Saturday 02/08/2014 Issue 15283 السبت 06 شوال 1435 العدد

رواية (رقص) والرقص بالكلمات

كتب - حمد حميد الرشيدي:

« من يتكلم سيغني ...ومن يمشي لابد أن يرقص» مثل أفريقي.

أجل!!. هذا ما افتتح به الكاتب والناقد وأستاذ الأدب والنقد المعروف الدكتور/ معجب الزهراني روايته الوحيدة (رقص) الصادرة عن (دار طوى) للثقافة والنشر والإعلام بلندن عام 2010م.

وعلى الرغم مما يوحي به اسم الرواية (رقص) لقارئه للوهلة الأولى - من إيجاز واقتضاب شديدين، إلا أنه قد جاء وراءه ما يكشف لنا عوالم متعددة وشاسعة لا حدود لها، وقد لا يرتبط بعضها ببعض على نسق معين.

ولكنها رغم اختلاف أجوائها وآفاقها وشخوصها وأحداثها وأزمنتها وأماكنها قد جعلت - كلها مجتمعة - من الرقص فلسفتها المشتركة فيما بينها في هذه الحياة.

وعلى الرغم من أنني كقارئ ومتابع للأدب القصصي والروائي بشكل لا بأس به قد سبق لي أن قرأت مئات الأعمال القصصية والروائية لكتاب عرب وأجانب من عصور مختلفة ومدارس ذات توجهات أدبية وفنية شتى إلا أنني - في الوقت ذاته- قد انبهرت للغة الرقص التي شحنت بها هذه الرواية عن آخرها من أولى صفحاتها حتى نهايتها بشكل لم يسبق لي أن رأيت مثيلاً له فيما قرأته من روايات وأعمال قصصية أخرى.

ويؤكد هذا الأمر المثل الأفريقي الذي سبقت الإشارة إليه أعلاه، والذي جاء متصدراً الصفحة الأولى من صفحات الرواية بعد الغلاف الخارجي مباشرة.

وبين هاتين الثنائيتين التي عقد بين أطرافهما الكاتب بطريقة تفسر طبيعة العلاقة بين الأشياء (ثنائية الكلام والغناء) من جهة و (ثنائية المشي والرقص) من جهة أخرى تنبثق الأسرار الفنية لرواية رقص، وعوالمها السابحة في فضاءات لا حدود لها من الواقع أو الواقعية والتخييل والترميز والتفكير والتذكر والتداعي، أو استرجاع الماضي بذاكرة حاضرة يمكن أن تستعيد قراءته من جديد.

وأعتقد أن أبسط ما يمكن أن أقوله عن هذا العمل من حيث الشكل والمضمون هو أنه ينتمي لما يمكن أن أطلق عليه اسم (المسرواية) كما عرف به هذا الفن لدى أولئك المعنيين بعلم المصطلحات العلمية والأدبية والفنية التي تعارف عليها أصحاب هذا الفن في الوقت الحاضر، والتي تجمع بطبيعتها بين (المسرح) وفنياته وتقنياته المعروفة وبين (الأدب) كفن له ارتباط وثيق الصلة بسائر الفنون الأخرى التي عرفها الإنسان في آن واحد.

ولو أمعنا النظر في هذا المصطلح لوجدنا أنه عبارة عن كلمة واحدة (منحوتة) من كلمتين هما في الأصل (المسرحية) و( الرواية).

كما أعتقد أيضاً أن هذا العمل قد جمع بين عدة فنون في بوتقة واحدة، بل إنه تجاوز مسمى (المسرواية) ليشمل غيرها من الفنون الأخرى ذات العلاقة كالسيرة الذاتية، وأدب الرحلات والتحقيقات العلمية والتاريخية. والخواطر والشعر, والمفاكهات والمداعبات، واستلهام التراثين العربي والشعبي، والفن بحيث قدم عمله هذا للقارئ ممهوراً بلوحتين تشكيليتين، إحداهما جاءت على الغلاف الأول (الخارجي) بعنوان (رقص) والأخرى على الغلاف الأخير بعنوان (أمي) كما ذكر ذلك الكاتب نفسه في مقدمته التي كتبها لهذا العمل .

إن ما يميز رواية رقص عن غيرها من الروايات الأخرى تماماً لدى من قرأوها هو احتشادها احتشاداً مهولاً بـ (لغة راقصة) جعلت من الرقص بأنواعه وأشكاله ونماذجه ومعانيه المتعددة، ومترادفاته ومشتقاته الفلسفة الأساسية التي يقوم عليها البناء السردي الكلي لهذا العمل.

فإن كان الرقص بمعناه التقليدي كما عرفناه وتعودنا عليه يعني - بالنسبة إلينا- الفرح والأنس والطرب والسعادة وما هو في حكمها، إلا أنه بالنسبة للكاتب يعني ما هو أبعد من ذلك وأشمل، وليس من الضرورة - أبداً- أن يكون الراقصون سعداء أو مسرورين ,بما يعكس مفهومنا التقليدي أو العفوي المباشر لثقافة الرقص، ويجعلنا نصححه، أو نعيد النظر فيه من جديد، ليكشف لنا في نهاية الأمر أن الراقصين أيضاً قد يكونون أشقياء وتعساء، ومن المحزونين والمغلوبين على أمرهم، ومن الضعفاء والمساكين، وذوي الفاقة والحاجة كذلك .

فعلاً لقد كانت المشاهد الراقصة التي حفلت بها الرواية، واحتشدت بها عن آخرها لدرجة مثيرة جداً وملفتة للانتباه قد جعلت من الرقص لغات متعددة العوالم والفضاءات، وذات سمات مختلفة وثرية جداً في دلالاتها، وكائنات راقصة، لا ترقص لمجرد الرقص في أبسط صورة له كفعل (ديناميكي) أو حركي, تنفذه الأعضاء الحسية الحركية لجسم الإنسان بطريقة ظاهرة للعيان، وإنما ترقص أيضاً بطريقة (نفسية) صامتة أو خيالية, وربما وهمية أيضاً.

وفيما يبدو أن الكاتب على معرفة ودراية واسعة بفنون التراث والفلكلور الشعبي لدرجة أنه مغرم بها إلى حد كبير، بل استحوذت على جزء كبير من اهتماماته الشخصية، حتى بلغ به الأمر ألا يكف عن الرقص، ولا يصد قارئه عنه لخطة واحدة طوال امتداد صفحات الراوية البالغ عددها نحو 300 صفحة.

(نهضت وبينت لهم كيف تؤدى العرضة والمسحباني واللعب في قريتنا. أما خطوة عسير وسامري الدواسر وخبيتي الطائف ومزمار الحجاز ودحة الشمال وعزاوي تهامة وزامل نجران فقد شرحتها وأنا جالس مكاني).(1)

وقد يأخذ الرقص منحى (رومانسياً) لدى الكاتب يستوحيه من عناصر الطبيعة والبيئة المحيطة به محاولاً ترجمة حركة الكائنات من حوله إلى لغة إنسانية تشعره بوجودها وأهميته بالنسبة إليه.

(قررت أن أتمشى على الشاطئ القريب, حينما أطل على البحر أنسى كل شيء. أصوات الموج تدوخني. وبفضل هذه الحركة الراقصة التي لا تهدأ أرحل في المدى.... ). (2)

وفي مواضع أخرى من الرواية تتجلى لنا الأهمية القصوى للرقص في حياة الناس، وكأنه أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية التي يمارسونها كضرورة حيوية لا يمكنهم العيش بدونها، مثلها في ذلك مثل الأكل والشرب والتنفس والحركة والنوم:

(لم يدرك أن عذابي ساعة في مكان ضيق معتم منتن يمكن أن يمثل إدانة له ولأمثاله ممن كان يأكل ويشرب ويغني ويرقص وينام مرتاحاً لحظتها). (3) ليس هذا فحسب، بل إن الكاتب نظراً لشغفه البالغ بالرقص وفلسفته وأهميته في الحياة قد بالغ في الاهتمام به إلى حد (الهوس) حتى قسمه وصنفه، ووصفه, وفسر معانيه بأكثر من معنى، ومن زوايا وجوانب متعددة حتى جعل منه حافزاً ودافعاً حيوياً لممارسة الحياة والتكيف معها، مهما كانت الظروف المحيطة, وجعل منه ضرورة يومية (مجدولة زمنياً) طوال مواسم السنة وفصولها :

(آه لو كنت رئيساً لبلديتها ذات يوم. أتدري ماذا كنت سأفعل؟ سأدشن فيها اثنى عشر عيداً للرقص، رقصات ناعمة هادئة لفصل الصيف، ورقصات قوية صاخبة لفصل الشتاء، ورقصات متزنة وقورة للخريف, وللربيع رقص يشعل كل الشهوات في مدينة الحب وما حولها). (4)

ولم ينس الكاتب أيضا في عمله هذا أن يستلهم ثقافة الرقص في تراثنا العربي والشعبي، وتأكيد أهميته في حياة المجتمع خاصة وأنه من المؤشرات والدلائل الباعثة على الشعور بالسعادة والأمل والتفاؤل والطمأنينة النفسية والراحة البدنية. ومثل ذلك كثير جداً ووارد في مواضع متعددة من الرواية، إما على شكل مثل دارج أو حكمة أو موعظة أو مقولة:

( أبي كان يردد : ترقص الحياة لمن يغني لها). (5)

** ** **

هامش:

(1) الرواية ص 74

(2) الرواية ص 78

(3) الرواية ص84

(4) الرواية ص 115

(5) الرواية ص 93.