27-09-2014

صقور داعش تحكي حكاية الجبهة الداخلية

اكتسحت داعش أراضي العراق كما اكتسحت القوات الأمريكية العراق من قبل دون أي مقاومة، وكما يكتسح الحوثيون اليوم صنعاء. ومن قبل اكتسحت النصارى الأندلس، واكتسح المغول والتتر بغداد كاكتساح اليابانيين للصين، وكاكتساح ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا لمعظم الدول في أفريقيا وآسيا. والاكتساح غير الهزيمة، وهو وإن كانت له أسباب متفرقة إلا أنها تعود وتصدر من منبع واحد، منه تنبع وفيه تصب، وهو منبع تفكك الجبهة الداخلية وضعفها في المهزوم. شعوب قد هُزمت من داخلها فما أبقت من شيء ليقاتله العدو الخارجي. شعوب تفككت جبهتها الداخلية إما بظلم الحكام أو الثقافة أو الأديان والمذاهب. فظلم حكم البعث وظلم الطائفية دجنت العراق وهم صناديد العرب، والبوذية دجنت الهنود وجنسهم من أذكى الأجناس، وثقافة التصوف والخرافات والإيمان بالأساطير والتوكل السلبي دجنت المسلمين فذبحهم المغول واستعمرهم الأوربيون.

وتفكك الجبهة الداخلية هزيمة من قبل عدوان العدو وخلال احتلاله وبعد خروجه. وما أوقع الأمريكان في فخ تسريح الجيش البعثي العراقي فانقلبت عليهم الأمور إلا لأنهم تسطحوا في تحليلهم لأبعاد تفكك الجبهة الداخلية العراقية. فضعف الجبهة الداخلية التي فتحت لهم الطريق لبغداد لا يعني الترحيب بهم كما ظنوا، ولكنها تعني تحقق الانهزامية الداخلية قبل المواجهة الخارجية الحاضرة، والفوضى والاقتتال والفتن الداخلية بعد ذلك. ولهذا أباد النصارى المسلمين في الأندلس بعد اكتساحهم، فالنصر بضعف الجبهة الداخلية للمغلوب هو هزيمة مستقبلية للطرفين. فشعب متفكك الجبهة، بلاء على نفسه وعلى غيره. وبضعف الجبهة الداخلية لليمن اكتسح الحوثيون صنعاء اليوم، فيا لظلام صنعاء القادم غداً.

وسذاجة السُذج وسواد قلوب الشُرار يعمي أبصارهم كما عميت قلوبهم من قبل، فيتصورون اكتساح داعش للعراق نصراً كما ظن الأمريكان أن اكتساحهم للعراق نصراً. والسذج والشُرار، بعد ذلك، أنى لهم أن يتصوروا المستقبل، وهم أحمق وأغبى من أن يروا أبعد من أنوفهم.

هي إذاً الجبهة الداخلية التي يدور حولها النصر والهزيمة. وهي التي تدور حولها المذابح والفتن. فحداثة الإسلام وحدت الجبهة الداخلية للجيوش الإسلامية في القرن الأول، فكان النصر والفتوحات في ذاك القرن. وكذلك فضعف الجبهة الداخلية للمسلمين بسبب السياسة والاقتصاد أوقفت الفتوحات بداية، ثم نشرت الفتن والمذابح والهزيمة بعد ذلك. فأما الأمويون فقد أضعفوا الجبهة الداخلية بتفضيل العرب وباستئثارهم بالأموال وبالإقطاع، فأسقطتهم الشعوب سريعاً وذبحتهم ذبح النعاج. وأما العباسيون فقد مزقوا الجبهة الداخلية بتقديم الشعوب على العرب وانشغلوا بتحصيل الأموال والعبث والمجون فاستأثرت الشعوب بالسلطة دونهم وتنازعوا بينهم عليها وعلى الأموال. ولو أن كلاهما رشد ووعى لتبعوا سياسة الرقابة المالية النبوية وخلفائه في قوله لعامله «فهلا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً». ولما خافوا بعد أمنهم، ففي الأثر «ما ظهر الغلول في قوم إلا ظهر فيهم الخوف»، فالفساد المالي يضعف الجبهة الداخلية، كيف لا والوطن الواحد يصبح فريسة تُنتهب لمن قدر عليها. ولو أنهم رشدوا ووعوا لكان لهم في سياسة نبيهم وخلفائه الراشدين خير في قوله «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض»، وقال الشيخ ابن باز في شرح هذا الحديث «والحكم في دين الله أنه لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى سواء سُميَ قبلياً أو خضيرياً أو مولى أو أعجمياً، كلهم على حد سواء».

وهي أيضاً الجبهة الداخلية الممزقة بين البروتستانت والكاثوليك التي جعلت أوربا همجية ومستنقعاً للدم والفظائع عبر القرون الوسطى. ووحدة الجبهة الداخلية هي التي سودت أمريكا فجعلتها الأمبراطورية العظمى. وما توحدت جبهتها بضرب من الحظ ولكن بجهد جهيد بذلوه لاتباع السياسات المتمثلة في قوله تعالى لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ، وقوله لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ، وفي قوله عليه السلام «الناس من آدم، وآدم من تراب» وقوله «فهلا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً».

والجبهة الداخلية تبدأ من مستوى العائلة الواحدة وتتسع حتى مستوى القارات. فالتنازع بين الإخوة في الأندلس أضعف الجبهة الداخلية فاكتسحتها الجيوش النصرانية، فما فاز منهم من أحد، وتساووا جميعاً في سفك دمائهم واسترقاق نسائهم وضياع ملكهم.

وهي كذلك تتسع لتشمل القارة العظيمة، فتماسك الجبهة الداخلية للقارة الأمريكية سودت الدولار على عرش العملات تاجاً ديكتاتورياً لا يُسئل عما يفعل وهم يسئلون. وضعف الجبهة الداخلية للقارة الأوربية دفع السوق الدولية لرفض تقديم البيعة لليورو رغم عدله وديمقراطيته.

والذي دفعني لكتابة ما سبق هو سماعي بالصدفة لمقدمة حوار أمريكية في الراديو الوطني العام الأمريكي وهي تتحدث بإعجاب عن الإفصاح عن هوية الطيارين السعوديين وصورهم على الرغم من أنهم يقاتلون عدواً خبيثاً غداراً، قد يكون بعضهم مُندساً بغدره وخبثه بين المجتمع السعودي. فقالت مقارنة ومحللة: لم يسبق لأمريكا قط بأن أظهرت في الإعلام صوراً محددة لأشخاص شاركوا في عمليات قتالية محددة، فكم هي شجاعة السعوديين. وأولت هذا بأنها رسالة لداعش ومن يتعاطف معها تفهمهم بأن السعوديين لا يهابونهم ولا يخشون منهم. مما دفعني لكتابة هذا المقال لأبين حكاية عظيمة تحكيها صور الطيارين، تُدخل تحتها الشجاعة وتحليلات المقدمة الأمريكية. فصور الطيارين عندي تحكي عن صورة من صور تماسك الجبهة الداخلية السعودية ضد داعش والإرهاب، ففيهم الأمير والبادي والحاضر والقروي والحجازي والنجدي والشمالي والجنوبي والحساوي. صورة صقور تغشى مخافة الوغى تتصيد داعشاً وتبطش بها، ولكنها تتعفى عن افتراسها. فلله درهم، أذكروني نشيد عنترة «يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنمِ».

إن في صور الطيارين معاني كثيرة تحمل في طياتها معنى تماسك الجبهة الداخلية، التي يجب أن نحرص جميعنا على بذل الجهد وما يلحقه من ألم وتنازلات من أجل إيجاد أسباب تماسكها في كل صغيرة وكبيرة في كل شأن من شئون الوطن وعلى كل ذرة من ترابه. فالجبهة الداخلية هي العدو الغادر القاتل إن ضعفت، وهي الصديق الوفي القوي إن تماسكت، ليس داعش الشر ولا إمبراطورية أمريكا العظيمة.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب