Monday 30/06/2014 Issue 15250 الأثنين 02 رمضان 1435 العدد
سعد بن عبدالقادر القويعي

سعد بن عبدالقادر القويعي

وقفة مع تصريح معالي الشيخ قيس المبارك:

30-06-2014

حول رؤية هلال شهر رمضان وهلال شهر شوال

سعادة رئيس تحرير صحيفة الجزيرة - الأستاذ - خالد بن حمد المالك - وفّقه الله -..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد :

فقد اطلعت على تصريح - معالي الشيخ - قيس المبارك - عضو هيئة كبار العلماء -، المنشور يوم الجمعة 29-8-1435 هـ، العدد 15247 بعنوان: «الواجب تحري رؤية هلال رمضان مغرب السبت»، بعد أن أوضح فضيلته، بأنّ سير القمر دقيقٌ جداً، فلا ينخرمُ أبدًا، كما قال تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}.

بداية، سيكون تعليقي حول اعتياد الناس على الجدل الواسع حول رؤية هلال شهر رمضان، وهلال شهر شوال في كل عام، واختلافهما، واتفاقهما مع الحسابات الفلكية. وهو ما جعلنا منقسمين حول أهم فريضة من فرائض الإسلام، وتحديد دخول، وخروج شهر رمضان المبارك، دون أي اعتبار للحسابات الفلكية، وكونها علماً مستقلاً، يعتمد عليه في مدى قدرة الرائي على الرؤية الشرعية للهلال.

لن أبالغ إن وصفت قضية الأهلة، بأنها: من النوازل العصرية الفقهية، نظراً لارتباطها بمواقيت شرعية، وهو ما يستدعي من أهل العلم، والتخصص، أن يتناولوا هذه القضية تناولاً يتجلّى فيه الاجتهاد الجماعي، كونه تمس الحاجة إليه، وتدعو إليه الظروف المعاصرة. وهو ما أكدت عليه توصيات مؤتمر مكة قبل سنة - تقريباً -، حيث جاء في البند الرابع من توصيات المؤتمر، التي يجب مراعاته، والعمل به: أنّ الحساب الفلكي علم قائم بذاته، له أصوله، وقواعده. وقد كان للمسلمين فيه إسهام متميز، وكان محل اهتمام من الفقهاء المسلمين. وبعض نتائجه ينبغي مراعاتها، ومن ذلك: معرفة وقت الاقتران، ومعرفة غياب القمر قبل الشمس، أو بعده، وأن ارتفاع القمر في الأفق في الليلة التي تعقب اقترانه، قد يكون بدرجة، أو أقل، أو أكثر، ولذلك يلزم لقبول الشهادة برؤية الهلال، ألا تكون الرؤية مستحيلة حسب حقائق العلم الصحيحة، وحسب ما يصدر من المؤسسات الفلكية المعتمدة، وذلك في مثل عدم حدوث الاقتران، أو في حالة غروب القمر قبل غياب الشمس.

إنّ سبب الإشكال في موضوع الأهلة، الذي يتكرر في كل عام، - لاسيما - تلك الشهور المرتبطة بالعبادات، هو عدم الاعتبار لرأي الهيئات العلمية التي لديها علماء، ومختصون في علم الفلك، وحقائق الكون، ودقائقه، - إضافة - إلى قول بعضهم: إنّ الأخذ بالعلم الفلكي يتعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته»، مع أنّ الحسابات الفلكية ليست إهمالاً للرؤية الشرعية، بل هي وسيلة إثبات لا مفر منها ؛ للتأكد من شهادة الشهود، فتتبع الهلال بدقة متناهية، وتحديد ارتفاعه، ومقدار إضاءته، وإعطاء بيانات دقيقة حول الهلال، وإثبات صحة حساب موقع القمر في الأفق، ووقت ولادة الهلال بما لا يدع مجالاً للشك، أو الجدل، أصبحت مسلّمات حقيقية، وإعجازاً علمياً هائلاً.

في المقابل، فإنّ إيضاح الوظيفة العلمية للاجتهاد، وعلاقته بمقاصد الشريعة الإسلامية، يستلزم الاجتهاد المطلوب، وهو استفراغ الوسع، وبذل المجهود في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط من المتمكن، الذي يستجمع شروط الاجتهاد في طلب المقصود من جهة الاستدلال، ولا يتأتى ذلك إلاّ ممن خبروا المقاصد، وأحكموا بالكليات، ثم نظروا في الأحكام من خلال ذلك، وهذا هو المقصود بأثر تغير الاجتهاد في الفتوى، وهو يعتبر من محاسن الشريعة الإسلامية ؛ لتعريف الأمة بمسائل دينها، وما يرتبط من أحكام دنياها.

كان تصريح معالي الشيخ قيس المبارك موافقاً لبيان المشروع الإسلامي لرصد الأهلة، بأنّ معظم الدول الإسلامية ستتحرى هلال شهر رمضان يوم الجمعة 27 حزيران - يونيو، وفي ذلك اليوم سيغيب القمر قبل، أو مع الشمس في معظم الدول الإسلامية، مما يجعل رؤية هلال رمضان في ذلك اليوم مستحيلة من هذه المناطق، - وعليه - بالنسبة للدول التي تشترط رؤية الهلال لبداية الشهر، فإنه من المفترض أن يكون يوم السبت 28 حزيران - يونيو، هو المكمل لشهر شعبان، ويكون يوم الأحد 29 حزيران - يونيو، أول أيام شهر رمضان المبارك.

ثم يعلق البيان، بأنّ رؤية الهلال يوم الجمعة 27 حزيران - يونيو مستحيلة من جميع المناطق الشمالية من العالم، وبعض المناطق الوسطى، وهذا يشمل العراق، وبلاد الشام، والجزيرة العربية، وشمال أفريقيا، وذلك بسبب غروب القمر قبل، أو مع غروب الشمس، أما ما تبقى من مناطق العالم الإسلامي، فإنّ رؤية هلال شهر رمضان منها يوم الجمعة غير ممكنة إطلاقاً؛ بسبب غروب القمر بعد الشمس بدقائق معدودة، لا تسمح برؤية الهلال، حتى باستخدام أكبر التلسكوبات الفلكية.

وأما بالنسبة للدول، والجاليات الإسلامية التي لا تشترط رؤية الهلال، وتكتفي بالحسابات الفلكية، أو تكتفي بوجود القمر في السماء، حتى وإن لم يُر الهلال، وحيث إن القمر سيغيب يوم الجمعة بعد غروب الشمس بدقائق معدودة من المناطق الواقعة جنوب العالم الإسلامي، - إضافة - إلى أنّ هناك إمكانية لرؤية الهلال بالتلسكوب يوم الجمعة من جنوب أمريكا الجنوبية، فإنه من المتوقع أن تبدأ بعض الدول شهر رمضان يوم السبت 28 حزيران - يونيو.

وقد جاءت مواعيد غروب القمر، والشمس يوم الجمعة، - علماً - بأنّ موعد غروب القمر قد تم حسابه للحافة السفلى من قرص القمر، وليس الحافة العليا، فالقمر يوم الجمعة سيغيب قبل غروب الشمس بسبع دقائق في بغداد، وقبل الشمس بست دقائق في كل من دمشق، وبيروت، وقبل الشمس بخمس دقائق في كل من الكويت، وعمّان، والقدس، وتونس، وقبل الشمس بأربع دقائق في كل من المنامة، والجزائر، وقبل الشمس بثلاث دقائق في كل من الدوحة، ومسقط، وأبوظبي، والقاهرة، وطرابلس، وقبل الشمس بدقيقتين في الرياض، وقبل الشمس بدقيقة واحدة في الرباط، ومع الشمس في مكة المكرمة، وسيغرب القمر بعد الشمس بدقيقتين في صنعاء، وسيغرب بعد الشمس بأربع دقائق في الخرطوم، وستكون أطول مدة لمكث للقمر في المنطقة العربية في نواكشوط، حيث سيغيب القمر بعد غروب الشمس بتسع دقائق، ورؤية الهلال في جميع هذه المناطق السابقة، هي ما بين مستحيلة، وغير ممكنة، حتى باستخدام التلسكوب الفلكي.

ثم يختم البيان تعليقه، بالإشارة إلى أن أقلّ مكث للهلال في التاريخ أمكن معه رؤيته بالعين المجرّدة، هو 29 دقيقة. ونذكر أنّ مواعيد غروب القمر هذه، هي للحافة السفلى للقمر، وليس العليا، وتم اعتماد الحافة السفلى ؛ لأنها الأهم في رصد الهلال، حيث إن الهلال يتواجد كله، أو معظمه عند الحافة السفلى للقمر، في حين تكون الحافة العليا مظلمة. - وعليه - فإنّ بداية شهر رمضان المبارك في العالم الإسلامي ينبغي أن تكون يوم الأحد 29 حزيران - يونيو، عند من يرى أن رؤية الهلال، تعتبر شرطاً لبدء الشهر الهجري، في حين أنها يمكن أن تكون يوم السبت 28 حزيران - يونيو، لمن لا يشترط رؤية الهلال المحلية، ويكتفي بالحسابات الفلكية.

أيُعقل بعد كل هذا، أن لا تتمكن المراصد الفلكية بأجهزتها، وخبرائها من رؤية الهلال، ثم يخرج بعضهم مدعين رؤيته، وتعتمد شهادتهم بحجة أنهم عدول؟. ثم لماذا لا تعتمد مبدأ الشفافية في تحديد الرؤية، وتنقل تلك المعطيات العلمية على الهواء مباشرة ؛ ليكون القرار في نهاية المطاف موفقاَ بين العلم الكوني، والعلم الشرعي؟. ثم هل يشك أحد بأنّ التقدم العلمي الهائل، والدقة الفائقة في الحسابات الفلكية، قد بلغت شأواً بعيداً في الدقة، والضبط، وإحكام النتائج ؟، كونه يقرر حقائق علمية وصلت إلى درجة اليقين، بل ويحمله علماء عدول، نحسبهم كذلك، ولا نزكي على الله أحداً، - إضافة - إلى تطور التقنيات العلمية، وأصبح هناك أجهزة تلسكوبية تساعد في تحري الهلال، من خلال مواقع الرصد في مختلف مناطق، ومحافظات المملكة، وبمشاركة عدد من الجهات الرسمية، والشعبية، والعلمية.

في المقابل، فقد أكد عضو هيئة كبار العلماء في المملكة - فضيلة الشيخ - قيس المبارك، في تصريحه لصحيفة الجزيرة، وفي تصريحات سابقة : بأنه يجب التثبت من شهادة الشهود على رؤية الهلال، مستدلاً بقول أبي الوليد الباجي: «فيعتبر فيه من صفات الشهود، وعددهم، واختصاص ثبوته بالحكام، ما يعتبر في سائر الشهادات»، فيجب أن تخلو الشهادة عما يوجب إسقاطها من موجبات إسقاط الشهادة، وهذا يعني : أنه يقدح في شهادته كل أمر تسقط به الشهادة، فترد الشهادة إذا فقدت صفة من الصفات الواجبة فيها، وترد الشهادة كذلك إذا خالفت المشهود المحسوس. بل، وللقاضي أن يرد الشهادة بعلمه إذا علم بطلانها، أو مخالفتها للحس، وهذا مجمع عليه كما قال ابن عبد البر.

ثم علّق - فضيلة الشيخ - على ما سبق، بقوله: في مسألتنا فإنّ القاضي، وإن حرم عليه في القضاء أن يقضي بعلمه، غير أنّ الواجب عليه أن يتحرى في الشهادة، ويبحث عن أحوال الشهود، وله أن يستند إلى علمه في تعديلهم، وفي تجريحهم، وفي رد شهادتهم إذا خالفت المحسوس، والمشهود، وكذلك إذا خالفت المقطوع به من دلالة علم الحساب، ومنازل سير القمر، على عدم إمكان رؤية الهلال، فترد شهادتهم إذا كانت الرؤية مستحيلة عقلاً، أو عادة، فتجريـحه للشهود، أو تعديله لهم، ليس من باب القضاء، وإن توقف القضاء عليه. فمن واجبات القاضي : أن يتثبت من نظر الشاهد، وحدّة بصره، ومن معرفته بمطالع القمر، ودرجة ارتفاعه فوق الأفق، وانحرافه، ذلك أن الشاهد لو شهد أنه رأى الهلال، وكان ذلك قريباً من كبد السماء، أو منحرفاً إلى غير جهة المغرب، أو في اليوم السابع والعشرين، فهذا يحكم ببطلان شهادته ؛ لأنه إن كان ثقة، وعدلاً، - فلا شك - في أنه واهم، فقد يكون رأى نجماً آخر، أو كوكباً غير الهلال، أو غير ذلك، فالعين قد تري الإنسان ما لا حقيقة له.

وختم قوله في إطار مجمل الضوابط التي تنظم تلك الجدلية : فمنع الفقهاء العمل بالحساب في ثبوت الشهور، لا يعني إلغاء العمل بالحساب، فالعمل بالحساب جاءت به الشريعة، فهو علم مطلوب، ومحتاج إليه في كثير من المسائل، مثل : معرفة مواقيت الصلاة، وغيرها، فكيف لا يكون مطلوباً في إبطال الشهادة، إذا خالفت الحسابات الفلكية المقطوع بها.

وحين يختلف رأي عن باقي الآراء، سرعان ما يُطلق عليه وصف «الشاذ»، ويكون الرأي - حينئذ - غير مرغوب فيه، مع أنه يجب الرجوع إلى أهل الاختصاص في كلِّ فن من فنون العلم، كما أمرنا بذلك الله - عزّ وجلّ -: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، - وبالتالي - يجب عدم إغفال أقوال أهل الاختصاص في هذا الجانب، وهم الفلكيون. كما يجب الأخذ بالنتائج الفلكية، التي لا تتعارض مع النصوص الشرعية من كتاب الله - تعالى -، ومن سنّة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم.

وعلى سبيل المثال، فإنّ قول بعضهم: إن الأخذ بالعلم الفلكي، يتعارض مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا.. «، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته»، فتأمّل معي كلام عضو هيئة كبار العلماء - فضيلة الشيخ - عبد الله بن منيع، حين دحض هذه الشبهة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا».. إلى آخره، تقرير لواقع المسلمين في عهد رسول الله - صلى عليه وسلم -، وأن الغالب عليهم صفة الأمية، وأن الله لا يكلف نفساً إلاّ وسعها، فمتى كان الأمر عسيراً، أو متعذراً تحقيقه، فيصار فيه إلى قدر الإمكان، حيث إن الأمر إذا ضاق اتسع، أما إذا كان الطريق إلى تحقيقه متيسراً، وميسراً، فيجب الأخذ بذلك. - ولا شك - أن الرخص الشرعية مشروط الأخذ بها، بوجود العذر في وقت التكليف بأدائها، فإذا انتفى العذر، انتفت الرخصة، وتعين الرجوع إلى أصل التكليف. والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها : انعدام الماء لجواز التيمم، وبطلانه في حال وجود الماء مع إمكان استعماله.

إلى أن قال : وقد تغيرت أحوال المسلمين من جهل إلى علم، ووجد في المسلمين الكثير من ذوي الاختصاصات العلمية في الطب، والهندسة، والفلك، والفيزياء، والأحياء، وعلوم الذرة، والطاقة، وغيرها من علوم التقنية، فلا يجوز لنا الاعتماد في أمورنا الشرعية على الأسباب التقليدية الظنية في النتائج، والحال أن لدينا وسائل نتائجها قطعية.

بل يكاد ينعقد الإجماع بين علماء الشريعة المهتمين بعلم الفلك على أهميته ؛ نظراً لتطور علم الفلك، وتطهيره من أفكار الدجل، والشعوذة، والكهانة، واعتقاد تأثر حوادث الأرض بحركات الكواكب.. الخ. وعليه، فلا يجوز القدح في علماء الفلك، أو التشكيك في قدرتهم بمجرد الأوهام، والخيالات، كما لا يمكن إجماعهم على الخطأ في هذا العلم المتقدم، والذي أثبت صحة ما يخبرون به في مدة الخسوف، والكسوف، ووقت شروق الشمس، ووقت غروبها، وتعامد الشمس في كبد السماء، وكل ما يتعلق بالعلم الفلكي البحت، رغم أنهم يخبرون عن ذلك قبل وقوعه بزمن طويل، وهو ما قاله - الشيخ عبد المحسن العبيكان -. بل إن - شيخ الإسلام - ابن تيمية - رحمه الله - قرّر : بأنّ خبر الحاسب بالكسوف، والخسوف، ليس من علم الغيب، ولا من الكهانة، والتنجيم. وتأمّل قوله - رحمه الله - في الفتاوى (4- 425): «وأما العلم بالعادة في الكسوف، والخسوف، فإنَّما يعرفه من يعرف حساب جريانهما، وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب، ولا من باب ما يخبر به من الأحكام، التي يكون كذبه فيها أعظم من صدقه»، وبمعنى ذلك قال ابن هبيرة.

ولعله من المناسب، أن أشير إلى إحدى توصيات مؤتمر الإمارات الفلكي الثاني، والذي حضره فقهاء شرعيون، ومتخذو قرار من العديد من الدول الإسلامية، ونصّ على أنه: «إذا قرر علم الفلك: أن الاقتران لا يحدث قبل غروب الشمس، أو أن القمر يغرب قبل الشمس في اليوم التاسع والعشرين من الشهر، فلا يدعا لتحري الهلال. «وقد أقرّ الفقهاء: أن لا تعارض بين هذه التوصية، وسنّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتحري الهلال، إذ إنّ هذه التوصية، متعلقة - فقط - بالحالات التي نعلم فيها مسبقاً : أنّ القمر غير موجود في السماء، بناءً على معطيات قطعية، - وبالتالي - فإن تحرّيه، ونحن متأكدون أنه غير موجود، هو تهميش للعقل، والعلم. ومن بين الفقهاء الذين دعوا لمثل هذه التوصية - حتى قبل انعقاد المؤتمر -، - الشيخ - عبد الله بن منيع - عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ومستشار خادم الحرمين الشريفين -، - إضافة - إلى أن هذه التوصية، معتمدة بطبيعة الحال في بعض الدول الإسلامية، التي تعتمد رؤية الهلال أساساً لبدء الشهر الهجري، مثل: سلطنة عمان، وليبيا - مؤخراً -، فهذه الدول لا تدعو الناس لتحرّي الهلال، وهي تعلم أنه غير موجود في الأفق. فالأصل أن لا تدعو الجهات المعنية لتحري الهلال يوم الجمعة القادم ؛ ليقيننا أنه غير موجود في السماء بعد غروب الشمس.

بل أجمع من حضر « مؤتمر الأهلة» - قبل عدة سنوات -، المنعقد في جدة من علماء - شرعيين وفلكيين - من عدد من دول العالم الإسلامي، والذي افتتح بحضور - سماحة الشيخ - عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: «على وجوب الاعتماد على أقوال الفلكيين في النفي دون الإثبات»، وأفتى به - الشيخ - محمد بن عثيمين - رحمه الله -؛ لأن الإثبات يختلف حسب المكان، والزمان. ومعنى قبول قولهم في النفي، أنهم إذا قرروا أن القمر يغرب قبل الشمس، فلا يصح - أبدًا - قبول أي دعوى من الشهود أنهم رأوه ؛ لأنها تعتبر رؤية للمعدوم، وهذا مستحيل، أما إذا قالوا يغرب بعد الشمس، فيمكن قبول الشهادة الحقيقية للهلال، وتتأكد صحة هذه الرؤية بظهور الهلال في المراصد ؛ لأن تحديد إمكانية الرؤية بالدرجة فيه اختلاف، وذلك حسب صفاء الجو، وقوة النظر، ونحو ذلك كما ذكره - شيخ الإسلام - ابن تيمية - رحمه الله -.

وعند التدقيق في هذه المسألة العلمية، فإن بعض العلماء يحتج بقاعدة: «لا مساغ للاجتهاد في مورد النص»، قاعدة فقهية جليلة القدر، عظيمة المنفعة. تندرج تحتها كثير من الفروع الفقهية. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يبرز السؤال التالي : هل تعني هذه القاعدة، أن النص، والاجتهاد لا يجتمعان، بمعنى: إذا وُجد النص فلا اجتهاد - حينئذ -، وإذا لم يوجد، فيكون باب الاجتهاد مساغاً بضوابطه، وشروطه؟. هذا التساؤل انطلق من عنوان المقالة، هدفتُ منها إيضاح الوظيفة العلمية للاجتهاد، وعلاقته بمقاصد الشريعة الإسلامية.

مع المراد من القاعدة الفقهية المشار إليها، أنه: لا يصح اجتهاد في حكم مسألة، ورد بشأنها نص صريح من الكتاب، أو السنّة الصحيحة، أو الإجماع الثابت. أي: لا اجتهاد في المحكمات، والنصوص القطعية، كمسائل العقيدة من توحيد الله، والشهادتين، وكذلك أركان الإسلام، ومعاقد الإيمان، وأصول الشريعة، وقواعدها الكلية. ومثلها : الحدود، والكفارات، وأمهات الأخلاق، وأمهات الرذائل، - إضافة - إلى الضروريات الخمس، التي تدور على المحافظة عليها أحكام الشريعة. فهذه المسائل أجمعت عليها الأمة، وتلقتها بالقبول جيلاً بعد جيل. وعلى سبيل المثال، فإن قول الله - تبارك تعالى - : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَة}، يدل على عقوبة مطبقة لجريمة الزنا، فلا مجال للاجتهاد؛ لتخفيف، أو تشديد هذه العقوبة.

أما الوجه الآخر للقاعدة، وهو: جواز الاجتهاد مع النص، فمعناه: إذا امتنع الاجتهاد ؛ لمعرفة الحكم مع وجود النص، فإن النص نفسه يجوز فيه الاجتهاد، لا لقبوله، أو رفضه، وإنما لفهمه فهماً دقيقاً، ولا يكون ذلك إلا وفق القواعد التي وضعها العلماء لذلك. وهو ما يسمى عند علماء الشريعة : «الاجتهاد الاستنباطي»، وهو : فهم آيات الأحكام، وأحاديثها، وتنزيلها على فقه الواقع ؛ كي لا تفضي إلى تحقيق خلاف مقصودها. فالحاجة تبرز إليه، إذ هو مما يسوغ الاجتهاد فيه. ومثله - أيضا -: الاجتهاد في دلالة النص إن كان غير واضح الدلالة، أو الاجتهاد في تطبيق النفي، أي : في توسيع دلالته، وتحقيق مناطه، فهذا النوع لا يدخل في المنع الوارد في القاعدة الفقهية. وعلى سبيل المثال فإنّ قول الله - جلّ في علاه -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}، فالقرء، لفظ مشترك بين الطهر، والحيض، لا يمكن أن يراد به المعنيان معاً ؛ لأنهما متضادان، فيجب الحصر إما إلى الأخذ بالطهر، كما قال بعض الفقهاء، أو الأخذ بالحيض، كما هو مذهب الفقهاء الآخرين، وكل وصل إلى المعنى بدليله، واقتنع به، أنه المقصود من النص على طريق الاجتهاد.

ثم إن الأحكام العملية، وهي الفروع الفقهية، ففي حال ورود النص، فلا مجال للاجتهاد - حينئذ -، وهو ما يُعرف عند العلماء، بقاعدة : «لا اجتهاد مع النص»، والمراد بنفي الاجتهاد عند وجود النص، ما إذا كان النص صحيحاً صريحاً ؛ أما الاجتهاد في فهم النص، وتطبيقه على الواقعة إذا كان ظني الدلالة، فهذا أمر آخر تختلف الأفهام فيه، وهو نوع من الاجتهاد في النصوص، وقد ذكر - الدكتور - إسماعيل صديق عثمان، تفصيل العلماء في هذه القاعدة، باعتبار أنّ الاجتهاد نوعان، الأول : الاجتهاد في فهم النصوص ؛ لإمكان تطبيقها، وهذا واجب على كل مجتهد، - وخاصة - إذا كان النص محتملاً لوجوهٍ مختلفة في تفسيره، أو كان عامّاً، أو مجملاً. والثاني: اجتهاد في قياس حكمٍ لا نص فيه على حكم منصوص عليه، أي : هو اجتهاد في استنباط العلة من المنصوص عليه ؛ لتعديتها للفرع الذي لم يُنص على حكمه ؛ ليحكم عليه بحكمها، وهذا لا يجوز أن يُلجأ إليه إلاّ بعد ألاّ نجد حكم المسألة المبحوث عنها في الكتاب، أو السنّة، أو الإجماع؛ لأنّ محل القياس، إنما هو عند عدم النص.

إنّ الاجتهاد المطلوب، كما بينت سابقاً في مقدمة المقال، وأكرره ؛ لأهميته، هو استفراغ الوسع، وبذل المجهود في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط من المتمكن، الذي يستجمع شروط الاجتهاد في طلب المقصود من جهة الاستدلال، ولا يتأتى ذلك إلاّ ممن خبروا المقاصد، وأحكموا بالكليات، ثم نظروا في الأحكام من خلال ذلك. وهذا هو المقصود بأثر تغير الاجتهاد في الفتوى، وهو يعتبر من محاسن الشريعة الإسلامية ؛ لتعريف الأمة بمسائل دينها، وما يرتبط من أحكام دنياها، وهذا ما قصده الإمام عز الدين بن عبد السلام - رحمه الله -، بقوله : «ومعظم مقاصد القرآن الكريم، الأمر باكتساب المصالح، وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد، وأسبابها». ومثله قول أبي إسحاق الشاطبي - رحمه الله - : «وأما مواضع الاجتهاد، فهي راجعة إلى نمط التشابه ؛ لأنها دائرة بين طرفي نفي، وإثبات شرعيين، فقد يخفى هناك وجه الصواب من وجه الخطأ. وعلى كل تقدير، إن قيل بأنّ المصيب واحد، فقد شهد أرباب هذا القول، بأنّ الموضع ليس مجال الاختلاف، ولا من حجج الاختلاف، بل هو مجال استفراغ الوسع، وإبلاغ الجهد في طلب مقصد الشارع المتحد.. وإنما الجميع محوّمون على قول واحد، هو قصد الشارع عند المجتهد، لا قولان مقرران، فلم يظهر إذن من قصد الشارع وضع أصل للاختلاف، بل وضع موضع للاجتهاد في التحويم في إصابة قصد الشارع، الذي هو واحد».

يحدونا الأمل، أن تخرج رؤية علمية لإشكالية التشرذم حول تحري رؤية الهلال، الذي نشهده كل عام ؛ لإثبات الشهور القمرية، وتحديد المواقيت الشرعية لبدء دخول شهر رمضان، وخروجه، وشهر ذي الحجة، وشهر الله المحرم، والاستفادة من المعطيات الفلكية في تقليل الخلاف بين الأقطار الإسلامية، فالرؤية الشرعية الصحيحة للهلال تكون بعيد المغيب، ولا يُرى الهلال إلاّ بشروط، أهمها : ولادته، ومكثه بعد غروب الشمس، وهذان الشرطان يعرفهما علماء الفلك بكل دقة، تصل إلى أجزاء من الثانية ؛ لتأتي النتائج القطعية مصداقاً لقول الله - تبارك وتعالى - : « الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ «، أي : بحساب دقيق جداً، - إضافة - إلى تشجيع البحث العلمي في مجالات الفقه الإسلامي، وجمع الفتاوى، والآراء الفقهية المعتبرة للعلماء المحققين في القضايا المستجدة المعاصرة، والتصدي لما يثار من شبهات حولها، وما يرد من إشكالات على أحكام الشريعة الإسلامية .

كتبت مرة، أنّ ما أعرفه عن معالي وزير العدل، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء، - الدكتور - محمد بن عبد الكريم العيسى، أفقه الرّحب، وتجرّده للحق، اللذان يدفعانه إلى سبر أغوار الحقيقة، والنفاذ إلى عمق الأمور، وتتبّع مسائل العلم في مختلف مناحيه، والنّهل من معينه الذي لا ينضب، دون إفراط، ولا تفريط. كما أعرف عن معاليه، قدرته على سماع الغير، وتقدير ما عندهم من آراء، فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها، فهو أحق بها. ثم يحكم على قبول الشيء، أو رّده بالدليل الشرعي. وهذا - بلا شك - معيار الانتصار للحق، والتجرّد له، وضابط رجحان العقل الناضج المستقل، عندما تقدّر الأمور بقدرها، وتوضع في مواضعها، ثم توظف بعد ذلك التوظيف الأمثل، إذا دعت الحاجة إليها.

وعليه، فإنني آمل من معاليه - حفظه الله -، إصدار توجيهه الكريم إلى من يهمه الأمر بتطبيق القرارات، واللائحة، التي أصدرها المقام السامي في هذا الشأن، وتفعيلها على أكمل وجه، كون هذه البلاد قدوة للمسلمين، وتتابع من قِبل الدول الإسلامية فيما يصدر منها، بوصفها حاضنة الحرمين، ومنطلق الوحيين، ومهبط الإسلام، ومبعث الرسالة، وهذا هو المأمول من معاليه الريادة، والقيادة.

drsasq@gmail.com

باحث في السياسة الشرعية

مقالات أخرى للكاتب