Monday 30/06/2014 Issue 15250 الأثنين 02 رمضان 1435 العدد
30-06-2014

اختبر قناعاتك بين نظرية المؤامرة والحالات الخاصة

لو سألك أحدهم «من أين تأتي وتتكون آراؤك الخاصة؟ في الأغلب ستكون إجابتك أنها تكونت من التحليل الموضوعي غير المتحيز للمعلومات المتاحة لديك ومن سنوات الخبرة والتعليم. ولو سألك عن آراء لك مناقضة للواقع ستؤولها أو تعتبرها حالة استثنائية..

ربما تكون أحد أولئك الذين يتبعون نظام أو حمية غذائية معينة من أجل إنقاص وزنك: سكر بلا طاقة، مشروبات غازية بلا سكر، حليب خال من الدسم، شاي أخضر.. الخ، ومع ذلك لم يتغير وزنك، ولكنك مستمر بذات النظام لسنين. أنت ضحية ما يطلق عليه في علم النفس «تحيز التأكيد»..

في تجربة أعطيت مجموعة من الأفراد شراباً قيل لهم أن به كحول، ولكن الواقع أن ليس به كحول، فأظهروا انخفاض الحذر في الموقف الاجتماعي وانتعشوا.. بالمقابل أعطيت مجموعة شراباً قيل لهم أنه خال من الكحول، ولكن به كحول، فلم يتأثروا ولم ينخفض حذرهم الاجتماعي.. الدراسة نشرها ديفيد أرونسون (2007) بهدف اختبار «تحيز التأكيد»، وقد كان جلياً قوة تأثير الأفكار والتوقعات المسبقة على الإدراك.

«تحيز التأكيد» يسري على مجالات الحياة كافة، وأكثر ما نجد عجائبه في السياسة لا سيما مع عشاق نظريات المؤامرة، حيث تشكل مخرجاً نفسياً للذين تدحض الوقائع أفكارهم، فبدلاً من تطوير أفكارهم أو تعديلها تجدهم يرفضون الواقع نفسه معتبرين أن خلفه مؤامرة تحركه.. مرة المخابرات الفلانية وأخرى المخابرات العلانية خصوصاً الأمريكية.. حتى هجمات 11 سبتمبر على نيويورك هناك من يصر أنها مؤامرة صهيوأمريكية. تلك ليس ميزة عربية بل نجدها حتى في أمريكا فثمة من يؤكد أن صدام حسين خطط هجمات سبتمتبر.. والآن بأمريكا من يؤكد لك من اليمين المتطرف أن أوباما لم يولد بأمريكا وشهادة ميلاده مزورة وأنه يمثل مؤامرة على أمريكا.. والدليل هو أن اسمه مبارك حسين أوباما، فهو مسلم سحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان ويرفض تدخل القوات الأمريكية في الشرق الأوسط رغم كل التهديدات التي تتعرض لها مصالح أمريكا وهلم جراً..

«تحيز التأكيد» هو نوع من التحيز المعرفي يصدر الحكم استناداً على قناعة فكرية مسبقة وليس على الوقائع، هنا نقبل الأدلة التي تؤكد معتقداتنا ونرفض الأدلة التي تتناقض معها، وكذلك نفسر المعلومات الجديدة بما يناسب آراءنا ونظرياتنا وأحكامنا المسبقة.. وعندما نواجه بقضايا مناقضة لا يمكن تفاديها سنعتبرها حالة استثنائية أو خاصة جداً لا تعبر عن الحالة العامة، وينبغي تجاوزها..

كلنا ضحايا بدرجة أو بأخرى لهذه الميول.. الكاتب والمحلل والناقد، وحتى الباحث الأكاديمي الذي يقوم بدراسة «موضوعية» سيميل غالباً للأبحاث التي تدعم وجهة نظره المسبقة.. وهذا شيء طبيعي إنما المشكلة عندما لا نرى سوى الأدلة التي تدعم قناعاتنا ونرفض اختبار هذه القناعات من خلال الإحصاءات والشواهد الواقعية فضلاً عن عدم إخضاع المعتقدات لاختبار العقل بل للعاطفة.. مع ذلك نحن دائماً نصر أن معتقداتنا عقلانية ومنطقية، وموضوعية، فمنشئ المشكلة ليست من أفكارنا بل من طريقة تفكيرنا التي غالباً ما تركز على المعلومات التي تؤيد أفكارنا وتجاهل المعلومات التي تتحدى المعتقدات الموجودة لدينا.

لماذا كلنا عرضة لمشكلة «تحيز التأكيد»؟ بسبب الطريقة التي يعمل بها التصور البشري. فقبل تناولك لموضوع ما، لديك معتقد، هذا المعتقد يشكل لك توقعاً، هذا التوقع ينتج عنه تصور للموضوع مما يؤثر في الحكم عليه، أو كما قيل «الحكم على شيء فرع من تصوره». لذا نحن نرى ما نتوقع أن نراه، أو كما قال محمود درويش: «أرى ما أريد!» ومن ثم نستنتج ما نتوقع استنتاجه، «فنحن نسمع وندرك فقط ما كنا نعرف نصفه.. وإذا كان البديهي: «أنا أقتنع بالشيء عندما أراه» فإنه في عقولنا: «أنا أرى الشيء عندما أقتنع به.» (هنري ديفيد ثورو).

كيف نحل هذه المشكلة؟ بتوفير المعلومات، لكن ثمة مشكلة أخرى هي أن هناك انفجاراً بالمعلومات وتدفقاً يومياً هائلاً للأخبار، فلا بد أن نكون انتقائيين نختار المعلومات المناسبة، لكن المشكلة تعود مرة أخرى عندما ننتقي ما يناسب قناعاتنا. يقول الباحث ورجل الأعمال رولف دوبيلي مؤلف كتاب «فن التكفير بوضوح» أن «تحيز التأكيد» هو أبو الأوهام وسوء الفهم.. ويطرح مثالاً يتكرر في عالم الأعمال عندما الإدارة التنفيذية في شركة تتبنى إستراتيجية جديدة، تجدها تحتفل لأي علامة نجاح وتجمعها ولا ترى علامات الفشل أو تعاملها كحالات استثنائية أو خاصة جداً.. كيف نحل هذه المشكلة التي تواجهنا جميعاً؟

التجربة التالية توضح مقدار الجهد الذي يتطلبه اختبار نظريتك الخاصة.. قدم بروفيسور للطلاب ترتيب الأرقام على النحو التالي: 2-4-8، وذكر لهم أنه كتب القاعدة التي تنظم هذه الأرقام خلف الورقة، وطلب منهم أن يضعوا ما شاءوا من الأرقام التي يرونها وهو سيبلغهم بصحة مطابقتها للقاعدة من عدمه، لكن عليهم لمرة واحدة أن يعرفوا ما هي القاعدة التي تسير عليها الأرقام؟ الطلاب كما هو متوقع ساروا مع 10، 12، 14.. وكانت إجابة البروفيسور بأن هذه الأرقام تطابق القاعدة.. أجاب الطلاب: إذن، القاعدة هي إضافة اثنين لآخر رقم.. البروفيسور هز رأسه بالنفي!

باستثناء طالب واحد فطين، وضع رقم ناقص اثنين، فإجابة البروفيسور: لا تناسب القاعدة.. الطالب سأل: سبعة؟ البروفيسور قال: تناسب القاعدة.. وجرب الطالب أرقاماً عديدة.. ثم أجاب: القاعدة هي أن يكون الرقم التالي أعلى من الرقم السابق.. فقلب البروفيسور الورقة وكانت المكتوب بها بالضبط ما قاله الطالب. ما الذي ميز هذا الطالب الداهية عن الآخرين؟ في الوقت الذي كان فيه الطلاب الآخرون يبحثون عما يؤكد نظريتهم، كان هذا الطالب يحاول إيجاد الخطأ في نظريته وكان عن وعي يبحث عن أدلة تنقض أفكاره المسبقة لكي يثق بها أو يبدلها..

لمواجهة انحياز التأكيد في تفكيرك، حاول أن تكتب قائمة بقناعاتك في أي مسألة من مسائل الحياة، ثم ضع أمامها الأدلة التي تناقضها.. لا تدع ما نطلق عليه حالة «خاصة» أو «استثنائية» تفوتك، بل راجعها وحللها فقد تجد أنها هي السياق الطبيعي والحالات الأخرى هي الاستثناء. من الصعب التخلص من القناعات التي اعتدنا عليها، إنها كالأصدقاء الأعزاء، لكنه ضروري..

alhebib@yahoo.com

مقالات أخرى للكاتب