Saturday 05/07/2014 Issue 15255 السبت 07 رمضان 1435 العدد
05-07-2014

(وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) 1-3

قال أبو عبدالرحمن: جاءت الآية الكريمة في سياق أحكام شرعية تتعلق بالدَّين - بالدال المهملة المشددة المفتوحة - كتابة وشهادة وتوثيقاً وأمانة وعدم إضرار.. ثم جاء بعد ذلك التوصية بالتقوى، ثم الوعد بتعليم الله إن كان المراد بـ(وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) الوعد بتعليم هداية وإعانة

وتوفيق تلهمهم التقوى، وإن كان المراد ما علمهم إياه من أحكام توثيق الدين والأمانة فيه فإن المعنى هداية الإعانة والتوفيق بياناً من الاستنباط كما سيأتي إن شاء الله.. والمعلوم قطعاً في هذا السياق أن تعليمه ههنا هداية إيضاح بأن ينزل عليهم الأحكام، ويبينها لهم مفصلة، لتكون موضوع نظر المجتهد وتفقهه؛ فيصيب من هداه الله هداية توفيق، ويخطئ من لم تقدر له هداية التوفيق، وله أجر المجتهد، ويضل من تعمد الزيغ.. وقد تقوم براهين على أن من اتقى الله علمه الله بأن يفقهه ويهديه هداية توفيق.. إلا أن هذا المعنى إذا صح يكون ببراهين أخرى، وليس بدليل آية الدين المذكورة؛ لأن الآية عن تعليم البيان والتفصيل، وإنما يدل على ذلك نصوص خارج الآية أكتفي منها بما لا نزاع في صحته كقوله تعالى: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (29) سورة الأنفال، ومثل ذلك الحديث القدسي الذي رواه البخاري في صحيحه.. قال: حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة: حدثنا خالد بن مخلد: حدثنا سليمان بن بلال: حدثني شريك بن عبدالله بن أبي نمر: عن عطاء: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.. وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته)؛ فهذا الحديث في سياق أن الطاعة تجر إلى الطاعة حتى يحب الله عبده، فيعيذه ويعصمه ويعينه ويثبته على ما علمه إياه من أحكام دينه.. ومن التقوى التقرب إلى الله بالطاعات، ومن ثمرة التقرب أن يكون الله سمعه وبصره.. ومن كان الله سمعه وبصره فقد هدي إن كان من أهل العلم علماً وسلوكاً، وإن كان عامياً وفق لسلوك المراد الصحيح.. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة)، وكل تقرب من العبد إلى الله فهو تقوى، وقرب الله من عبده يشمل تعليم الهداية التوفيقية.. والاستنباط من صحاح النصوص بمثل هذا واسع، إضافة إلى ما سيأتي إن شاء الله من الأحاديث التي هي نص في الموضوع.. وذهبت قلة من المفسرين إلى أن تقوى الله سبب تعليمَ الله تعليم هداية توفيقية بدليل من الآية المذكورة، وأبى ذلك جمهور المفسرين، وقالوا: (ليس في التقوى وعد بالتعليم)، وحجتهم أن وجوه الربط بين التقوى والتعليم من ناحية دلالة النص في نفسه بمقتضى النحو: كلها مرجوح.. والراجح أنه لا ارتباط، ولقد ذكر أبو البقاء عبدالله بن الحسين العكبري ثلاثة احتمالات لإعراب: (وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ): أولها أن الجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وثانيها أنها حال من فاعل اتقوا، والتقدير: اتقوا الله مضمونٌ التعليم لكم والهداية.. وثالثها أن تكون حالاً مقدرة (التبيان في إعراب القرآن 1-232، وإملاء ما منَّ به الرحمن 1-121)، فالوجه الأول يمنع من الارتباط اللفظي بين الجملتين، ومن ثم امتنع عندهم الارتباط المعنوي، والوجهان الأخيران أثبتا الارتباط ولكنهما مرجوحان.. ومعنى الحال المقدرة ألا تكون حكاية حال مثل: (جاء زيد أمس راكباً، وألا تكون مقارنة في الزمان (أي آنيَّة) مثل: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا) (72) سورة هود. فهو في وقت الإشارة إليه عليه السلام في حال شيخوخته؛ وإنما هي مقدرة الوقوع في المستقبل مثل قوله: (فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (73) سورة الزمر، أي مقدرين خلودكم (انظر نقطة الخال في بيان أقسام الحال للأهدل، ص 11 - 12)، والتقدير ههنا: اتقوا الله ضامنين تعليمكم في المستقبل.. وهناك وجه رابع أغفله العكبري، وهو اعتبار يعلمكم معطوفة على واتقوا.

قال أبو عبدالرحمن: أما الإعراب بالحال فقد ضعفه أبو حيان، فقال: (ضعيف جداً؛ لأن المضارع الواقع حالاً لا تدخل عليه واو الحال إلا فيما شذَّ من نحو: (قمت وأصك عينه) ولا ينبغي أن يُحمل القرآن على الشذوذ (البحر المحيط 2-742)، وتابع أبا حيان تلميذه أبو العباس السمين، وعدَّ الاستئناف هو الظاهر، وقال: المضارع المثبت لا تباشره واو الحال، فإن ورد ما ظاهره ذلك تؤول.. لكن، لا ضرورة تدعو إليه هنا (الدر المصون 2-677)، وقدَّم السيوطي الحال على الاستئناف (تفسير الجلالين - المتن الأعلى من حاشية الصاوي 1-134)، وتعقبه الصاوي بأن الأولى الاقتصار على الاستئناف، وعلل بقوله: (لأن جعله حالاً خلاف القاعدة النحوية؛ فإن القاعدة أن الجملة المضارعية المثبتة إذا وقعت حالاً فإن الضمير يلزمها، وتخلو من الواو (حاشية الصاوي 1-134).

قال أبو عبدالرحمن: وأورد الجمل نقولاً لا تخرج عما مضى، وأضاف تفسير التأويل لقولهم: (قمت وأصك عينه) بأن المضمر مبتدأ بعد الواو؛ فيكون المضارع خبراً عنه، والتقدير: (وأنا أصك)؛ وحينئذ فالجملة اسمية يصلح اقترانها بالحال.. قال: لكن لا ضرورة تدعو إليه ههنا.. أي لأن ما ذكر شاذ، ولا ينبغي أن يحمل القرآن على الشاذ (الفتوحات الإلهية للجمل 1-234 - 235)، وأما العطف فظاهر كلام الآلوسي أنه يرتضيه.. قال: (وَاتَّقُواْ اللّهَ)، حث على تقوى الله تعالى: (وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ)، ووعد بإنعامه سبحانه، ومن هنا علمت وجه العطف فيها من اختلافها في الظاهر خبراً وإنشاء (روح المعاني م 2 ج 3-61)، وأما الصاوي فقد ذكر العطف ورده، فقال: ولا يصح عطفها (أي عطف جملة (وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ)، على جملة (وَاتَّقُواْ اللّهَ))؛ لأنه يلزم عطف الخبر على الإنشاء، وفيه خلاف (حاشية الصاوي: 1-135)، وقد رد الإعراب بالعطف الشيخ محمد عبده، فقال: (لا يرضى به سيبويه - وله الحق في ذلك -؛ لأن عطف (وَيُعَلِّمُكُمُ) على (وَاتَّقُواْ اللّهَ)، ينافي أن يكون جزاء له ومرتباً عليه؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، ولو قال: يعلمكم - بالجزم - لكان مفيداً لما قالوه، وكذلك لو كان العطف بالفاء، أو اتصل بالفعل لام التعليل (المنار 3-129)، وكلام الشيخ محمد عبده رد على من جعل تعليم الله اللدني سبباً مرتباً على الأمر بالتقوى، وأجاز عطف الخبر على الإنشاء والعكس جمهور من النحويين وذكروا له أمثلة (انظر رصف المباني ص 415).

قال أبو عبدالرحمن: واقتضاء العطف المغايرة أن الشيء لا يعطف على نفسه، وإلا فقد يعطف الشيء على مرادفه.. كقوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ) (86) سورة يوسف، (انظر زيادة أمثلة في مغني اللبيب ص 467)، وقد يعطف الشيء على نفسه لنكتة كالتكثير وتغاير الزمن كقولك: شكوت عليكم إملاقي، وإملاقي.. وعلق الشيخ عبدالعزيز الحربي على هذا بقوله: (كيف يكون هذا وأصولكم في ظني تمنع من وقوع الترادف في اللغة، وهو مذهب ابن فارس وثعلب وآخرين، وهو الحق؟.. ولو سُلم بوقوع الترادف، وأنكم تقولون به: لم يصلح أن يكون هذا مثالاً لما ذكرتم حفظكم الله؛ لأن بينهما فرقاً في المعنى الأصلي لكلتا المفردتين، وفي المعنى المراد لكل منهما.. ولو قيل: إن الحزن من أسباب البث لم يبعد أن يكون صواباً، بل لم يبعد أن يقال إن بينهما تضاداً من بعض الوجوه؛ لأن الحزن في الداخل والبث في الخارج والله أعلم). ثم علق الشيخ عبدالعزيز الحربي على بقية كلامي بقوله: (لو نظرتم على هذا بشاهد مسموع، والذي أفهمه من هذا المثال الحمل على تعدد الإملاق؛ لأن كل واحد منها يختلف عن الآخر حتى صحَّ أن يعطف ويعطف عليه، ومن أراد التأكيد في نحو هذا لم يجز له أن يأتي بالواو.. ثم إن المغايرة موجودة ههنا؛ لأن تعليم الله غير تقوى العباد).

قال أبو عبدالرحمن: امتناع جعل (وَيُعَلِّمُكُمُ)، جزاء لقوله: (وَاتَّقُواْ اللّهَ)، لا يمنع من صحة العطف؛ لأن ذلك عطف جملة على جملة، وقد قال ابن عبدالنور المالقي: (فإن عطفت جملة على جملة لم يلزم التشريك في اللفظ ولا في المعنى، ولكن في الكلام خاصة؛ ليعلم أن الكلامين فأكثر في زمان واحد، أو في قصد واحد (رصف المباني ص 415)، وأما الاستئناف فرجحه الجمهور لبطلان وجوه الحمل الأخرى أو ضعفها؛ فصار الاستئناف متعيناً، وهذه عادتهم في الحمل على الاستئناف.. لا يحملون الإعراب عليه إلا إذا تعذرت الوجوه الأخرى أو كانت مرجوحة؛ فتعين الاستئناف في قوله تعالى: (وَنُقِرُّ) كان من أجل قوله: (لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء) (5) سورة الحج، إذ لو كانت واو عطف لكانت (وَنُقِرُّ) منصوبة.. وتعين الاستئناف في قوله تعالى: (وَيَذَرُهُمْ) كان من أجل قوله: (مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (186) سورة الأعراف، إذ لو كانت واو عطف لكانت يذرهم مجزومة كما قرأ آخرون، وقال أبو اللحام التغلبي:

على الحكم المأتي يوماً إذا قضى

قضَّيته ألا يجور ويقصد

فالواو في (يقصد) للاستئناف، ولو كانت عاطفة لانتصب فعل يقصد، ولتناقض المعنى؛ لأنه حينئذ نفى عنه الجور والقصد معاً، وهذا تناقض (انظر مغني اللبيب ص 470)، ولما كانت الجملة المستأنفة مقطوعة من الكلام لا محل لها من الإعراب منعوا الارتباط المعنوي بين (وَاتَّقُواْ) و(وَيُعَلِّمُكُمُ).. قال أبو حيان: (وقيل: معنى الآية الوعد، فإن من اتقى علمه الله.. وكثيراً ما يتمثل بهذه بعض المتطوعة من الصوفية الذين يتجافون عن الاشتغال بعلوم الشريعة من الفقه وغيره.. إذا ذكر لهم العلم والاشتغال به قالوا: قال الله: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ)!! ومن أين تعرف التقوى، وهل تعرف إلا بالعلم؟!).. (البحر المحيط 2-742)، وتابعه الشيخ محمد عبده؛ فقال عن العلم: (قولهم هذا عبارة عن جعل المسبب سبباً، والفرع أصلاً، والنتيجة مقدمة؛ فإن المعرف المعقول أن العلم هو الذي يثمر التقوى، فلا تقوى بلا علم، فالعلم هو الأصل الأول، وعليه المعول (المنار 3-129).

قال أبو عبدالرحمن: يتقي الله فيما علم، فيعلمه ما لم يعلم من أحكام دينه بهداية بيان وإيضاح، والعلم أبواب لا تأتي دفعة واحدة.. وصحح ابن جزي ارتباط التعليم بالتقوى.. إلا أنه منع من كون هذا المعنى الصحيح مراداً للآية، فقال: (وهذا المعنى صحيح، ولكن لفظ الآية لا يعطيه؛ لأنه لو كان كذلك لجزم يعلمكم في جواب اتقوا) (انظر التسهيل لعلوم التنزيل 1-97).. والبيضاوي فسَّر (وَاتَّقُواْ اللّهَ)، بأنها وعد من الله بإنعامه، ولكنه لم يربط هذا الوعد بالتقوى (أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1-271)، وتابعه أبو السعود (إرشاد العقل السليم 1-314)، والجمل نقلاً عن الكرخي (الفتوحات الإلهية 1-235)..

وقال محي الدين شيخ زاده في حاشيته على البيضاوي (وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ)، استئناف لبيان أن الله تعالى ينعم عليكم بتعليم ما يكون إرشاداً واحتياطاً في أمر الدنيا والدين (حاشية زاده 1-595)، وعلق الشيخ محمد عبده على كلام البيضاوي بأن ذلك بناء على الحالية (المنار 3-128).

قال أبو عبدالرحمن: لا يلزم هذا البناء؛ لأن البيضاوي ذكر الوعد ولم يرتبه على التقوى؛ فهذا ما يتعلق برأيي في إعراب الآية، وكل الإعراب ههنا يدل على هداية البيان والإيضاح التي تقوم بها الحجة على من اتقى ومن لم يتق، ولم أحمل الآية على هداية التوفيق، بل بينت أن برهان ذلك من أدلة أخرى، ومذهبي أن الترادف كثير في لغة العرب، ولكنه ترادف بين معنى مجازي، ومعان مجازية، ومُحالٌ أن يكون بين معاني حقيقية، وإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب