قصة قصيرة

شيخوخة قمر

قضت ليلتها في مناوبة مستمرة، فتارة مع طفلها وحُمى أثقلت جسده الغض، وأخرى مع نوم يسترق من أجفانها غفوة، وهي مشرفة على جسد ابنها ذي الربيع الثامن, يقرع جرس رأسها وهو يهوي إلى الأسفل، هذا إن لم يوقظها أنين الجسد الغض وحشرجات صوته:

- متى يطلع الصبح يا أمي؟

ليس شوقاً لسلوة النهار، بل آملاً أنه سيتخلى عن المرض الملاصق له في الفراش.

تخرج مع ابنها إلى السفح المجاور للبيت (حمام قروي), فيطل عليها قمر مشاغب أعاد لها ذكرى سنوات أفلت, وطمست من قاموسها مع أفول قمر ليلة عرسها قبل تسعة أعوام، حين قدمت وغصنها ممتلئ بالثمر, فاتشح فارس أحلامها سيفه فأثخنه؛ ليذبل يوماً عن يوم.

وهاهو قمر هذه الليلة يعيد لها ذكرى أحلامها الوردية المفعمة بالحياة، وفتى أحلامها الذي كان يراودها كل لحظة، لكن هذه الليلة على سفح القرية الموحش المشبع بصوت النأي والذكرى الحزينة، بات فتى أحلامها يتأفف من أنين ابنه المريض, الذي يبدو كأنه دخل عتبة الستين من عمر انقضى، ودموعها تتوسل إلى القمر المشاغب أن يغادر ليصبغ على حياتها جواً مناسباً، ما زال دمعها يتدحرج على سفوح وجهها حتى زحف أنين ابنها إيذاناً بأنه أفرغ ما في بطنه.

حتى القمر لم يرثِ لحالها ويحمل قطعة رمادية من السحاب المجاورة ليدثّر ذكراها المؤلمة، الصبح لم يطلع، والزوج لم يشفق على من هو سبب مغادرتها لروح أحلامها، وكذا القمر لم يغب, أو يحتجب! بل لاحقها ضوؤه من فتحة بجوار نافذة الغرفة.

أنين إلى الصبح, ونداء بجلجلات صوت مرتعش جراء حمى ضارية، ينادي:(أماه .. أماه)، ونوم يجلد بسياطه عينيها المغرورقتين بدمع صامت.

أصفاد تطوق أعناقاً ضعافاً، طفل يرقب الصبح، وأمٌ ترجوشفاء ابنها, وتتوسل القمر أن يغيب. هاهو صوت مئذنة الجامع يبح للنائمين, ويأذن برحيل القمر، ويفلق هامة ليل طغى على قلب الطفل المتعب.

توسلات الطفل لشمس الشفاء أن ترسل شعاعها،ونظرات الأم في عيني بكرها وقد حلجتها حمَّى مضنية.

طلع الصبح وإذا بالطفل يحن إلى فجر بغاه, وشمساً رجاها بعد ليل أضناه رحيله، فكلاهما كما قلب أبيه النائم الذي سمعه يقهرأمه عندما رجته أن يعطيها ثمن جرعة دواء لابنه السقيم, فأجابها: (خذي من جارنا)وهو يتلمس علبة السيجارة.

جادت يد رطبة في قسوة القرية ببضع مئات للأم المقهورة، ومع أول حافلة يحمل (بائعي الورق الأخضر) إلى المدينة كانت الأم تنتظرها وهي تجلس على كرسي انفرادي لأنها لا تمتلك (محرماً), فظلت الأعين تلوكها وتفتش في ضمورجسدها.

في صيدلية الشفاء تعرض حالة الطفل على شاب يتطفل على حياة البشرْ، فيجمع عبوتين ويخبرها بالسعر الذي صعق مسمعها؛ لتناوله مبلغ ألف، وكذا بضع مئات من الريالات، مدت يدها بما تحمل من مئات معدودة، يعطيها دواءً واحداً ويُرْجِع الآخر وهو ينظر في عينيها اللتين شاخ بريقهما،لأنهما لم يشبعا شيئاً في نفسه.

- حامد الفقيه