Friday 04/07/2014 Issue 15254 الجمعة 06 رمضان 1435 العدد

علاقتنا مع القرآن الكريم

هناك حدث عظيم يُوشك أن يمرَّ بالأرض, حدث تتغيَّر فيه نواميس الكون بإذن ربها، إلى حالة من النقاء والهدوء والسماحة والبِشر, حدث يغمر البشرية بالسكينة والمغفرة والرحمة؛ فيغسل ذنوب المؤمنين، ويرفع درجات المتقين، يُخَفِّف عن الفقراء إصرهم، ويُطَهِّر للأغنياء بالعطاء أموالهم، ويفتح خزائن رحمات الله لتتنزَّل على عباده الصالحين, إنه رمضان.. ضيفنا العزيز الذي أكرمنا الله به، لنلتقط الأنفاس من سباق الحياة في هدنة نقضيها مع الله عز وجل، أو قل: نقضيها في تلبية دعوة كريمة من ربِّ العالمين، قد جَهَّز لنا فيها مأدبة عظيمة فيها الكثير من شتى الصنوف، التي لم نرها من قبلُ.

في هذا الشهر الكريم -شهر القرآن- يطيب اللقاء مع القرآن, الذي هو ينبوع الحكمة, وآية الرسالة, ونور الأبصار والبصائر, من اتخذه سميره وأنيسه, وجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظراً وعملاً لا اقتصاراً على أحدهما, فيوشك أن يفوز بالبغية, وأن يظفر بالطلبة, ويجد نفسه من السابقين في الرعيل الأول.

كلنا ندعي حب القرآن, ونرفع الصوت بذلك عالياً, ولكن حب القرآن ليس دعوى تقال, ولا كلام يطير به الهواء, إن دعوى حب القرآن يجب أن يكون واقعاً عملياً يعيشه المسلم مع نفسه وأسرته في كل لحظة من لحظاته وأيام حياته. لقد أجمع العارفون من علماء الأمة وخيارها وصلحائها بأن المسلمين لا يوجد دواء ولا شفاء لأحوال المسلمين إلا أن يصلحوا صلتهم وعلاقتهم بالقرآن الكريم.

إنها وصايا علماء الأمة وصلحائها إنها صرخات العلماء الكبار من كل أنحاء الدنيا؛ لا عز ولا فوز ولا صلاح لأوضاع المسلمين إلا بالقرآن الكريم.

فهذا عالم القارة الهندية الكبير الذي أقض مضجعه حال المسلمين مع كتاب ربهم فقال: (ألم يأن للمسلمين أجمعين أن يلتفوا حول القرآن), ونردد صرخة عالم الشام الكبير حين قال الدكتور مصطفى السباعي حيث قال: (لو عمل المسلمون بآداب القرآن للفتوا الأنظار إلى روعته أكثر من ألف جمعية وألف خطاب وألف كتاب), وقال علامة المغرب البوشيخي: (لا يوجد شيء في حياة الأمة أهم من القرآن, فيجب أن يصبح هو الأساس في التعليم وبناء الشخصية, وصيتي إليكم أيها المسلمين: التركيز على القرآن والوحي جملة), وقال العلامة الزرقاني: (لقد نجح سلفنا الصالح في علاقتهم مع القرآن نجاحاً باهراً, مع قلة عددهم, وخشونة عيشهم, وندرة المصاحف بأيديهم, وقلة الحفاظ إذا ما قورنوا بأعدادهم اليوم, والسر في ذلك: أنهم توفروا على دراسة القرآن واستخراج كنوز هداياته, أما غالب المسلمين اليوم فاكتفوا بألفاظ يرددونها, وأنغام يلحنونها, وبمصاحف يحملونها, ونسوا أو تناسوا أن المهمة العظمى للقرآن هي تدبره والعمل بما فيه, قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (29) سورة ص.

وقال الشيخ محمد رضا: (لو أن المسلمين استقاموا على تدبر القرآن والاهتداء به في كل زمان لما فسدت أخلاقهم وآدابهم, ولما صاروا عالة في معايشهم على غيرهم).

وقال أحد العلمانيين وقد مر بتجربة لا دينية ثم عاد إلى الإسلام عن قناعة حقيقية: (كل سؤال أو شبهة في بالي وجدت الإجابة عليها في القرآن, لقد وجدت كأن كل آية تعنيني, وكل حجة عندي إلا رد عليها القرآن بحجة أقوى وأبين).

وهذا مستشرق كندي الأستاذ الدكتور غاري ملير أستاذ الرياضيات والمنطق في جامعة تورنتو, وهو من المبشرين, قرأ القرآن بنية البحث فيه عن الأخطاء والتناقض, كان يتوقع أن يجد في كتاب كتب منذ 14 قرنا شيئا من التناقض والخطأ ولو قليلا, كان يتوقع عن القرآن أنه يتكلم عن الصحراء وحياة العرب, ونحو ذلك, ولكنه وجد ما أذهله, فقد وجد في القرآن ما لا يوجد في أي كتاب في العالم, كان يتوقع أن يجد في القرآن حديثا عن محمد -صلى الله عليه وسلم- وعن الأحداث التي وقعت له من موت زوجته وأبنائه وبناته, لكنه لم يجد شيئا من ذلك, بل الذي زاده حيرة في الأمر أنه وجد سورة كاملة تسمى سورة (مريم), وفيها من معاني التشريف والإجلال لمريم ما لا يوجد مثله في الكتب السماوية الأخرى, ولم يجد سورة باسم عائشة أو فاطمة أو إحدى زوجات أو بنات النبي صلى الله عليه وسلم, ووجد أن عيسى -عليه السلام ذكر بالاسم أكثر من 25 مرة، بينما ذكر محمد -صلى الله عليه وسلم- 4 مرات, فزادت حيرة الرجل, ثم صعق بآية عظيمة وهي قول الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء, يقول الدكتور ملير: من المبادئ العلمية المعروفة هو مبدأ إيجاد الأخطاء أو تقصي الأخطاء في النظريات العلمية إلى أن تثبت صحتها, والعجيب أن القرآن الكريم يدعو المسلمين وغير المسلمين بل إنه دعا الجن والإنس إلى أيجاد الأخطاء فيه ولن يجدوا, ثم قال: لا يوجد مؤلف في العالم يمتلك الجرأة ويؤلف كتاباً ثم يقول هذا الكتاب خال من الأخطاء, ولكن القرآن على العكس فهو يقول: لا توجد أخطاء, بل ويعرض عليك أن تبحث عن الأخطاء ولن تجدها, لا يمكن ذلك إلا أن يكون خارج عن إرادة البشر, وأنه وحي من السماء, ثم اعتنق الإسلام, وصار داعية له بما يستطيع.

وقال الإمام القرطبي -مبيناً سبب تأليفه للتفسير-: (فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع, الذي استقل بالسنة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض, رأيت أن أشتغل به مدى عمري، وأستفرغ فيه مُنّتي).

وهذا الإمام الكبير شيخ الإسلام ابن تيمية يندم في آخر حياته وهو مسجون في سجن القلعة, يندم -رحمه الله- وله من المؤلَّفات والقواعد، والفتاوى والأجوبة، والرسائل والتعاليق، ما لا ينحصر ولا ينضبط، يندم وهو الذي أمْضى حياته دعوةً وتعليمًا، وجهادًا، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر, يندم وقد كان في حياته -رحمه الله- محافظًا على الصلاة والصوم، معظِّمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا، قال عنه الإمام المؤرِّخ الذهبي -رحمه الله-: «فريد العصر علمًا ومعرفة، وشجاعةً وذكاءً، وتنويرًا إلهيًّا، وكرمًا ونصحًا للأمَّة، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر, فمِثلُه لا يندم إلا على أمرٍ عظيم, فماذا قال: (وندمتُ على تضييع أوقاتي في غيرِ معاني القرآن) إنَّها دعوةٌ من شيخ الإسلام للعلماء قبلَ الطلاَّب، وللدعاة قبل المدعوين، ولأهل الفِكر والثقافة قبلَ العوامِّ أن يقفوا عند معاني القرآن، ويكشفوا كنوزَه، ويُسطِّروا عجائبَه التي لا تنقضي، وأن يعيشوا مع القرآن، ويُعيدوا النظر في تعاملهم معه، إنَّها دعوةٌ للحياة بالقرآن، وبذل الجهْد في تدبُّر معانيه، والوقوف عند آياته.

وقال عالم الجزائر الشيخ البشير الإبراهيمي: (ما لنا لا نقبل على القرآن, ما لنا لا نحسن علاقتنا بالقرآن, إن القرآن هو الذي بلغ بصدر الأمة تلك الدرجة العالية من التربية, ووضع موازين القسط, فلزم كل واحد قدره, وأفرغ في النفوس من الأدب الإلهي ما صير به كل فرد مطمئناً إلى مكانه من المجموع, واقفاً عند حده).

أيها الإخوة عجب لا ينتهي... من الذي أصم هذا الإنسان عن سماع كلمات القرآن, من الذي أعماه عن التدبر في كلام الله الحنان المتجلي جماله في آيات القرآن وكلماته وحروفه...

دعونا نراجع كيف علاقتنا مع القرآن.

دعونا جميعا نردد مع الشاعر قوله:

سأقرأ القرآن باحثا عن دهشة الحياة

عن الخلوص من وساوس الغواة

سأفهم القرآن للبناء والعمران

ولن أراه فكرة عديمة أو تحفة قديمة

سأقرأ القرآن باليقين بالشفوف بالتسليم والإذعان

لن أقرأ القرآن للنكوص أو لأجل لقمة حقيرة

لن ألوي الحروف عامداً لن أقرأ القرآن

بغية صرف الوجوه أو لأطعن الخصوم

سأقرأ القرآن للتأمل والتدبر والمثوبة

د. عبدالله بن محمد الجارالله - عضو اللجنة الاستشارية لكرسي الإقراء بجامعة الملك سعود والأستاذ المتعاون بقسم القراءات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ورئيس مجلس إدارة المركز الخيري للقرآن وعلومه بالمدينة النبوية