07-10-2014

داعش والغبراء

يقف كثير من المراقبين حيارى أمام مشاهد القتل والدمار التي تشهدها منطقتنا هذه الأيام وتمتد لكثير من الدول الإسلامية والعربية. مشاهد غير مسبوقة في بشاعتها وعبثيتها تستعصي على الفهم في كثير من الأحيان. فقد شاهدنا مؤخراً الإعدام الوحشي لمن يسمون رهائن غربيين

وهم في الحقيقة عمال إغاثة غربيين من المتعاطفين مع المسلمين في الدول الغربية، أي أن القتل العبثي الأعمى أصبح يطال حتى المتعاطفين مع الشعوب العربية بشك غير مفهوم.

ولفهم ما يجري حولنا لابد من فهم التسلسل التاريخ للأحداث لأنه بدون ذلك تبدو الأحداث منفصلة متقطعة غامضة لا رابط بينها ولا مسبب لها، وهذا منهج عقيم لفهم التطورات التاريخية فظاهرة العنف التي نشهدها اليوم هي نتيجة تطورات تاريخية متواصلة كان لها انعكاسات فكرية وإيديولوجية وليست مادية فقط وهي تؤكد وصول كثير من الشباب المسلم إلى مرحلة من الفكر العدمي الذي يري فنائه خير من بقائه، ويرى إفناء ما حوله واجب عليه ويؤمن بألا قيمة للحياة وأن الموت أصبح خياراً أفضل له عله يرزق بحياة أفضل بعد الموت، فكيف تجذر هذا الفكر في عقول الشباب المسلم؟.

الوصول لمرحلة العنف العدمي والزهد في الحياة الكريمة كما نعرفها وكما نصح بها ديننا الحنيف مر بمراحل تطور مهمة من انتشار الإحباط واليأس بين شباب الأمة في دول إسلامية كثيرة. فبينما العالم يعمل ويكافح لمستقبل كريم لأجياله ينتشر بين شبابنا فكر عدمي يحقر ويزهد الشباب في كل ما فيه كفاح حقيقي لحياة كريمة بحجة أنه دنيوي وأن الحياة الدنيا برمتها فانية ولا تستحق الجهد والعناء وأن الأهم هو الحياة الباقية التي يكون أقصر الطرق إليها الموت في سبيل الله.

ومهما قيل من أن بعض الشباب المقاتل هم من أبناء طبقات متوسطة أو ممن لهم وظائف مقبولة اجتماعياً إلا أن الغالبية العظمى من هؤلاء الشباب هم شباب محبط لدرجة اليأس وهم شباب غير متصالح مع واقعه لأسباب مختلفة وليست مادية فقط، ولو لم يكونوا كذلك لما بحثوا عن واقع آخر رسموه من مخيلتهم ولا واقع حقيقي له، وهذه سمة وللأسف من سمات المجتمعات الإسلامية أكثر من غيرها، ولكنها غير محصورة فيها، فهناك أوضاع مشابهة تقريباً في بعض الدول الإفريقية، مثل ليبيريا، ورواندا وهي دول مسيحية رغم أن القتل العبثي فيها يأخذ أشكالاً أخرى إلا أنه في النهاية نتيجة لاحباطات مشابهة تؤدي للاستهتار بالحياة كقيمة وكحق.

فمن أهم معالم الإحباط الحساسية المفرطة وكلما زاد الإحباط أو تمت تغذيته ارتفعت معه درجة الحساسية واليأس ووصل لدرجة العدمية. ولو نظرنا للدول التي قدم منها معظم المقاتلين لوجدناها دول تعاني من نقص في التخطيط ومن التمايز الاجتماعي وعدم اتضاح الرؤية المستقبلية، ولذا فالتعليم فيها يركز على استحضار قيم الماضي والكلام عن المستقبل بشكل خيالي على اعتبار أن الحاضر مرحلة انتقالية بينهما لا قيمة له، وهي تزرع في مواطنيها صور لمستقبل لا واقع له ولا حاضر، فهناك شيء موعود في المستقبل مجهول الهوية ولكنه وردي جميل ولا يحتاج لعمل وتخطيط، هناك انتصارات قادمة لا بد وأن تأتي لأنها تستند على وعود ذات طابع عقدي لا قوة حقيقية. والأمر هذا لا يقتصر على الاتجاهات الدينية المتطرفة سواء مسيحية أو إسلامية أو غيرها ولكنه أيضاً سمة الأحزاب القومية والقومية المتطرفة أيضاً.

ويختلف عن ذلك بالطبع الدول التي استشعرت ضرورة التخطيط للمستقبل وحشدت كل إمكانياتها للوصول لواقع أفضل حقيقي لا يتجاهل الدين ولا الهوية ولا الماضي ولكنها لا يعتمد عليها بل على التعامل مع الواقع ومجابهة الحقيقة كما هي، ومنها دول إسلامية كماليزيا وأخرى من ديانات أخرى ككوريا وسنغافورة وإلى حد ما تركيا. بينما سارت عكس هذا الاتجاه دول كإيران، ودول البعث العربي، وبعض الدول العسكرية كليبيا وكوريا الشمالية. فالدول التي خططت بشكل صحيح للمستقبل استطاعت أن تحافظ على مستوى مقبول من النمو الذي انعكس مزيداً من الرفاهية التي ترجمت إلى مزيد من الطموح لدى شعوبها مما يغذي آمالهم في حياة دينيوية أفضل. أما تلك التي فشلت في التخطيط الحقيقي فأصبحت مرتعاً للفساد الذي انعكس مزيداً من الإحباط من المستقبل، والنفور من الواقع واستبدالهما باسترجاع الماضي بالقفز على المستقبل.

ومما يؤسف له فإن بعض الحركات الإسلامية، التي تستلهم رؤاها من ماضي أسلافها وليس من تصور حقيقي لواقعها ومستقبلها خاضت تجارب معينة عمقت الوهم لديها بقوتها وقدرتها على التأثير في العالم وبالتالي عمقت إحساسها في قدرتها على استعادة المجد السابق لأجدادها بتقليد هذا الماضي بكل حذافيره وتفاصيله. ومن هذه التجارب الحرب الأفغانية التي شكلت منعطفاً تاريخياً ليس للجفرافيا السياسة في العالم وإنما في حياة الحركات الإسلامية ذاتها وفي تصاعد الزخم الإيديولوجي لها، وهي حركات تجهل أو تتجاهل التجاذب السياسي العالمي للحرب الباردة الذي كانت هي، وحرب أفغانستان جزء منه، وكان ذلك سبباً رئيساً فيما تتوهمه من انتصار إلهي عظيم لها. فهناك الكثير من المنظرين لهذه الحركات ينسبون سقوط الاتحاد السوفيتي لحرب أفغانستان وليس للظروف السياسية داخله والفشل الاقتصادي للإيديولوجية الشيوعية. وكغيرها من الإيديولوجيات غير الواقعية استمرت بعض الحركات الإسلامية بقراءة الأحداث بشكل غير واقعي ميقنة أنها سبب في سقوط دولة عظمى وأنها قادرة على المجابهة العسكرية للقوى العظمى الأخرى مما جعلها أداة طيعة في يد الاستخبارات المختلفة التي استغلت حماس واندفاع هذه الحركات وانفصامها عن الواقع لاختراقها والتلاعب بها.

أما الغرب، ونحن هنا لا نبرئ السياسات البراقماتية النفعية التي تعامل معها هذا الواقع بكثير من الانتهازية، فقد وجد في هذه الحركات ضالته كعدو خارجي صوره على أن هدفه الأساس محاربة طريقة معاشة، وحرياته، وديمقراطيته التي تستند على تراث يهودي مسيحي كما يدعى. فاستغل التهديدات التي كانت تقتصر في غالبيتها على التهديدات اللفظية وليست إمكانية حقيقية ليغذي بها الخوف لدى شعوبه ليمنح مزيداً من الصلاحيات لأجهزته الأمنية التي تستهدف تدخلاته مزيداً من السطرة على المواطن الغربي ذاته، وليبرر إيديولوجياته العسكرية التي بناها لعقود بحجة محاربة الشيوعية، وهذا كلام صرحت به رئيسة وزراء بريطانيا فور سقوط الاتحاد السوفيتي وأيدها فيه الكثير من قادة الغرب بشكل غير علني. فالغرب بُعيد الحرب العالمية الأولى شكل مجتمعاته وتوجهات سياسته الخارجية على احتمال وجود خطر داهم خارجي وتحول ذلك لإيديولوجية دفاعية عززتها المجمعات العسكرية كما تسمى، وهي مجمعات تعتمد على المال العالم والضرائب في تمويلها وتستفيد منها أطراف وجهات خاصة تحولت لجماعات ذات ضغط ونفوذ كبير على الحكومات، وحولت العالم بأسره لسوق سلاح لا ينتعش إلا بوجود الحروب، وهذه الحروب حتى تكون منخفضة المخاطر عالية الربحية توجه للدول الأضعف المكشوفة في العالم.

الغرب لأسباب داخلية، وتحت ذرائع مختلفة، استمر في حصار وعزل الحركات الإسلامية داخلياً من جهة والمبالغة في تصوير خطرها خارجياً من جهة أخرى، وهذا قاد لمزيد من الكراهية له تتغذى عليه هذه الحركات التي استغلت هذه المبالغة لأسباب دعائية وإيديولوجية ولتجنيد المزيد من الشباب اليائس المحبط التي تفرزه المجتمعات الفاشلة الإسلامية والتجمعات المعزولة والمحاصرة في الغرب.

ومن هنا جاءت داعش وغيرها التي هيئت لظهورها ظروف محددة لا يمن أن تكون من قبيل المصادفة ومنها: التباطؤ في إسقاط نظام فاشل كالنظام السوري وحمايته؛ إذكاء التجاذب الطائفي في العراق؛ تسليم الجموع المحبطة أسلحة ألوية كاملة في العراق. فلا بد أن تزدهر سوق السلاح حسب دورات إنتاج أنظمة تسليح جديدة، ولا بد لهذا السلاح أن يسوق. أما الطرف الآخر الذي يستمد رؤاه من الماضي لا الواقع أو المستقبل فكلما ازداد عزلة ازداد تطرفاً وعنفاً واندفاعاً وكلما قدم نفسه حقل تجارب لأنظمة السلاح الجديدة. كفانا الله وإياكم شرور التطرف مهما كان مصدره.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب