مملكة القيم

اليوم الوطني.. ليس ذكرى إنجاز عظيم فقط، أو احتفاءً بمناسبة محددة، بل هو ذكرى ولادة حضارة متكاملة في زمن افتقرت فيه هذه البلاد إلى مقومات البناء المادية، لتعتمد على ركائز أكثر رسوخاً أساسها الإيمان والعدل، مستمدة ثوابتها الراسخة من تعاليم الشريعة السمحة، صانعة بذلك نموذجاً عصرياً فريداً لنهضة أساسها القيم السامية والمبادئ النبيلة، ومطبقة شرع الله القويم في أرضه، ومثبتة، يوماً بعد يوم، متانة البناء وصموده في وجه المتغيّرات التي تعصف بالعالم.

إن الأسس التي وضعها المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله ورعاه- ومن بعده أبناؤه الملوك الميامين شكلت مناخاً ملائماً لانطلاق مسيرة تنموية ونهضة شاملة وضعت بلادنا في فترة وجيزة في مصاف دول العالم المتقدمة في مختلف الميادين مع محافظتها على هويتها الإسلامية الأصيلة وتقاليدها العربية العريقة، وهو الأمر الذي شكل تحدياً لكثير من بلدان العالم التي تحاول اللحاق بركب الحضارة.

لم يكن الإنجاز يسيراً، وكانت التضحيات في سبيل تحقيقه عظيمة، فمسيرة توحيد هذه البلاد، التي شكلت إحدى أهم ملاحم العصر الحديث، كان قائدها بطلاً استثنائياً، وانطلق برفقة رجال مخلصين ليلمّوا شعث الوطن ويجمعوا شمل أبنائه تحت راية التوحيد حتى تحققت المعجزة، وأصبحت قصص تلك البطولات، وسير التضحيات والبذل والعطاء مصادر إلهام لأجيال، تستلهم منها القوة في الحق، والإخلاص لله ثم لأهدافنا وجهودنا ومساهماتنا في خدمة بلادنا - حرسها الله.

وباكتمال مرحلة التوحيد، استمرت مسيرة البناء، وقامت على أرض هذه البلاد مسيرة تنموية ونهضوية شاملة استمدت قوتها من قيم الإسلام واعتمدت على جهود أبناء الوطن وقوة إرادتهم وعظيم همتهم، فأصبحت الصحارى القاحلة ميداناً لنهضة تنموية هي الأهم في المنطقة شملت جميع القطاعات والمجالات التعليمية والصناعية والزراعية والخدمية، وجعلت المواطن السعودي هدف هذه التنمية التي سابقت الزمن، ورسمت معالم حضارية جمعت بين أصالة التراث وديناميكية الحاضر ومتغيراته كما تهيأت للمستقبل ببصيرة نافذة تستشرف الآفاق وتستنير الطريق.

وكان استثمار الوطن في أبنائه خير استثمار، وأدى ذلك إلى استمرار تحقيق الإنجازات، ووقفت بلادنا، بفضل الله ثم بجهود أبنائها، في وجه الكثير من العواصف والمتغيرات، وقادها طيلة عقود ملوك ميامين حذوا نهج والدهم في إخلاصهم لله ثم لوطنهم وأمتهم، ولم تكن مسيرة النهضة في بلادنا سهلة بل واجهت تحديات كثيرة وتخطت المملكة صعوبات خطيرة، وفي كل تحدٍ كانت قيادات هذه البلاد على مستوى المسؤولية لأخذ البلاد إلى شاطئ الأمان بفضل سياساتها المنطلقة من مبادئ راسخة مستمدة من تعاليم الدين الحنيف والقيم الإنسانية النبيلة.

وفي هذا العهد الميمون، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، تعيش بلادنا عصرها الذهبي، فقد بلغت النهضة ذروتها، وحققت بلادنا - حماها الله - مكانة عالمية رفيعة، بعد أن منّ الله عليها بقيادة استثنائية أخذت البلاد لآفاق جديدة وبدأت بلادنا عملية تنموية شاملة وكبيرة ومشروعات عملاقة رصدت لها ميزانيات لم يسبق لها مثيل شملت جوانب الحياة الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والصحية والخدمية لتحقق رؤية خادم الحرمين الشريفين في تحقيق تنمية مستدامة ارتقت بالمملكة العربية السعودية وجنبتها بإذن الله الأزمات.

كما أن المكانة الدولية الرفيعة التي تحظى بها المملكة كانت نتيجة سياسة خارجية حكيمة، فقد واصلت المملكة تعميق أواصر التعاون مع دول العالم بفضل مواقفها الداعمة للحق والمساندة للخير والسلام، كما واصلت المملكة جهودها في دعم التضامن العربي والإسلامي، وتعميق الروابط الأخوية بين الدول العربية والإسلامية، واستثمرت مكانتها الدولية في تحقيق كل ما فيه الخير للعرب والمسلمين انطلاقاً من مكانتها كونها تمثل ضمير الأمة ومهبط الوحي ومهد الرسالة المحمدية ومهوى أفئدة المسلمين والأرض التي أشرق على أرضها نور الإسلام وحملت إلى الدنيا رسالته الخالدة.

ولأن الأمن ركيزة أساسية من ركائز التنمية فقد أصبح سمة هذه البلاد، فلا يكاد يذكر الأمن والاستقرار حتى يبرز اسم المملكة العربية السعودية كأحد أكثر مناطق العالم أمناً واستقراراً ولله الحمد، وكان ذلك بفضل الله ثم نتيجة للمنهج المتبع الذي يستقي تعاليمه من كتاب الله وسنة رسوله، وترسيخ مبادئ العدل واتباع منهج الاعتدال والوسطية، وبناء جهاز أمني حديث أثبت قدرته المرة تلو المرة على إحباط عبث العابثين ومخططات الحاقدين لتنعم الدار في ظل قيادتها بالأمن والأمان.

وكانت كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - يحفظه الله، والتي وجهها إلى الأمتين الإسلامية والعربية والمجتمع الدولي مؤخرًا، وثيقة مهمة تعبر عن موقف المملكة وتحذر من خطر الإرهاب وتكشف آثاره المدمرة باعتباره آفة خطيرة تهدد أمن العالم وتستهدف استقراره وتتمسح بالدين والدين منها براء وتستعين بالمغرضين والحاقدين على أمتنا لتعيث في الأرض إرهاباً وفساداً وتشويهاً لصورة الإسلام بنقائه وصفائه وإنسانيته.

وتضمنت الكلمة نهج المملكة في مكافحة الإرهاب واحتوت أفكاراً بناءة لمواجهة هذه المشكلة الخطيرة وحملت تحذيراً واضحاً لكل الذين تخاذلوا أو يتخاذلون عن أداء مسؤولياتهم التاريخية ضد الإرهاب من أجل مصالح وقتية أو مخططات مشبوهة.

ودعت قادة الأمة وعلماءها لأداء واجبهم تجاه الحق جل جلاله وأن يقفوا في وجه من يحاولون اختطاف الإسلام وتقديمه للعالم بأنه دين التطرف والكراهية والإرهاب وأن يقولوا كلمة الحق وألا يخشوا في الحق لومة لائم.

ولأهمية الاقتصاد باعتباره شريان التنمية بنت المملكة نظاماً اقتصادياً حديثاً يعتمد التوازن والخطوات الواثقة المحسوبة مثبتاً سلامة نهجه من خلال ثباته في مواجهة الأزمات الاقتصادية العالمية التي تعصف بأعرق الاقتصاديات العالمية، ونجح في تنويع القاعدة الاقتصادية، وبناء المدن الاقتصادية ، وواكب ذلك تعزيز التنمية البشرية بتحسين المستوى المعيشي للمواطنين وتوفير فرص العمل لهم، وذلك بالتركيز على التعليم بجميع قطاعاته والاستثمار في رأس المال البشري والتركيز على انتقال المملكة للاقتصاد المعرفي.

ولقناعة القيادة الرشيدة بأهمية التعليم ودوره في إعداد الكوادر البشرية المواكبة لأحدث مستجدات العصر، والواعية لدورها في نهضة الوطن، والمساهمة في مسيرة التنمية الشاملة. وقد حظى قطاع التعليم بدعم غير مسبوق واستأثر بأعلى نسب الإنفاق من الناتج المحلي. وهناك عدد كبير من المؤشرات التي تعبر عما يحظى به التعليم و التعليم العالي من دعم باعتبارها قطاعات مسؤولة عن بناء الإنسان السعودي المزود بالعلم والمعرفة، والقادر - بمشيئة الله - على مواكبة مستجدات العلوم والتقنية، والوفاء بالاحتياجات المتجددة والمتطورة لسوق العمل. ففي قطاع التعليم العام حظى مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم العام بدعم مادي ومعنوي وبدأت نتائجه تتضح على هذا القطاع في بناء المنشآت التعليمية في جميع المدن والقرى وتطوير المناهج والرقي بأداء المعلم وتعزيز الجودة في المخرجات التربوية والتعليمية. كما يساعد هذا الدعم الكبير مؤسسات التعليم العالي على تحقيق رسالتها وأداء دورها الحيوي وتحقيق نقلة نوعية في التعليم الجامعي، ومن بين هذه المؤشرات.

إنشاء الجامعات الجديدة، التي تؤكد حرص هذا العهد الزاهر على إتاحة التعليم العالي في كافة ربوع الوطن، حيث ارتفع عدد الجامعات الحكومية إلى 27 جامعة في الوقت الحالي فضلاً عن جامعات وكليات أهلية كثيرة أنشئت في السنوات الأخيرة، مما ساهم في زيادة القدرة الاستيعابية للجامعات، والوفاء بالطلب المتزايد على التعليم العالي.

برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، الذي يشمل مراحل البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في تخصصات حيوية بجامعات مرموقة في عدد من دول العالم، وهو ما يسهم في توفير كفاءات وطنية تخرجت في أرقى الجامعات، وفي تخصصات تتوافق مع احتياجات سوق العمل ومتطلبات برامج التنمية، وتسهم في نهضة الوطن وتطوره.

إنشاء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية لتكون منارة للمعرفة، وبيئة راقية للعلم، وجسرًا للتواصل بين الشعوب، وصرحاً علميًا شامخًا للعلوم والتقنية يستقطب الطلبة والدارسين والباحثين من مختلف دول العالم، ويسهم في توطين التقنيات المتقدمة، التي صارت ضرورة من ضرورات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

الارتقاء الكمي والنوعي بالتعليم العالي من خلال رفع كفاءته الداخلية والخارجية، وزيادة الاهتمام بقضايا الجودة النوعية، وتعزيز ربط البرامج التعليمية بمتطلبات التنمية، والتوسع في التخصصات العلمية التي تحتاجها مسيرة التنمية.

إطلاق مشروعات ومبادرات مهمة مثل برامج مراكز التميز البحثي، وبرامج تنمية الإبداع والتميز لدى أعضاء هيئة التدريس، وتطوير برامج وخدمات الإرشاد الطلابي، وتطوير الأقسام الأكاديمية، وتطوير الجمعيات العلمية، وبرامج الاعتماد الأكاديمي المؤسسي والبرامجي.

الترخيص بتأسيس شركات لأودية التقنية في بعض الجامعات السعودية، لتعزيز دور الجامعات في الإسهام الفاعل في تطوير اقتصاد المعرفة عبر الشراكة بين المؤسسات التعليمية والبحثية ومجتمع الأعمال ومن خلال الاستثمار في المشاريع المشتركة التي تصقل الخبرات والتطبيق العملي لطلاب الجامعة وأساتذتها، وهو ما يعكس إدراكًا كبيرًا لأهمية الاقتصاد المعرفي، ويوفر البيئة المثالية للابتكار، ويسهم في بناء الدورة الكاملة لإيجاد المنتج المعرفي وتطوير التقنية واستثمارها، ويؤكد أن الدور الذي تقوم به الجامعات الحديثة لا ينحصر في تقديم التعليم المتطور ولكن في تفعيل البحوث العلمية التي تجريها الجامعات وربطها بالاحتياجات الاستراتيجية للمملكة.

وحظيت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بدعم لا محدود من لدن قيادة المملكة مما جعلها تحظى بالاهتمام والمقارنة مع الجامعات العالمية المرموقة، وتستمر في تميزها وريادتها على المستويين المحلي والعالمي. وتمكنت الجامعة من إطلاق مبادرات رائدة وفذة لتطوير العملية التعليمية والبحثية وجودة خريجيها بما يسهم باقتدار في مسيرة التنمية الوطنية. واستطاعت الجامعة تحديد معالم المسار المستقبلي لها ومضاعفة الجهد لتحقيق الرؤية الطموحة لقيادة هذا الوطن في ظل متطلبات المنافسة العالمية.

وبهذه المناسبة نؤكد أن هذه الجامعة العريقة كانت - وستظل بمشيئة الله - قادرة على تخريج الكوادر الوطنية المؤهلة للمشاركة في مسيرة التنمية، من المتميزين أخلاقياً، والمزودين بالفهم الحقيقي والوسطي لديننا الحنيف، والمستعدين للدفاع عن الوطن ضد كل من تسوّل له نفسه العبث بأمنه والمستوعبين لقيم التفاهم والتسامح والاعتدال والحوار، وبما يعزز مبادئ الشريعة السمحة في النفوس، وما يكرس حب الوطن والمحافظة على مكتسباته.

وفي الختام .. ليكن هذا اليوم مناسبة لتذكر تضحيات الآباء والأجداد، ولنتعلم منهم كيف يكون البذل والعطاء، و كيف تتغلب الإرادة على المستحيلات، ولنتعلم أن من زرع الخير والعدل سيحصد نماءً ورخاءً وأمناً وأماناً، وليكن هذا اليوم فرصة لتعلم الدروس وشحن الطاقات والسير نحو مستقبل مشرق - بإذن الله، وأدعو الله العلي القدير أن يحفظ قائد مسيرتنا وراعي نهضتنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمين الأمير سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي ولي العهد الأمير مقرن بن عبدالعزيز - يحفظهم الله وأن يديم على بلادنا أمنها واستقرارها وعزها في ظل القيادة الحكيمة لحكومتنا الرشيدة.

د. خالد بن صالح السلطان - مدير جامعة الملك فهد للبترول والمعادن