المعنى والعقل. كما أن عليه إجماع المسلمين وعليه عملهم في كل من تولى السلطة العليا في خلافة أو ملك أو أمارة.

فأما المعقول من غير الصريح فهو مفهوم من توريث النبوة في نسل إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. وشاهده في جواز توريث الملك، يقع في كون كثير من الأنبياء كانوا ملوكاً، وكانت الأنبياء تسوس بني إسرائيل كلما مات فيهم نبي قام آخر كما جاء في الحديث.

وأما شاهده في تحريم توريث الدين فسيأتي في موضعه لاحقاً. وأما ما جاء صريحاً في جواز توريث الملك والأمارة فجاء في قوله عليه الصلاة والسلام المروي في البخاري وفي كتب الحديث بألفاظ مختلفة «إنّ هذا الأمر في قريش» وبهذا قال به إمام التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب يحكي عقيدته في قوله رحمه الله «و الخلافة في قريش ما دام في الناس اثنان» ولفظ الخلافة ورد في بعض كتب الحديث.

وهذا الحديث ليس فيه إشكال في فهمه على التأصيل الفقهي الصحيح. بل ويمكن أن نستأنس به كخبر لا تطبيق، فنقول فلعل في الحديث نبؤة باستحالة قيام الخلافة في التاريخ الحديث.

وعودة للتأويل الشرعي الفقهي في التفريق بين أحكام الوسائل وأحكام الغايات في النصوص، وباستحضار تطبيقي للقاعدة العظيمة - التي ما ابتعد عنها إلا خارجي أو متنطع في دينه - وهي قاعدة فاتقوا الله ما استطعتم، مع حقيقة أن الخلافة في قريش أصبحت منذ قرون نوعاً من المحال مع الفقه بأنّ الحديث جاء بوسيلة لتحقيق وسيلة أخرى أعلى منها مرتبة، فإنّ حال الأمر بقريش كحال الأمر بالوضوء الماء إذا استطيع ذلك، فإن لم يستطع ولو مع وجوده فيبقى الأمر بالوضوء ويتجاوز بلا حرج عن وجوب الماء. والأمر بالوضوء بالماء عند الصلاة، جاء لتحقيق وسيلة أعلى منه وهي الطهارة ( والطهارة وسيلة لحكم غاية في نفسه وهو الصلاة).

فإذا عدم الماء فلا تعدم الطهارة. فالخلافة في قريش أمر جاء لتحقيق وسيلة أعلى منها وهي وجود الإمامة. فإذا استحال أو شق على المسلمين الحصول على قرشي صالح لذلك فلا تعدم الإمامة.

وكما أنه يستفاد من حديث الوضوء بالماء، جواز الماء للتطهر في أمور العبادات كلها، فكذلك يستفاد من حديث الخلافة في قريش جواز التوريث في كل أنواع الملك والأمارة.

فأصل جواز التوريث لا غبار عليه. وأما الأمر بقريش فذلك فيما هو دون الخلافة، كالملك والمارة. وتوريث السلطة العليا فيه منافع كما أن فيه مضاراً. وعند العرب فقد أثبتت الأحداث والعصور أنّ في توريث السلطة واستمرارها وقوة سيطرتها، منافع كثيرة تغلب مصلحتها مضارها بمراحل كثيرة.

وأما التوريث في التجارة فهذا أمر فرضته فطرة الإنسان في التعلم عن أبويه واكتساب عادتهما في وراثة المهن والاعتقادات، كما فرضه السوق بتوريثه السمعة، كما فرضه قوة المال التي تغلب المنافسة إذا ما تساوت العوامل الأخرى.

وأما توريث الدين يتوارث المناصب الدينية فهذا ما لم تعرفه الأديان السماوية، وإنما كان في بعض أديان المجوس والهندوس. فالتوريث في الدين ما كان إلا في الأنبياء لحكمة يعلمها الله ومنها، ما ذكرته سابقاً أن بعض الأمم كبني إسرائيل كانت تساس بأنبيائها، وجاء الإسلام قاطعاً لكل نوع من أنواع الوراثة في الدين، فانقطعت به عليه السلام النبوة. وما عرفت النصرانية التوريث في المناصب الدينية والبابوية، على ما حدث فيهما من تحريف وتسلُّط. فالتوريث في المناصب الدينية فيه تطاول على مقام النبوة التي ما جاز التوريث في مقام ديني إلا في مقامها. فالفرق عظيم بين توريث الملك والمهن وتوريث الدين. فالملك متعلق بأسباب الدنيا، والدين متعلق بأسباب الغيب فافترقا وابتعدا كبعد السماء عن الأرض.

وفي هذا دليل على أن منصب الإمارة في الإسلام منصب إداري لا ديني، ولهذا أخذ الصديق أجراً عليه ولم يأخذ أجراً على الفتوى. وهناك محظور كذلك، فتوريث مناصب الدين هو اتخاذ منه مهنه وصنعه، كما يتوارث أهل المهن والصنائع مهنهم وصنعتهم، وفي هذا حط من قدر الدين ومكانته. ولهذا شدد الإسلام في قطع أسباب توريث الدين وقطع أسباب جعله مهنة يسترزق منها أصلاً لا تبعاً.

ولهذا جاء الإسلام بسيطاً سهلاً ميسراً فلا يحتاج المسلمون إلى وسائط بشرية بلباس رهبان أو أحبار يتعبّدون بهم ربهم ويتبرّكون بهم بدل الأحجار والأشجار.

ولهذا لم يأخذ الصحابة، وعلى رأسهم سيدهم خليفة رسول الله، أجراً على الفتوى والديانة ولكنهم أخذوا أجوراً على الإمامة الدنيوية في إدارة أمور المسلمين أو على القضاء، والقضاء منصب إداري. ووقوع توريث الدين واتخاذه مهنة يسترزق منها أمران مختلفان.

فأما اتخاذه مهنة فقد وقع بين المسلمين من بعد انقضاء الخلافة الراشدة وعمّت بهذا البلوى في العهد العباسي وما بعده.

ولولا اتخاذ الدين صنعة لما وضعت الأحاديث المكذوبة ولما تنطّع الفقهاء في الفقه حتى أنك تكاد لا تجد في فقه المعاملات إلا آراء رجال ليس لها من الشرع برهان.

وأما توريث الدين فلم يقع في الإسلام.

ولعل الله حمى جناب النبوة من التعدي عليها بقوة الملك والسلطان. فما كان للدين أن يورث في ظل خلافة وإمارة قائمة على نظام التوريث. فيدفع هذا ورثة المناصب الدينية إلى تحريف الدين ليشرعوا لهم الوراثة في الدين كما شرع التوريث في الملك والأمارة، ويطوروا القضاء والمجتمع لفرض الطبقات الاجتماعية بينهم ديناً شرعاً يتعبّد به، كما فرضتها الهندوسية على مجتمعها ديناً وشرعاً.

فالحمد لله رب العالمين.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب