Saturday 19/07/2014 Issue 15269 السبت 21 رمضان 1435 العدد

الغراب

في أدبيات العالم ككل يحتل الغراب مساحة من الفن بأنواعه والخيال بصوره ليس كأي طائر آخر وله نصيب الأسد في ذلك كله! من الجد والهزل ومن الصدق والكذب فمنذ القدم والروايات والقصص والأساطير تنسج عنه حكايات قد يكون في بعضها برئ منها براءة الذئب من دم يوسف!

وبعضها حقيقة لا غبار عليها، منها ذكره في القرآن الكريم وتعليمه لقابيل كيف وارى سوءة أخيه هابيل وهذه تحسب له!!

بأن علّم الإنسان ما لم يعلم بإذن الله حيث أن الله أودع فيه من الذكاء ما لم يودعه في عقل طائر آخر ومن خلال التجارب يصل الغراب إلى مبتغاه من مرة واحدة بينما غيره يظل في حلقته مرات ومرات!! وكذلك قصته مع سيدنا نوح عليه السلام إن صحت الرواية واختياره للغراب من بين جميع الطيور التي تقبع في سفينته ليجد أرضاً قريبة يابسة وربما لما يتمتع به من فطنة ودراية يفوق بعض البشر وذاكرة تختزن معلومات لعدة سنين! حتى أنه لا ينسى من يسئ إليه! فينتقم منه ولو بعد حين! ولذلك قالوا أبصر من غراب! وهو صاحب الجرّة الضحضاحة من الماء التي ملأها حجارة حتى يرتفع الماء ليشرب منه بحكمة وذكاء! وهذا ما قرأناه وتعلمناه في المناهج الدراسية والذي ظل طائرها الجوكر بمراحلها المختلفة! في مواد اللغة العربية حيث أنه يمثل التراجيديا الحزينة الذي لا يحل في مكان إلا ويكون هناك حدثاً مأساوياً وخراباً استوطن تلك الديار فهو لا يكون في المكان العامر حتى على النخلة إلا أن تكون وجمة أو مصرومة وليس على سواها، والحظ السيئ والتشاؤم المفضي إلى رحلة اللاعودة حتى قال الجاحظ: وهو المقدّم في الشؤم!! ولم يقوِ النابغة الذبياني في شعرة حتى ذكر الغراب فأُخذت عليه:

زعم البوارحُ أنّ رحلتنا غداً

وبذا خبرنا الغرابُ الأسودُ

وحركة حرف الروي في كل قافية من أبيات القصيدة مكسورة ما عدا هذا البيت! وعلى كل هذا هناك من يتفاءل به وفق معادلة بحكم صياحه فيقال إن العامة تتطير منه حين يصيح صيحة واحدة وتتفاءل إذا ثنّى بها! واليهود يرون فيه البشارة والفأل الحسن وما مجموعة غربان تطير إلا هناك خبر سار في الانتظار!! وقد اشتهر في الأدب العربي شعره ونثره بشهرة الطيرة أكثر من الفأل وضربوا به الأمثال فقالوا: غراب البين، وأشأم من غراب! بل بلغ بهم أن جعلوه مثالاً للخيانة وضياع الأمانة كما يروي قصته مع الديك أمية بن أبي الصلت:

بآية قام ينطق كل شيء

وخان أمانة الديك الغراب

وهذه حكاية من الحكايات وقصة من القصص لما رأوا من طبعه وخبثه ومكره فالتقى فيه الأضداد بشقيه الفأل الحسن والطّيرة وغلّبوا أمراً على آخر بتأييد لونه وللكاريزما التي يتمتع بها في الحزن والخراب! وإلى جانب ذلك جعلوه مغروراً وقصته مع الثعلب الماكر والجبنة حينما اغترّ بحسن صوته وهذا تصوير للسذاجة والغرور وكأنهم يريدون الحطاط منه! فأخطأوا بهذا لأنه أذكى من أن ينخدع لثعلب! ومع الطاووس أيضاً حين أراد تقليده فلم يحسن ذلك وأضاع مشيته فذهبت مثلاً! وفي الأدب الفارسي يروى أنهم قالوا له أرنا أجمل الصغار وبعد النظر في جميع الطيور أحضر فرخه وقال: لم أر أجمل منه!! وصغير الغراب يعتبر أقبح الفراخ كما يرويه الجاحظ أيضاً وهو كذلك! ومهما تعددت ألوانه وأشكاله إلا أن السواد هو المفضل ليس عند البشر فحسب بل عنده هو أيضاً فإنه يتبرأ من فرخه حين يولد لبياض جناحيه فلا يحنو عليه ويضمه إليه حتى يصير سواداً كاملاً وقد اقترن ذلك في الروايات والشعر بالكناية عن الحزن والكآبة وهذا ما نراه عند إدجار ألن بو الشاعر الأمريكي الذي اشتهرت قصيدته (الغراب) عندما فقد حبيبته لينور فحزن عليها حزناً شديداً وظل حبيس غرفته لا يخرج منها فما وجد أحداً يواسيه إلا الغراب وحديثه معه مشاركاً له العزاء واختياره الغراب على سواد الليل كان للونه الأسود إيحاء وتعبيراً عن حزنه العميق وكل مقطع من القصيدة يمثل ليلة تكون ثنائية هو وشيء آخر يختمها (... ولا غيره معي) حتى دق الغراب نافذته وعلى التمثال أخد يدور الحديث بينهما فكان جزءاً لا يتجزأ من الحدث الرئيس ويُذيّل كل مقطع بتكرار (أبداً ليس بعد ذلك).

- زياد بن حمد السبيت