25-08-2014

كيف تحولت السلفية الجهادية إلى داعشية؟

حالات الوحشية القصوى التي بلغتها داعش ليست غريبة في التاريخ، وفي العصور الحديثة هي أكثر انتشاراً. بل يمكن القول إن داعش تمثل حالة حديثة أكثر مما يبدو أنها تمثل نمطاً ينتمي لعهود قديمة أو سلفية جهادية كما قد نتصور..

أغلب الأساليب الوحشية لداعش نجد مثيلاتها معاصرة. أقرب مثال مجازر متطرفي الصرب ضد مسلمي البوسنة في سربرنيتشا (عام 1995)، وقبلها بعام مجازر الهوتو ضد التوتسي في رواندا، والخمير الحمر بكمبوديا (بين عامي 1975 و1979).. وقبلها مجازر النازية الألمانية والفاشيات الأوربية التي فتكت بملايين البشر بطريقة تفوق أسوء التصورات البشرية..

ثمة صفات مشتركة للحركات الدموية الحديثة، يمكن إجمالها بالتالي: أنها تظهر في فترات فوضى أو ظلم شنيع ترعاه قوى العالم «المتمدن»؛ أنها في البداية تسعى لرفع الظلم الواقع على من تدعي تمثيلهم؛ أنها تحت وطأة الظلم الشنيع تغدو غير عقلانية بل حالة نفسية متأزمة وانتحارية يضحي أفرادها بأنفسهم؛ إذا كان الانتحاري يسترخص نفسه فمن الطبيعي أن يسترخص أرواح الآخرين ويراهم وسائل وأشياء جامدة وليسوا بشراً حتى المسالمين منهم وحتى رفاق الأمس؛ وأخيراً هذه الحركات فشلت فشلاً ذريعاً لدرجة تحويل قادتها مكبلين إلى محاكمات جرائم ضد الإنسانية، لأنهم ببساطة كانوا ضد الجميع.. لا أحد يربح معركة إذا كان ضد الجميع!

كيف تتحول حركات تحاول رفع الظلم عمن تمثلهم إلى همجية وحشية؟ في حالة النضال ضد الظلم يشكل أفراد متأزمون حركات تستخدم نفس وسائل النظام الظالم أو أشد بطشاً لينتصروا عليه.. إنها حرب القسوة وليست حرب العدالة.. هنا ترفع حركات التحرر درجة العنف، دون تمييز بين النظام والمكون الاجتماعي الذي يمثله، فتسعى لتدمير هذا المكون أو أي مكون اجتماعي آخر في حمى المعمعة.. إنهم يسقطون شكل النظام وليس مضمونه القمعي.. فهم جزء من دائرة العنف لا يستطيعون الخروج منها بل يصعِّدون درجة العنف لردع الخصم..

لنأخذ مثالاً العراق.. في منتصف القرن العشرين كانت ملكية بها هامش ديمقراطي وتحت تحكم استعماري بريطاني ظالم.. تم اسقاطها (1958) بانقلاب عسكري اعتبر وطنياً أو قومياً، وأعطى الحق بأن يكون مستبداً.. أطاحه (1963) انقلاب آخر مشابه له.. ثم آخر (1968) تجاوز الاستبداد السابق لكي يضمن وقف الانقلابات فحول الدولة والمجتمع إلى نظام رعب بوليسي وسجن كبير.. ثم غزو أمريكي همجي حول فئة من المظلومين إلى ظالمين بنظام أشعل صراعات طائفية مريرة.. فظهر أفراد من المظلومين الجدد شكلوا حركات عنيفة من بينها داعش التي أظهرت علناً عنفها المقزز متجاوزة ظاهرياً أشكال القسوة السابقة، بوهم أن الأكثر عنفاً سيؤمن لنفسه البقاء، وكرسالة لإرهاب الخصوم!

هنا ليست فقط دائرة عنف بل زنبرك يتصاعد فيه العنف ليترحم الناس على الاستبداد السابق! كانت دعوة السلفية الجهادية (كالسرورية) بنظرياتها المتشددة التي اقتصرت تطبيقاتها على الجهاد ضد الكافر المحتل، فزايدت عليها القاعدة بتحويل العالم إلى فسطاطين مدعومة بعمليات تفجير انتحارية ضد الفسطاط الآخر، فأتت داعش واعتبرت الجميع هدفاً لها بما فيهم أعضاء القاعدة ومن قبلهم كافة السلفيين الجهاديين الذين ليسوا معهم.. المسألة هنا لا علاقة لها بالسلفية إلا من ناحية الشكل التعبيري، فعلاقتها بحالة أخرى متأزمة..

أيان روبيرتسون، بروفيسور علم النفس والأعصاب يرى أن هناك تفسيرات علمية للوحشية التي تمارسها داعش أولها أن الوحشية تولّد الوحشية: فالقسوة والعدوان وعدم التعاطف تكون هي رد الفعل المشترك للناس الذين تعرضوا للمعاملة بقسوة. في معسكرات الاعتقال النازية، مثلاً، كان العديد من أقسى الحراس هم أنفسهم سجناء من قبل في سجون «kapos» الدموية. الضحايا هنا استجابوا للصدمة بأن تحولوا هم أنفسهم إلى جناة.

أما الحالة الانتحارية فتبدأ في التشكل من خلال الذوبان في المجموعة أثناء الفوضى وانهيار الأمن.. إن ما تشاهده عندما تعلو وجوه الشباب الصغار المتشددين ابتسامات عريضة وقبضاتهم مرفوعة يلوحون بالأعلام السوداء بعد أن انتهوا من عملية ذبح.. هو تأثير مزيج عال من هرموني الأوكسيتوسين والتستوستيرون اللذين يرفعان المزاج أكثر بكثير من الكوكايين والكحول، والحث على التفاؤل والعدوانية. ولأن الهوية الفردية ذابت في هوية الجماعة، يصبح الفرد أكثر استعدادًا للتضحية بنفسه، لأنه سيعيش من خلال المجموعة حتى إذا مات كفرد. عندما يكون الناس معاً، ترتفع مستويات الأوكسيتوسين في الدم، فيسهل فقدان التعاطف مع من هم خارج المجموعة فلا يصبحوا بشراً بل مجرد أشياء يمكن فعل أعمال رهيبة تجاههم، حسب روبيرتسون.

كيف نكسر دائرة العنف؟ المفكر التربوي البرازيلي باولو فريري الذي كانت لأعماله تأثيراً كبيراً بأمريكا اللاتينية، يعتقد أن التحرر الحقيقي من القمع يتطلب أكثر من إسقاطه، عبر تكريس النزعة الإنسانية بالتربية والتعليم التي تعيد طريقة تفكير الناس بحياتهم، وإلا فإن المظلومين قد يعيدون الظلم الذي وقع عليهم. وقبله نظرية غاندي القائمة على مبدأ التمسك بالحقيقة التي تدعو لها كل الديانات والأفكار. الحقيقة الأولى هي الحب وإبعاد الظلم والأذى. فأفضل وسيلة نواجه بها أعداءنا هي كشف الحقيقة وإظهار الحب مما يحفز حالة الخير والعدالة داخل أنفسهم فيتوافقون معها. بتلك الوسيلة سيتفق المتحاربون وتظهر دولة سلمية. لذا، اللاعنف هو أفضل وسيلة للغاية السياسية، فالوسيلة هي بنفس أهمية الغاية.. فإذا كانت الغاية إنسانية نبيلة فلا بد للوسيلة أن تكون كذلك..

نظرية غاندي نجحت تطبيقياً وأثرت على حركات التحرر في القرن العشرين.. وقد أدرك نيلسون مانديلا قوة أفكار غاندي ووضع فكرته: التمييز العنصري في جنوب أفريقيا شكل من أشكال الظلم العرقي، لا بد أن نحتج ضده جميعنا سود وبيض. هذا الاحتجاج ليس ضد البيض بل ضد الطغيان. لذا رافقه في كفاحه السلمي مثقفون وناشطون بيض..

ما يساعد العنف في بداياته الأولى أنه في كثير من الحالات يُعطى المظلومون الحق في استخدام وسائل عنيفة وظالمة وتبرير ضحاياهم من المدنيين مما يجعل حالة العنف تراكمية أو دائرة تدور حول نفسها.. لكن عند التوقف عن هذه النظرة، مع الإصرار على الوسائل السلمية لرفع الظلم، وتنمية النزعة الإنسانية ورؤية الآخرين كبشر وليس أشياء مجردة، فإن دورة العنف يمكن كسرها..

alhebib@yahoo.com

مقالات أخرى للكاتب