فارسات من الجزيرة (غالية البقمية)

انضوت بلدة (تربة) تحت لواء الدولة السعودية الأولى ودخلوا في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب سنة 1212هـ وسكان تربة هم من عشيرة (البقوم) وقد برزت هذه الزعيمة والفارسة (غالية) في معارك بلدتها (تربة)، حيث كان لها صولات وجولات وضربة قاصمة لمحمد علي باشا وابنه طوسون وابنه إبراهيم حينما غزا الجزيرة العربية بجيوشه الجرارة وبرزت بطولات هذه الفارسة سنة 1228هـ وسنة 1229هـ في معارك تربة.. وغالية هذه هي زوجة أحد كبار تربة شيخ قبيلة (سبيع) وأرملته ومع ما أبدته من شجاعة وإقدام ودحر للمعتدي إلا أن المؤرخين النجديين لم يشيروا إليها، وعلى رأسهم مؤرخ نجد الشهير الشيخ الجليل عثمان بن عبدالله بن بشر (1210 - 1290هـ) حيث لم يذكرها في أحداث تلك السنتين حيث قال:

ثم إن محمد علي سير ابنه طوسون بالعساكر العظيمة والجموع الكثيرة إلى جهة الحجاز واليمن وكان أدنى ما يليهم تربة وكان قد أحصنها سعود بالبناء وأعد فيها عدة للحصار ومرابطة واستنفر أهل الحجاز وأمرهم أن ينزلوا حولها مرابطة لها، ثم أقبل طوسون ومن معه من العساكر والجموع ونازلوا أهل بلدة تربة وحاصروها نحو أربعة أيام ونصبوا على قصورها المدافع والقنابر ورموها رمياً كثيراً فلم يؤثر فيها شيئاً وأنزل الله الرعب به وبعساكره ورحل عنها بعدما قتل من قومه قتلى كثيرة ومع الترك في هذه الوقعة من البوادي بني سعد وهزيل وناصرة.

ثم دخلت السنة التاسعة والعشرون بعد المائتين والألف، ومحمد علي صاحب مصر في مكة على الحال المذكورة ورجع إليه عساكره الذين حاصروا بلد تربة، فلما رجعوا دخل بعضهم مكة وبعضهم جعله عند الطائف ولم يزل محمد علي في مكة وحده وابنه طوسون في الطائف هذا وراجح الشريف ومن تبعه وغضاب العتيبي ومن معه من أهل الحجاز واليمن من جنود المسلمين نازلون فيما بينهم وبين تربة يصابرون تلك العساكر.

إلا أن المؤرخ النجدي محمد بن بسام ذكرها في كتابه المخطوط المحفوظ في مكتبة المتحف البريطاني حيث قال: (البقوم الحاكمة عليهم امرأة اسمها (غالية) ذات رأي وتدبير وحزم وشجاعة لم يدركها أشد الرجال وهذه المرأة المذكورة في القلعة المسماة (تربة) وأما بلدها فبلد واسعة أرزاقها تأتيها من الطائف).

وهناك إشارة عابرة لأمين الريحاني في كتابه (نجد وملماته) قال فيه نقلاً عن المؤرخ الفرنسي مانجان قال فيه:

(إن الحملة الثانية على تربة عادت تحدث عن بدوية باسلة كانت في طليعة العربان تحرضهم على القتال وهي (غالية) امرأة أحد مشايخ سبيع).. وهذا الإغفال فيه غمط لحق زعيمة (تربة) البطلة والفارسة (غالية)، وذكر البطلة (غالية) المؤرخ المصري المنصف الشيخ عبدالرحمن الجبرتي رحمه الله في الجزء الرابع من تاريخه ص 220 بعدما ذكر حوادث جمادى الأولى سنة 1229هـ قال: (والذي أخبر به المخبرون عن الباشا وعساكره (أن طوسون باشا وعابدين بك) ركبوا بعساكرهم على ناحية تربة التي بها المرأة التي يقال لها (غالية) فوقعت بينهم حروب ثمانية أيام ثم رجعوا منهزمين ولم يظفروا بطائل).

وقد وصف هذه البطلة (غالية) محمود فهمي المهندس في كتابه (البحر الزاخر) وأطال في ذلك وبالغ وقال الرفاعي في تاريخه: (إن طوسون أرسل أحد قواده مصطفى بك لمهاجمة (تربة) فأنقضى الوهابيون وكانوا بقيادة سيدة تسمى (غالية) آثارت فيم الحمية والحماسة فأعملوا في الجيش المصري قتلاً إلى أن وقعت الهزيمة وأرتد المصريون بغير نظام إلى الطائف).

وقال لويس شيخو في بحث نشره في مجلة (الشرق) عام 1920م (إن الوهابيين في تربة خرجوا لمحاربة المصريين وكانت في مقدمتهم امرأة تدعى (غالية) زوجة شيخ (سبيع) تهزج وتهوّس القوم فأبلوا البلاء الحسن وكسروا المصريين وضبطوا كل أثقالهم وأسلحتهم).

ويقول بركهارت إن عرب البقوم -سكان تربة- بدو وفلاحون، وكان الشخ (خرشان) رئيسهم (اسماً)، ولكن زعيمتهم الحقيقية كانت (غالية) أرملة أحد كبار تربة، وكانت واسعة الثراء، توزع الأموال والطعام على فقراء العشيرة، وكانت مائدتها منصوبة دائما لكل الوهابيين، وكان رؤساء الوهابية يعقدون مجالسهم في دارها.

كانت هذه المرأة الوهابية، لعقلها وحكمتها وكمال معرفتها بشئون العشائر، مسموعة الكلمة، مطلوبة مشورتها، وكانت تحكم قبيلة البقوم وتوجهها.

هذه البطلة العظيمة هي التي هجمت برجالها على عساكر مصطفى بك وجموعه، لأنها لم تكتف بالدفاع عن بلدتها خلف الأسوار، وإنما خرجت على رأس فريق من رجالها، بعد أن خطبت فيهم واستثارت نخوتهم، فقاتلت العساكر التركية المصرية قتالاً شديداً حتى انهزموا أمامها هزيمة منكرة، وهربوا لا يلوي أحد على أحد، تاركين خيامهم وأمتعتهم وبعض مدافعهم.

وذكر البطلة غالية المؤرخون الفرنسيون حيث: لا تكاد تجد مؤرخاً إفرنسياً يغفل اسم (غالية) في كلامه عن مصر وحملة محمد علي في جزيرة العرب، وقد شببها بعض المؤرخين الإفرنسيين ببطلتهم (جان دارك)، التي اشتهرت ببطولتها الخارقة في محاربة الإنجليز الذين احتلوا قديما جزءاً من فرنسا، فلما وقعت جان دارك في أيديهم أحرقوها بالنار، فكانت شهيدة الحرية، واتخذها الوطنيون الإفرنسيون بطلة قومية، وجعلتها الكنيسة: (قديسة).

ويقول المؤرخ الفرنسي (دريو) أن هزيمة المصريين في تربة أمام (غالية) كانت ضربة قاصمة لسمعة محمد علي وابنه طوسون، لذلك أسرع محمد علي في السفر من مصر إلى الحجاز لتدارك الأمر.

ويقول المؤرخ (غوا) أن غالية كانت في نظر المصريين، ساحرة تعطي الجنود الوهابيين (سراً) يحصنهم من الهزيمة فلا يستطيع أحد أن يغلبهم، بينما يغلبون هم كل من يقاتلهم.

وكان يسيطر على المصريين مزيج من الخوف والتطير لم تنفع في تبديده حيلة لقد أضعف انتصار غالية عزائم المصريين، ولكنه قوى عزائم الوهابيين، ففكروا في استرداد (المدينة) والبلدان التي فقدوها في معارك سابقة!.

بعد هزيمة مصطفى بك في تربة، التي قدر عدد القتلى فيها من جنوده بما يقرب من ألف قتيل، أمر محمد علي ابنه طوسون أن يستولي على تربة، ليمحو عار الهزيمة التي ألحقتها بالجيش.. امرأة!.

وفي عام (1228هـ سار طوسون إلى تربة على رأس جيش من ستة آلاف مقاتل، وكان معه ستة مدافع، وكان يرافقه عابدين بك، الذي اشتهر باعتقاله للشريف غالب!.

ويقول مانجان إن الشريف راجح سار أيضاً مع الحملة الطوسونية ولكنه اختار لها طريقاً طويلاً جداً استنفذت خلاله أكثر مؤنها وأصابها التعب والإنهاك، وكان ذلك بسبب شدة حقده على محمد علي الذي نصب الشريف يحيى والياً على مكة.. (وقد هرب الشريف راجح بعد ذلك وانضم إلى الوهابيين).

ويقول بركهارت: (إن الجنود المصريين الذين كانوا متعبين ويعتقدون فوق ذلك بسحر غالية ويخافونها خوفاً شديداً - قالوا لطوسون إن استمرارهم في القتال سوف يفنيهم ولا يبقى على أحد منهم ويكفي أن عدد قتلاهم في اليوم الأول بلغ سبعمائة قتيل.. فأفضل الرأي الانسحاب والعودة إلى مكة والطائف، وانتظار أيام أحسن.

اضطر طوسون إلى الرضوخ لهذا الرأي، لأنه رأى بوادر العصيان والتمرد من جنوده، وكتب إلى أبيه رسالة يذكر فيها سبب إخفاقه. ثم انسحب بجيشه إلى الطائف، بعد أن أحرق خيامه. ولكن الوهابيين استطاعوا انتزاع مدفعين من مدافعه).

ويقول الجبرتي أن طوسون حاصر تربة ثمانية أيام فلم يقدر عليها فتراجع عنها منهزماً.

قلت وفي التاريخ الإسلامي شواهد على ذلك من بطولات النساء من ذلك خولة بنت الأزور، هي أخت الصحابي ضرار بن الأزور لم يعرف في النساء أشجع منها، وأمكن منها في المرواغة بالخيل أثناء القتال، وكانت شجاعة خرجت مع أخيها إلى الشام تحت قيادة خالد بن الوليد، فأظهرت في حرب الروم بسالة عظيمة، وفعلت في جنود الروم الأفعال تقال وهي متلثمة.

ومن المشاهد لها التي أظهرت فيها بسالة وفروسية نادرة، فقد أسرت نساء المسلمين في وقعة صمورا، فجمعت خولة النساء فقامت فيهن خطيبة وهي مأسورة معهن، فقالت: يا بناء حمير وبقية تبع، اترضين لأنفسكن علوج الروم، ويكون أولادكن عبيداً لأهل الروم، فأين شجاعتكن وبراعتكن التي تتحدث بها عنكن أحياء العرب، ومحاضر الحضر، وإني أراكن بمعزل عن ذلك وإني أرى القتل عليكن أهون من هذه الأسباب، وما نزل عليكن من خدمة الروم، فقالت لها عفراء بنت غفار الحميرية، صدقت والله، يا بنت الأزور، ونحن في الشجاعة كما ذكرت، وفي البراعة كما وصفت، غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذه الوقت، وإنما دهمنا العدو على حين غفلة، وما نحن إلا كالغنم بدون سلاح.

فقالت خولة: يا بنات التتابعة، خذوا أعمدة الخيام، وأوتاد الأطناب ونحمل بها على هؤلاء اللثام فلعل الله ينصرنا عليهم، فنستريح من معرة العرب، فقالت عفراء بنت غفار: والله ما دعوت إلا ما هو أحب إلينا مما ذكرت، ثم تناولت كل واحدة عموداً من أعمدة الخيام، وصحن صيحة واحدة، والقت خولة على عاتقها عموداً وسعت من ورائها عفراء أم أبان بنت عتبة، ومسلمة بنت زارع، وروعة بنت عملون، وسلمة بنت النعمان وغيرهن فقالت لهن خولة: لا ينفك بعضكن عن بعض، وكن كالحلقة الدائرة، ولا تفترقن فتملكن، فيقع بكن التشتيت واحطمن رماح القوم، واكسرن سيوفهم.

وهجمت خولة وهجمت النساء وراءها، وقاتلن قتالاً شديداً حتى استخلصت النسوة من أيدي الروم، وتوفيت في أواخر خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهم.

- الباحث/ عبدالعزيز بن محمد بن سليمان الفايز