الدكتور آل سليمان.. رحيل الكبار !!

يموت قليلاً من يموت صديقه

وإن كان يبدو الشامخ الصامد الصلبا

بهذا البيت المترف حزنًا وفقدًا يجسِّد لنا الشاعر - حال أرواحنا وهي تستقبل الفقد وتودع من تحب.. موتٌ كاملٌ يسري عبر أوردتنا.. يغتال النبض ويؤجل الركض ويفتح باب الذاكرة والتذكر على مصراعيه.. ولعمري لم يمض صديقٌ إلى مثواه الأخير دون أن يأخذ من أروحنا جزءًا من أجزاء كما قال جبران.. أخذ البعض منها من سبق.. وترك الأخرى لمن يلحق.. والعزاء في رب كريم رحيم.. أن يجمعني وأصدقائي الذين رحلوا بأجزائي في جنات النعيم المقيم..

لم يكن مشهد آخر الأصدقاء الراحلين (أبو عبد الله).. وهو مسجى على نعشه مشهدًا عابرًا.. بل كان حالة للخلود؛ ابتسامة ووجه مشرق وضاء.. ودّعنا بها أبو عبد الله.. هذا ما رأيته ورآه غيري ممن قبلوا جبينه قبلة الوداع.. ودع دنيانا بعد معاناة قاربت العامين على ابتلائه بمرض عضال -رحمه الله-.. زرته وزملائي من أحبابه مرارًا.. كان يتحدث معنا فننسى أنّه مريض.. ربَّما لأنَّه أراد أن ننسى أو نتناسى مرضه ليطمئننا أنه بخير.. يدلف إلى مجلسه جميع الأطياف من البشر.. حيث لا مكان للمناطقية أو الطبقية.. اجتمع زائروه وأجمعوا على حبه! في مجلسه.. كان كل منا يشعر بأنّه هو الأقرب إلى قلبه وصديقه الخاص.. كان كريماً في كلِّ شيء.. كان كما ينبغي للكرم أن يكون.. متجاوزًا في ذلك التعريف الضيق للكرم.. إلى تلك الجوانب التي تقربه إلى الله.. نعم تجاوز كرمه الحدود المادِّية إلى العفو والصفح ومد يد العون للمحتاجين.. وبناء المساجد وكفالة الأيتام والأرامل والسعي في قضاء حوائج الناس.. هذا هو الدكتور مبارك بن سعد آل سليمان -رحمه الله- وأسكنه الدرجات الرفيعة من الجنة.. لم أتحدَّث عنه قط - في حياته أو بعد وفاته -رحمه الله- عند أيّ ممن عرفوه.. إلا ويضاف بعدًا إنسانيًّا آخر لأبي عبد الله.. مثلما لم ينتظر أبو عبد الله المحتاج حتَّى يسأله مساعدة يسد بها حاجته.. كان يذهب إليه ويأخذ بيده ليبني له قصرًا من السعادة مزيلاً بذلك همومه.. عندما يقصده أحدهم لقضاء حاجة في جهة ما.. لم يكن يرسله أو يكتب له شفاعة أو شيئًا من هذا.. بل كان يأخذه في سيارته الخاصَّة ويذهب معه بنفسه.. مع العلم أنّه لو اتصل بأي من أصدقائه لقضيت حاجته.. لكنها سجية النبل التي كانت تسكن روحه -رحمه الله-.. تلك التي كانت تشعره بالظمأ الشديد، ثمَّ لا ترتوي إلا من منابع السعادة التي لا يجدها الرجل الشهم سوى في العطاء والبذل.. كان أبو عبد الله -رحمه الله- مدرسة في الوفاء لمن يعرف ولمن لم يعرف.. قابلت أصدقاءه مذ كان طالبا في الجامعة وآخرين درسوا معه في الخارج وآخرين عملوا معه في الجامعة.. ورأيت الأسى يرتسم على وجوههم جميعًا في مرضه.. لما كان يمر به أبو عبد الله من معاناة مع المرض.. ولا أبالغ إن وصفت حزن أحبائه على فراقه بحزن أقاربه الأقربين.. الذين كانوا يواسننا تارة ونواسيهم أخرى.. إن مصيبتنا كبيرة بحجم فقيدنا الكبير، الكبير في قلوب الناس.. وكبر حجم الفراغ الذتركه بعده! رحمك الله يا أبا عبد الله بقدر كل قلب أسعدته وكل يتيم مسحت على رأسه وكل مسجد بنيته وكل صائم فطرته وكل محتاج أعنته وكل صديق أحببته وكل ضيف أكرمته.. رحمك الله رحمة الأبرار والصديقين والشهداء..

تلويحة الوداع للشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري:

قد يقتل الحزن من أحبابه بَعِدوا

عنه فكيف بمن أحبابه فقدوا

- د. محمد بن سعيد العلم