ميمون السبيعي .. وأي درب قاد خطوي!

إجمال:

«أسطورة» صنعانية تتشكل أمامي وصف حياة.. وصورة جمال.. وأسلوب شاعر.. ولغة أديب عبر مدونة أدبية في (104 صفحة) من القطع المتوسط، صادرة عن دار المفردات بالرياض عام 1431هـ. عنوانها: بلقيس أيتها الغادة الصنعانية (أجيبي أي درب قاد خطوي) للشاعر.. الكاتب مبارك بن دليم والمعروف بميمون السبيعي.

تفاصيل:

(1) ولهذا الميمون قصة تروى «ذات سند متصل عن رواة عدول»، حدثني عبدالرحيم الأحمدي صاحب دار المفردات ذات ضحوية شتائية قال: عندي محب وشاعر يرغب الحديث إليكم.. فقلت حيهلا هاته فإذا به يقول: أنا مبارك بن دليم.. أنا ميمون السبيعي يتحرك الشعر بين جنبي مشاعراً وقرأت عن كتابكم الوطني (50 وردة شعرية في حب الوطن) وأرغب المشاركة.

قلت له: مرحباً الكتاب يسعد بانضمامكم ومشاركتكم!!

مضت الأيام وإذا إيميلي يحمل تلك القصيدة الفارعة الناضجة المسبوكة في قوالب خليلية، فأخذت مكانها في الكتاب المذكور الذي صدر عام 1434هـ. عن نادي الباحة الأدبي.. وراحت الأيام وزاد التواصل هاتفياً حتى عرفت أن اسمه الكامل:

مبارك بن سعد بن دليم الدليم السبيعي.

من سكان الضبيعة إحدى مراكز محافظة الخرج.

لواء متقاعد وأديب مثقف.

وبعد فترة من الزمن طويله (أكثر من 365 يوماً) التقينا في جدة، جاءني زائراً يحمل التمر (نبوت السلطان ونبوت السيف) إهداءً وتحية تعارف..

ومع ذلك كتابين:

- سفر أحدوثات شهر العسل.. .1430هـ

- بلقيس.. أيتها الغادة الصنعانية.. .1431هـ.

شكراً أخي مبارك - ميمون على هذه الإهداءات.

(2) «لم يطل ليلي ولكن لم أنم ونفى عنى الكرا طيف ألمّ

حدثيني عن كتاب جاءني»

آه ما أحلى الكتاب المغتنم

ما بين الأقواس قالها بشار بن برد، وختمت العجز الثاني للمناسبة!!

وفعلاً ليلتان لم أنم فبصحبتي هذا الكتاب المغتنم الذي ذكرت طرفاً عنه - تعريفاً وتأسيساً فيما سبق. وما إن ختمته حتى كتبت تعليقاً أولياً: الله.. ما أروع بلقيسك هذه التي أوحت وألهمت، وعبّرت عنها بما هو أروع وأعمق وأعذب – لغة وأسلوباً وحواراً وتصويراً إبداعياً – لك الحق يا (ميمون)!! فالجمال الصنعاني موحٍ ومغرٍ، غفر الله لك!!

ذكرتني بأسطورة القصيبي التي أبدعها نصاً سيرياً عن حقيقة أنثوية لدلوعة بريطانيا وأميرة ويلز (ديانا). فمن هي هذه الأسطورة الصنعانية؟؟ التي أبدعها (ميمون السبيعي) نصاً نثرياً وشعرياً؟!

إنها بلقيس:

- الفتاة الصنعانية والأديبة اليمنية، والحسناء المثقفة، والشاعرة الصَبية،

ذات الـ 22 ربيعاً أو تزيد، الحاصلة على الشهادة الجامعية في الآداب.

- الشاعرة المتحضرة، عالية الثقافة، مفتوحة العقل، المولعة بالسفر للاستجمام أو للمنتديات.

- ذات حضور لافت، تجمع حولها المريدون لجمالها وانفتاحها المتحفظ.

- فتاة حقيقية لا خرافة أساطير إغريقية، لصوتها سحر حقيقي (فسبحان من موسقه).

- غانية تستحم بالجمال، وتستجم بالغزل، ولها ابتسامة يجتمع فيها كل الصدق.

- غادة عاشقة ترتاح للغزل العفيف الراقي، ومنادمة تنغرس في الذاكرة.

- وجه مدور، عينان كحلاوان، شعر أشقر أو هو مشقر، لباسها ارستقراطي، بشرة فاتحة كصبايا صقلية أو جزيرة العرب، بعيدة مهوى القرط، لا يشتكى قصر منها ولا طول.

بهذه الصفات الحسية والمعنوية يصور لنا ( ميمون السبيعي) هذه الغادة الصنعانية، يؤسطرها لنا بحروفه ولغته وأسلوبه الشاعري، فيجعل منها واحدة زمانها، فلا هي (لوها)..الأسبانية ولا (فلورا) الصقلية، ولا (العابرة مع سيف الرملة البيضاء )، ولا هي (الأسبانية الشقراء)، ولا هي (شيهانة) الأزبكية. هنا يقول ميمون:

«لم تكن كهن، وكلهن صبايا، لكنني كنت أنظر بعينين وسلوك لم يكن لي الآن مثلهما» ص 57.

هكذا تبدو بلقيس -الأسطورة الصنعانية في عين عاشقها السبيعي ولكنها في الواقع تشي برمزية تراثية أدبية لها في ثنايا التاريخ العربي مكان وصولة وإيقاع شعري ونثري وتاريخي. ها هو (ميمون السبيعي) يعيدها لنا في منادمة حوارية تقترب من الحكاية التي تتجه فيها البطولة نحو الراوي -الكاتب.

(3) يدهشك (السبيعي) بثقافته الشعرية واستحضاره القصائد الغزلية واستخداماتها المتعددة في حواريته الباذخة، ومنادمته الثقافية مع شخصية (بلقيس) التي تبدو – في الحكاية- بطلة ثانوية سلبية ليس لها من الدور إلا الاستماع والإعجاب والتأمين على ما يقوله بطل الحكاية!! وكأني أمام صورة عكسية لـ ألف ليلة وليلة التي تكون فيها شهرزاد الحاكية، وشهريار المستمع -المعجب. هنا نجد العكس فـ شهريار هو (اللسان) وشهرزاد هي (الأذن)، وهذه تقنية عالية الجودة من (السبيعي) إذ يستحضر التراث ويعيد قولبته في فنية معقولة، ولغة أخاذه، وحوارية جمالية.

خذ هذا المقطع:

«دعوتها للغداء، ضحكت، قالت: ضيفي؟ أم أنا ضيفك؟ -قلت: الداعي أولى.

- انتظرني في الملتقى.

ونحن نرتشف فنجاني قهوة كان مخطوطي بيدها، فتحت وقرأت:

(طلعت كشمس).

وجول حمام رآك فطار.

وسرب ظباءٍ رنا فاستدار.

ألوح للعابرات.

وداعاً أيا عابرات

وتبقين أنت.

وتبقين أنت)

وقالت:

- عرفت خبر العابرات (لوها) وأخواتها.

- ما شأن هذه؟

أطرق القلب وغامت أعيني برواها وتجاهلت السؤالا).

هذا أنموذج، وكثيرة هي الأمثلة الدالة على حوارية ناضجة في لغة بينة وأسلوب شاعري كل ما فيه إغراء وفتنة وجاذبية نحو القراءة والتفكير الجميل.

(4) وتتنامى الأحدوثة-الحكاية بين صاحبنا (ميمون) وصاحبته (بلقيس)، فمن لقاءات على هامش المنتدى في صنعاء، إلى جولة حرة في قلب المدينة حيث باب اليمن والهدايا،»سبحةٌ من العقد اليماني الشهير غالي الثمن» منها، «ووعد بقصيدة غزلية أو ديوانٍ أو بطولة» منه. وبعد ذلك إلى سفر بري-انفرادي نحو عدن ثم لقاء غزلي عفيف على الشط ثم وداعية شعرية في الفندق جاءت تحت عنوان المساء الأخير على سِيف عدن، حيث كان الشعر قصيدتان تحت عنوان - شامل (صنعانيات) وعنوانين فرعيين (1) بلقيس جئت متأخرةً كثيراً، (2) أستودع الله في صنعاء فاتنة، ويعرفها الشاعر (ميمون السبيعي) بأنها نصان يحتفيان بشعرية النثر. تقرأهما فتقول هما إعادة شعرية لنص نثري طويل، لكن اللغة النثرية في الجزء الأول كانت أحلى وأجمل لأنها تتدثر بالحكاية والحوار والصور المتحركة، أما النصان الشعريان فهما تحصيل حاصل فكل ما فيهما سبق قوله نثراً وحكاية فغاب وهجهما الشعري. ولو كان بيدي من الأمر شيء لقلت لهذا (الميمون) إبدأ كتابك بالشعر ثم أتبعه نثراً وحكايةً!!

وهذه مقاطع جمالية من النصين الشعريين:

من النص الشعري (1)

«اختارت مكاناً

جلسنا على رملة البحر..

قالت: شعراً

قرأت شعراً

(وصوتها، سبحان من موسقه)

لم أقل

لم أقرأ

هل رأيتم غادة تحمل لواء جمال

ولواء صبا لواء فصاحةٍ ولواء شعر» ص90-91

ومن النص الشعري الثاني (2):

«ما أجمل البحر هذا المساء

أليس هو ككل مساءات أيلول؟

هل أقول لها: يا بلقيس

لولا أنت.. لما كان هذا البحر جميلاً

لن أقول:

(لا تعجبي يا بلقيس من رجلٍ ضحك المشيب برأسه فبكى)

لكني كبرياءً. لن أبكي

كن رجلاً

استجمع شجاعة كل الرجال وقل:

(قلت هواك فيا طول عذابي

ما الذي يجمع شيباً بشباب)

لكنني كبرياءً لن أقول

ما أحوجني إلى عكاز

إلى تناول الدواء

يا بلقيس:

غداً (يا ويح نفسي من غد)

استودع الله في صنعاء فاتنة وداعها ودنو الموت خيان)). ص97-98

هنا يتضح معنى الضرورة أن تكتب ما يشبه الشعر المنثور لكنه إعادة لما كتب سابقاً في الحكاية والسرد بنفس شاعري، وموسيقى داخلية لا ترقى إلى مفهوم قصيدة النثر ولذلك أسماها (نص يحتفي بشعرية النثر)

لكن الشاعر يخرج من النصين الشعريين إلى فضاءات السرد ليكمل لنا الحكاية: السهرة الأخيرة ثم الإفطار الأخير ثم الوداع في مطار عدن.

هنا أترك السبيعي وهو يصف لنا ذلك المشهد الوداعي ولوعة الفراق وتعطل لغة الكلام ليظل الصمت والنظرات والدموع هي التعبير الراقي في هذه اللحظات: يقول (ميمون):

«في المطار وعلى بوابة السفر سلمتها مظروفاً يحوي يومياتي صافحتني، صافحتها، قابضةً يدي، قابضاً يدها، أنظر إليها، تنظر إلي، محترسين ألا تغلبنا الدموع.. لم أقل، لم تقل

«وتعطلت لغة الكلام وخاطبت عيني في لغة الهوى عيناها» ص 101

الله.. يا ميمون ما أجمل هذا التصوير: لغة أخاذة وصور بديعة تجسد الواقع صدقاً وحساً ومعنى. وكذلك هم الأدباء المبدعون.. بارك الله فيك!!

- د. يوسف حسن العارف