Monday 21/07/2014 Issue 15271 الأثنين 23 رمضان 1435 العدد

سلطات الإدارة في تنفيذ العقود الإدارية

عاصم بن سعود السياط

من المسلَّم به أن العقد الذي تبرمه الإدارة مع الشخص الطبيعي أو المعنوي لا يختلف في مفهومه العام عن العقد المدني الذي يبرمه الأفراد فيما بينهم، حيث أن كلاً منهم يقوم على أساس توافق إرادتين بقصد القيام بالتزامات متقابلة.

وبناءً على ذلك فإن العقد الإداري يجب أن تتوافر فيه الأركان العامة المتمثلة بالرضا والمحل والسبب, بيد أن العقدين- الإداري والمدني- يختلفان من حيث النظام القانوني الذي يخضع له كل منهما، ومرجع هذا الاختلاف أن الإدارة تبرم العقد باعتبارها سلطة عامة تتمتع بامتيازات لا تتوافر للمتعاقد معها وذلك بهدف تحقيق أهداف أو أغراض المرفق العام الذي من أجله تم إبرام العقد.

وتبعاً لهذا فإن أبرز مظهر تتميّز به العقود الإدارية عن غيرها من العقود أنها تخوّل جهة الإدارة ممارسة جملة من السلطات تتمثّل في سلطة الإشراف والرقابة وسلطة التعديل وتوقيع الجزاءات وسلطة إنهاء العقد.

يقصد بسلطة الإشراف تحقّق الإدارة من أنّ المتعاقد معها يقوم بتنفيذ التزاماته العقدية على النحو المتفق عليه، أمّا سلطة الرقابة فتتمثّل في حق الإدارة في التدخل لتنفيذ العقد وتوجيه الأعمال واختيار طريقة التنفيذ في حدود الشروط وضمن الكيفيات المتفق عليها في العقد.

وتجد هذه السلطة أساسها في فكرة المرفق العام، لا النصوص التعاقدية، فهي ثابتة للإدارة حتى ولو لم ينص عليها العقد، وهنا يبرز الفرق الواضح بين العقد الإداري والعقد المدني، إذ أنّ هذا الأخير لا يخوّل سلطة للمتعاقد إلا إذا تمّ النّص عليها في العقد، أو قرّرها القانون، بينما العقد الإداري يخوّل للإدارة سلطة الإشراف والتوجيه وإن لم ينص في العقد على ذلك، وهذا بهدف ضمان تلبية الحاجات العامة وحسن أداء الخدمة العامة وضمان حسن سير المرافق العامة.

وتعتبر سلطة الإشراف والرقابة من النظام العام لا يمكن الاتفاق على مخالفتها لأنّها قُررت للمصلحة العامة، كما لا يمكن لجهة الإدارة التنازل عنها، فهي ليست بالامتياز الممنوح للإدارة في حد ذاتها بوصفها سلطة عامة، بل قُررت سلطة الإشراف والرقابة لحماية المال العام وضمان حسن سير المرافق العامة، وغالبا ما تشترط الإدارة ضمن بنود صفقاتها، أو في دفاتر الشروط العامة والخاصة، حقّها في إصدار التعليمات.

ويتجسد ذلك أكثر في عقود الأشغال العامة بالنظر لطبيعتها الخاصة وكون تنفيذها يستغرق مدة زمنية طويلة، غير أنّ سلطة الإشراف والرقابة وإن كانت ثابتة بالنسبة لجهة الإدارة ومقرّرة في سائر العقود الإدارية، إلا أنّ ممارستها تختلف من حيث المدى بين عقد وآخر، فسلطة الإشراف والرقابة تبرز أكثر، ويتسع مجالها ومداها في عقود الأشغال العامة، وهذا بالنّظر لطابعها الخاص كونها تكلّف خزينة الدولة مبالغ ضخمة، كما أنّها تحتاج إلى متابعة مستمرة ومتواصلة تفاديا لأيّ خروج عن ما تمّ التعاقد بشأنه من جانب المقاول أو مؤسسة التنفيذ، وعلى ذلك فعقد الأشغال بطبيعته يفرض تدخل مندوب الإدارة للإشراف على التنفيذ فيكون بمثابة المدير الحقيقي للعمل والمشرف العام عليه، وينقلب المقاول إلى جهة تنفيذ التعليمات الصادرة عن مندوب الإدارة.

وبهدف إجراء التوازن بين ممارسة الإدارة لسلطتها وضمان حقوق المتعاقد معها، يجوز للمقاول المعني اللجوء للقضاء الإداري بهدف إلغاء قرار يتعلّق بتعليمات تخص تنفيذ عقد أشغال، أو أن يرفع دعوى تعويض عن الأعباء المالية الناتجة عن تنفيذ هذه التعليمات. لذلك ذهبت المحكمة العليا في مصر في قرار لها صدر بتاريخ 16-02-1978 إلى القول: «وإن كانت المادتان 11-12 من عقد حفر آبار، المبرم بين جهة الإدارة والمقاول تخولان الإدارة إصدار الأوامر والتعليمات، إلا أنه يشترط لذلك أن تكون هذه التعليمات لازمة لتنفيذ العمل على الوجه الصحيح، فإن تبيّن أن هذه التعليمات تتضمن أمورا لا تتفق مع أصول الفن كان من حق المقاول أن يعترض على هذه التعليمات وأن يبيّن أنّها تخالف أصول الفن...».

وهو ما يؤكد لنا أن سلطة الإشراف والتوجيه والرقابة ليست مطلقة لأن إطلاقها يؤدي إلى تعسف جهة الإدارة ومبالغتها في إصدار التعليمات والأوامر بما قد يضر بالمتعاقد معها خاصة من الناحية المالية، أمّا التوريد فطبيعته تفرض أن تتخذ سلطة الإشراف مظهرا آخر أقل شدة من الأول، فالأمر يتعلق بمواد أو منقولات يُلزم المتعاقد بأن يضعها تحت تصرف الإدارة، ومن حق مندوب الإدارة رفض استلام المواد أو المعدات التي لا تنطبق عليها المواصفات المتفق عليها في العقد، وكذلك حق الامتياز يتخذ الإشراف فيه شكلاً خاصاً ومميزاً، فالإدارة تراقب نشاط المرفق المُسيَّر بطريق الامتياز للتأكد عمّا إذا كان الملتزم يعمل وفقا للشروط الواردة في العقد أم أن هناك خرق من جانبه لأحد البنود العقدية فتتخذ الإجراءات القانونية، كأن يتعلق الأمر بإخلاله مثلاً بالرسوم المتفق عليها وتجاوزه للحد المتفق عليه، أو يتعلق الأمر بتمييزه بين المنتفعين من خدمات المرفق وهكذا.

أما سلطة التعديل فهي أحد أهم مظاهر تميّز العقد الإداري عن غيره من عقود القانون الخاص، فإذا كان أطراف العقد المدني لا يتمتع أيا منهم بسلطة انفرادية تجاه الآخر تمكّنه من تعديل أحكام العقد بإرادة واحدة وإلزام الطرف الآخر بهذا التعديل، فإنّ العقد الإداري وخلاف القواعد المعمول بها في مجال القانون الخاص يمكِّن جهة الإدارة تعديله بإرادتها المنفردة.

ويكاد فقه القانون والقضاء المقارن يُجمع على أن كل العقود الإدارية قابلة للتعديل من جانب الإدارة لوحدها، وتأصيل ذلك يعود لحسن سير المرافق العامة، فتستطيع الإدارة إذا اقتضت المصلحة العامة وحسن سير المرفق العام أن تُعدّل في مقدار التزامات المتعاقد معها بالزيادة أو النقصان، وهذا الحق ثابت للإدارة ولو لم يتم النّص عليه في العقد، بل هو ثابت للإدارة وإن لم ينص عليه القانون صراحة، ذلك أنّ عقود القانون الخاص إذا كانت تقوم على فكرة المساواة بين طرفي العقد دون تمييز أو مفاضلة لطرف على طرف، فإنّ العقد الإداري وخلاف ذلك يقوم على فكرة تفضيل مصلحة على مصلحة.

ولما كانت الإدارة تمثّل جهة الطرف الّذي يسعى إلى تحقيق مصلحة عامة وجب أن تتمتع بامتياز تجاه المتعاقد معها تَمَثَّل في أحقيتها في تعديل العقد بإرادتها المفردة دون أن يكون للمتعاقد معها حق الاحتجاج أو الاعتراض طالما كان التعديل ضمن الإطار العام للصفقة واستجوبته المصلحة العامة وحسن سير المرفق العام، وسلطة الإدارة في التعديل ليست مطلقة بل تمارس ضمن إطار محدد وضوابط دقيقة تتمثل فيما يلي:

1 - أن لا يتعدى التعديل موضوع العقد:

فلا شك أن الإدارة وهي تمارس سلطتها في التعديل تباشرها على نحو يراعي موضوع العقد الأصلي وأن لا يتجاوزه، فلا يجوز لجهة الإدارة أن تتخذ من سلطة التعديل ذريعة أو مطية لتغيير موضوع العقد وإرهاق الطرف المتعاقد معها، وعليه لا تستطيع الإدارة أن تعدل أحكام العقد على نحو يغير موضوعه، وإلا كنا أمام عقد جديد، ذلك أنّ المتعاقد مع الإدارة عندما قَبِل التعاقد معها، والتزم بتنفيذ مضمون العقد في آجال محدّدة، فإنّه راعى في ذلك قدراته المالية والفنية، فإن أقبلت الإدارة على التغيير الموضوعي أو الهيكلي للعقد، فإنّ ذلك قد لا يناسب المتعاقد معها، ومن هنا وجب أن يكون التعديل من حيث المدى والأثر نسبيا بحيث لا يؤثر على العقد الأصلي.

2 - أن يكون للتعديل أسباب موضوعية:

إذ لا شك أنّ الإدارة وهي تباشر سلطتها في تعديل العقود الإدارية لا تتحرك من فراغ، بل هناك عوامل تدفعها لتعديل هذا العقد أو ذاك، بهدف ضمان حسن سير المرافق العامة وتلبية الخدمة العامة للجمهور في أحسن وجه، كما أنّ الإدارة العامة تتعاقد في ظل ظروف معيّنة قد تتغير في مرحلة ما بعد توقيع العقد، خاصة في العقود الإدارية التي تأخذ زمنا طويلا في تنفيذها كعقد الأشغال أو عقد التوريد، فإن تغيرت الظروف وجب الاعتراف للإدارة بحق تعديل العقد بما يتماشى والظروف الجديدة، وبما يراعي موضوع العقد الأصلي، ويلبي حاجات المنتفعين من خدمات المرفق العام.

3 - أن يصدر قرار التعديل في حدود القواعد العامة للمشروعية:

إنّ الإدارة حين تقبل على تعديل عقد ما، فإنّ وسيلتها في ذلك هي القرار الإداري، فتصدر السلطة المختصة قراراً إدارياً بموجبه تعلن عن نيتها في تعديل عقد إداري، ويجب حينئذ أن تتوافر في هذا القرار سائر أركان القرار الإداري ليكون مشروعا.

ومن المفيد، الإشارة إلى أنّ فقه القانون الإداري لم يسلّم كله بسلطة التعديل، فهناك من الفقهاء من أنكرها على الإدارة، وهناك من قيدها وحصرها في نوع معين من العقود، كعقد الأشغال العامة وعقد الامتياز، وتبرير ذلك أنّ عقد الامتياز مثلا يتضمن شروطا لائحية تسوغ للإدارة حق التدخل لتعديل بنود العقد، وكذلك الحال في عقد الأشغال، أمّا في غير العقدين المذكورين لا يجوز مباشرة حق التعديل، إلا إذا تمّ الاتفاق عليها في العقد.

والحقيقة أن مثل هذا الرأي من شأنه أن يجرّد الإدارة من أحد أهم مميزات ومظاهر العقد الإداري فطالما تميز العقد الإداري بموضوعه وبعلاقته بالمرفق العام وبخدمة الجمهور وبالمصلحة العامة، وجب أن يتميز بالمقابل بالسلطات الممنوحة للإدارة وعلى رأسها سلطة التعديل، وإلا فإن العقد الإداري سيقترب من العقد المدني وتختفي مظاهره المميزة وتذوب نتيجة لذلك امتيازات السلطة العامة في مجال التعاقد، وهو من شأنه أن يؤدي إلى اختفاء الأحكام المميزة للعقد الإداري.

ونجد أن هذا التعديل- في العقد- مشروطاً بما يلي:

1 - أن يكون مكتوباً طالما كان العقد الأصلي مكتوباً، فعنصر الكتابة أمر لازم في حال ممارسة الإدارة لسلطة التعديل، وهذا شرط طبيعي فالتعديل فرع أو جزء من العقد وجب أن يخضع لما يخضع له العقد شكلاً بتوافر عنصر الكتابة.

2- أن لا يؤدي التعديل إلى المساس الجوهري بالعقد، وهذا شرط طبيعي ولازم أيضا إذ أن التعديل الجوهري من شأنه أن يجعلنا أمام عقد جديد.

3 - أن يتعلّق التعديل بالزيادة أو النقصان على أن يراعى فيه السقف المالي.

ومن البديهي القول إن سلطة التعديل تخضع لرقابة القاضي الإداري الذي إذا رفعت الدعوى أمامه من الطرف المعني، سعى إلى التأكد من مدى تناسب موضوع التعديل مع مقتضيات حسن سير المرفق العام، والتأكد من مدى علاقته بالصفقة الأصلية وبالحدود المالية المنصوص عليها، وعلى ضوء ذلك يُقدَّر عما إذا كان هناك تعسف في ممارسة سلطة التعديل من عدمه.

أما سلطة توقيع الجزاء أو إنهاء العقد فتملكها الإدارة المتعاقدة باعتبارها سلطة عامة لها الحق في توقيع جزاءات على المتعاقد معها إذا ثبت إهماله أو تقصيره في تنفيذ أحكام العقد، أو عدم مراعاته آجال التنفيذ، أولم يحترم شروط التعاقد أو تنازل عن التنفيذ لشخص آخر وغيرها من صور الإخلال المختلفة.

ويعود تأسيس سلطة توقيع الجزاء إلى فكرة تأمين سير المرافق العامة بانتظام واطراد، فهذه الأخيرة تفرض تزويد جهة الإدارة والاعتراف لها في مجال التعاقد بممارسة جملة من السلطات من بينها سلطة توقيع الجزاءات، للضغط أكثر على المتعاقد معها وإجباره على احترام شروط العقد، والتقيد بالآجال وكيفيات التنفيذ دون حاجة للجوء للقضاء، بل دون حاجة للنص عليها قانونا، فهناك جزاءات مالية، وهناك وسائل ضغط، وتملك الإدارة سلطة التنفيذ العيني، فإن لم يقم المتعاقد بالوفاء بما تعهّد به، تحركت جهة الإدارة المعنية ولجأت لأسلوب الضغط على المتعاقد معها وإجباره على التقيّد بالتزاماته.

ونظراً لخطورة سلطة توقيع الجزاءات التي قد تصل إلى إنهاء الرابطة التعاقدية مع المتعاقد وقطع العلاقة بينه وبين الإدارة، فإنّ الإدارة لا تلجأ إليها إلا في حالات الإخلال الجسيم بالأحكام التعاقدية وبكيفية تنفيذ موضوع العقد، وعادة ما توجه الإدارة قبل ممارستها لهذه السلطة إعذاراً يُنشر في الصحف لتنذر به الطرف المخل، وتمارس بعد إصداره الإجراءات القانونية اللازمة في هذه الحالة.

- مستشار وأكاديمي قانوني