Saturday 05/07/2014 Issue 15255 السبت 07 رمضان 1435 العدد
05-07-2014

عندما تقع دولة في أزمة حضارية

قليل هم الباحثون الذين يتطرّقون إلى جوانب إشكالية مستقبل الدولة الوطنية في الوطن العربي، ليساهموا في تجاوز حالة الضعف التنظيري والفكري المتلازمة، مع حالة التراجع في الواقع السياسي للنظام العربي،

وليساهموا في تجاوز فقرنا المعرفي عن معنى الدولة في الفكر الحديث، وعدم تشبع وعينا العربي بمفهومها المعاصر، مما يدفع البعض إلى أنواع مختلفة من الخلط بينها وبين السلطة والنظام السياسي، وإلقاء اللوم دائماً على الفاعل الخارجي (من استعمار وصهيونية وعولمة وغيرها من التبريرات)، وتجاهل الفاعل الداخلي.... وقد صدر للمفكر التنموي والأستاذ في جامعة تافنس الأمريكية لورانس هاريسون، كتاب قلّ نظيره سمّاه (الحقيقة الليبرالية المركزية)، وأصل فكرة الكتاب هو أنه عندما تقع دولة في أزمة حضارية كبيرة، فإنّ الفاعلين فيها عادة ما يسألون أنفسهم سؤالاً من سؤالين يكون محدداً لمستقبل البلاد والعباد. السؤال الأول هو ما الخطأ الذي ارتكبناه؟ وهو سؤال نقدي ذاتي يقود إلى نكران الذات والإجابة الموضوعية عن السؤال، ويلقي بالمسؤولية على الشعب نفسه لتصحيح اعوجاج المسار التاريخي. والسؤال الثاني من فعل بنا هذا؟ وهو السؤال الخاطئ الذي يدخل الشعب في غيابات الجب ومصائب آزفة من الخزعبلات والأوهام كوهم المؤامرة والاضطهاد، وتلقي اللوم على أعداء وهميين يتربّصون بالشعوب الدوائر..! يقول مؤلف الكتاب إنّ دولاً كاليابان طرحت السؤال الأول فأقلعت اقتصادياً وحضارياً بعدها، ودولاً عديدة كالدولة العربية اختارت السؤال الثاني وما زالت تعاني التخلُّف الحضاري والتراجع فتغيب بذلك النظرة إلى المستقبل....

كما أنّ القيم الأخلاقية مثل الثقة والصدق والتعاون من أهم الأسس التي دفعت دولاً مثل النرويج والسويد والدنمارك، لتمثل قائمة الدول الأكثر تفوقاً، على عكس الثقافات التي تسيطر عليها أفكار انعدام الثقة والتعاون. ماريسون يقول إنّ الثقافة هي المشكلة الأساسية ليست فقط من خلال القراءة، ولكن عن طريق التجربة، وهو الذي عمل لسنوات في مشروع التنمية السياسية المخصص من قِبل الحكومة الأمريكية لتنمية العديد من بلدان أمريكا الجنوبية، والنجاح دائماً ما يكون صعباً، لأنّ النجاح يحتاج إلى ثقافة مدعمة.

خلاصة القول هنا إنّ النظر إلى المستقبل هو محرك تقدم الأفراد والشعوب. وهناك فكرة رئيسية تشكل طريقة هدا النوع من التفكير، وهي أن العصر الذهبي للإنسان هو في المستقبل وليس في الماضي. هاته هي الثقافة الصحيحة، والثقافة هي أم جميع الأفراد والجماعات والمؤسسات، وهي على حد تعبير أليكس دوتوكفيل، عادات القلب والانطباعات التي تملك الإنسان والأفكار والتي تشكل عادات تفكيره. وهذا على نقيض الثقافات التي تسكنها قاعدة أن الماضي أفضل من الحاضر، وبالتأكيد أفضل من المستقبل المجهول والمتوحش... ونتيجة هاته الفكرة هي التثبيط التي تغلق الفكر وتقعده وتمنع الفرد من الحركة... فإذا أردنا الحلول لعللنا علينا أن نطرح السؤال الأول وننظر فقط إلى داخل أنفسنا.

وفي نفس السياق وقبل أشهر معدودات، كنت بجوار الكعبة الشريفة مع واحد من كبار رجالات الدولة المغاربة والعرب السيد محمد القباج الذين يعتز بهم في تجربتهم الكبيرة في ميادين التنمية والتغيير لعقود؛ وكنا في مكان رباني نعاين ونتدبر الآلاف بل الملايين من المعتمرين الذين يحجون هذا المكان الآمن والذين أتوا من كل حدب وصوب، والوقت كان مفتوحاً لتأشيرة العمرة في كل أنحاء المعمور، فكانت مكة تعج بالمعتمرين الذين أتوا من كل فج عميق، الصغير مع الكبير وأتباع مذهب معين مع أصحاب المذاهب الأخرى، والمحزبين السياسيين مع غير المحزبين، الواحد يشهد للآخر بالإيمان فلا يبخس من قيمته مهما كان انتماؤه المذهبي أو السياسي أو العرقي ولا يدعي أنه هو صاحب الحق... كما اجتمع أصحاب البلدة مع جيرانهم من البلدان الأخرى في وحدة ربانية وتفاهم وتناغم وخشوع وخضوع لا يمكن أن يوصف... هاته قوة خارقة اجتمعت في الملايين من المسلمين في مكان واحد، وبدأنا نتأمل الواقع المزري للأوطان العربية مع تواجد هاته القوة الخارقة التي لا تستغل في بناء الأوطان سياسياً واقتصادياً، وأحسسنا بحسرة وألم عميقين ونحن نترك جانباً عوامل الوحدة والقوة لتفعيلها في عملية التطور والتغيير الحضاري، وندخل أنفسنا نحن المجتمعات العربية في غيابات الصراعات السياسية العميقة اللامتناهية والتخلف الحضاري....

والصحيح أننا رأينا أوج جانب من الحضارة الإسلامية الفريدة من نوعها والتي هي ثمرة الجهد البشري لعمارة الأرض وفق منهج الاستخلاف الرباني. وهذا المنهج يقوم على مرتكزين اثنين:

مرتكز عقيدة وقيم ومبادئ وأخلاقيات، ومرتكز ماديات ومهارات ووسائل.

الذي عايناه في هذا المعسكر الرباني هو تجسيد للمرتكز الأول والمتمثل في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، وما يندرج تحته من قيم ومبادئ ومعايير وضوابط وأخلاق، وجاء جميع الأنبياء ليتحدثوا عن هذا المرتكز الأساس في منهج الاستخلاف الرباني، منذ آدم عليه السلام إلى نوح، وإبراهيم، فموسى، فعيسى، إلى أن ختم الأمر برسولنا محمد عليه وعليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام. أما مرتكز الماديات والوسائل والمهارات، فيتمثل في قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}، وما يندرج تحت معنى المشي من ماديات ووسائل ومهارات، وهو الذي فشلنا نحن فيه.

فمنهج الاستخلاف في الأرض قوامه «العلم والعمل»، فنحن بين {فَاعْلَمْ} و{فَامْشُوا}، فإذا قامت التوازنية الدقيقة بين مبدأ {فَاعْلَمْ} ومبدأ {فَامْشُوا} قام المنهاج الصحيح لعمارة الأرض، وقامت الحضارة الصحيحة المتطورة، أما إذا حصل خلل بين هذين المرتكزين، كان خلل في السير الحضاري، أي خلل في الأداء الإنتاجي، وخلل في الأداء التطبيقي أو الاستهلاكي للمنتج الحضاري كما يكتب زميلنا الأستاذ حامد الرفاعي... ثم إنّ المشكلة الكبيرة في {فَاعْلَمْ} هي أنّ أصحاب العلم والحكمة من العرب والمسلمين موجودون، ولكن البيئة السياسية التي فيها يمكن أن يجدوا ويعملوا غير متوفرة، كما أنهم لا يوضعون في المكان المناسب في مجتمعاتهم ولا تستغل طاقتهم في أداء السير الحضاري، وهنا المشكل وهاته مصيبة لأنها ترجع بالأوطان إلى عقود من التخلف الحضاري. فلعقود ظل أصحاب الحكمة الذين يملكون أدوات الاقتصاد والتنمية يعيشون في بيئة مريضة تربتها مملوءة بالفيروسات والمبيدات مستعصية... بل إنهم في بعض الأحيان همشوا تهميشاً في إطار الأولويات التي كان يتبعها بناة دول ما بعد الاستعمار... ثم ظهرت مشكلة أخرى بعيدة عن مقومات السير الحضاري للأوطان وهي الزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين، وهذا خطر على الدين والدولة والمجتمع. الإسلام بخير والمسلمون بخير. فالذي ينقصنا هنا هو خلق أدوات التسيير الصحيحة للإبداع والابتكار في مجال تسيير الشأن العام لتحقيق التنمية والوصول إلى مدارج الكمال، حتى نحقق ثقافة النحل في الإنتاج الاقتصادي المثمر. هذا هو المطلوب. الأحزاب الإسلامية الآن في بعض الأوطان مقتنعة على خطأ أنها يجب أن تشتغل وتفرض هيمنتها بالاستثمار المنظم لمورد حيوي، يتمثل في الدين وفي مجتمعات كلها مسلمة، وهنا تكمن المشكلة لأنّ الصراع بين الأطياف المجتمعية السياسية ستغوص في متاهات وغيابات دينية خطيرة في مجال ليس بالديني، وإنما هو مجال سياسي تتصارع الأحزاب داخله انطلاقاً من برامج حزبية دنيوية تتعلق بالاقتصاد والمجتمع والمؤسسات وغيرها، وليس انطلاقاً من العوامل الدينية. الزج بالدين في المجال السياسي العام فاتح لأبواب جهنم لأنه في بعض الأحيان يخرج ضعاف النفوس والعلم أناساً من الملة لأنهم ليسوا على طريقتهم، كما يروها هم أو لم يتبعوا منهاجهم في مسائل تافهة، ويبدأ الصراع في مسائل عقدية في مجتمعات مسلمة - داخل المجال السياسي - وهاته مصيبآزفة ليس لها من دون الله كاشفة.

الحل في مجتمعاتنا العربية والمسلمة في غاية السهولة، فالعبادة العقائدية والروحية متواجدة كما أنّ مكوّنات العبادة العمرانية متواجدة ويكفي استثمارها بالطريقة الرياضية الصحيحة، والنظر إلى المستقبل المنشود، لتحقيق تنمية كل بلد على حدة وتحقيق الوحدة العربية.

مقالات أخرى للكاتب