يوميات الغرفة 326 (*)

(5) الأيام التسعة:

5/1 اليوم المَرضي والممرضات:

يتوزع اليوم المرضي إلى ثلاث فترات:

فترة الصباح حيث الأطباء والمستشارين يبدؤون جولاتهم، والتعرف على مرضاهم والاطلاع على التقارير الطبية التي يسجلها الممرضون والممرضات المناوبون ويستمعون إلى شكاوى المرضى.

وفترة الزيارات من الساعة الرابعة عصراً وحتى التاسعة حيث يستقبل المريض زواره ومحبيه.

وفترة الممرضات والممرضين الذين يتناوبون على رعاية المريض ليلاً ونهاراً.

وها نحن في اليوم الثالث، يوم الاثنين 27-2-1435هـ يزورني الأطباء والمستشارون في جولاتهم الطبية المعتادة، يسلمون، يطلعون على الملف الطبي، يقررون إجراء العملية الجراحية لتثبيت الكسر بواسطة الشرائح والمسامير الطبية ويأمرون بالاستعداد النفسي والعملي والصيام عن المأكولات والمشروبات منذ الساعة 12 منتصف الليل!!

(1)

أي نوم سوف يأتي

وغداً عندي قضية

حيث قال الطب حتماً

سوف تُجرى العملية

هـذه الآلام تسري

ودميعاتي عصية

ليلة هطل فيها الشعر عندما كتبت هذه الثلاثيات:

(2)

ويا قدمي التي كسرت صباحاً

عليك من الرحيم الأعطيـات

كُسِـرتِ وصابنـي منـك اعتبار

بأن العمر ليس له ثبـات

فقلـت من التوجع ليت شعري

أمَـوْتٌ ما ألاقي أم حيـاة؟!

(3)

يساري ما مشت يوماً لسوءٍ

وقد سارت كثيراً في المعالي

فيا ربي سألتك كن رحيماً

وسترك أنتظر في كل حالِ

تكالبت المتاعب، ويل قلبي

على ما فيَّ من جبسٍ وأثقالِ

وأنا بين مشاعري وأشعاري تزورني الممرضة الهندية المناوبة للاطـمئان وقـياس السكـر والضـغط فـتسألني بلغـتها الإنجليـزية (? what type) ماذا أكتب؟! قلت لها (Poetry) شعراً.. ضحكت وأنجزت مهمتها وغادرت.

هـنا تذكرت الوالـد - رحمه الله -، كان منوماً في هذا المستـشفى قـبل أربعة عشر عاماً في الدور الرابع قسم الباطنية، كنا (أولاده) نزوره ونسري عنه في مرضه، وكنت أرافقه في بعض الليالي.. ومرة رأيته ينظر ويعيد النظر إلى إحدى الممرضات الحسناوات!! فقرأت عليه قول الحق تبارك وتعالى:{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}.. فقال لي: يا ولدي إني والله لأدعو لهذا الوجه الحسن أن يبعده الله عن عذاب جهنم!!

رحمك الله يا أبي وأنت في قمة المرض تتذكر الجنة وعذاب النار وتسأل الله لهذه الحسناء الممرضة أن تُسْلِم فيبعدها الله عن النار وعن جهنم!! ياليتني كنت مثلك.. فأفوز فوزاً عظيماً!!

وفي المقابل تذكرت شاعرنا المبدع الأستاذ منصور دماس مذكور (1) الذي تعالق شعرياً مع الممرضات، وقال لإحداهن:

لا تخرجي الوصفات من أدراجي

أنت العلاج ولا سواك علاجي

إني أرى المكياج سحراً فائضاً

يا ليت من أهوى بلا مكيـاج

قالت فغض الطرف قلت غضضته

لكن طرفك للمحاول راجي

فتلثمت يا شيخ حسبك مازحاً

هل زاغ عقلك أم نوى إحراجي

بل قلت غاب بفتنة عربية

تنوي علاجي.. ليس في أدراجي

أفهمتها أين العلاج فراوغت

كيما تضاعف علتي وهيـاجي

لو أنها احتشمت بلبس ساتر

وأتت محجبة لغـاب لجاجي

من قصيدة طويلة بعنوان (في مشفى) عام 1413هـ

من ديوانه (حال) صدر عام 1413هـ ص ص 70-69

عشت مع الممرضات أياماً تسعة، رأيت منهن العجب: فيهن المخلصة عملاً، وإنسانية، وقدرة، وفيهن الضحوك اللعوب، وفيهن المتدربة التي تحتاج إلى التعلم والصبر والأناة.. وهذه قصتي مع إحداهن، زارتني ليلاً لتغيير إبرة التغذية فأتعبتني بعدم معرفتها ومحاولاتها في يدي اليسرى ثم اليمنى بلا فائدة فطلبت منها - بعد عجزها - استدعاء الممرضة الهندية التي أنجزت المهمة بكل اقتدار!!

تذكرت والدي.. رحمه الله، والشاعر منصور مذكور - حفظه الله - وطاف بخيالي كثيراً من الممرضات، فأوحت لي إحداهن بهذه الأبيات:

أبت الملاحة أن تشي بسواها

الشادن الميثاء بنت صباها

الكاعب الرعبوب بنت سماحة

باللطف والتحنان ما أحلاها

لبست ثياب الطب وهي جميلة

فازداد في عين المريض حلاهـا

سلبت فؤاد مريضها ياليتني

بَسْمَلْتُ لمَّا أسبلت عينـاها

غضت كحيل الطرف لما زمجرت

عينيَّ في شوق إلى لقيـاها

قالت خروجك (باكر) وتلعثمت

يا ليتها سكتت، فما أدراهـا

إني لمنتظر (غداً) في لهفة

سأقول ما السر الذي أبكاهـا

لما أتتني بالدواء فقلت لا

أنت الدواء لعلتي وشفـاها

أنت الشفاء لكل معتل فما

مثلي سيصبر والدوا يمناها

إن المريض إذا تشافى فجأة

فالفضـل لله الذي سـواها

* * *

5/2 العملية الجراحية وما بعدها:

أستغفر الله من هذه الخلجات الشعرية، وأنا أنتظر غداً يوم العملية، والساعة الآن تقترب من منتصف الليل ولا بد من إعلان الصيام الطبي استعداداً للعملية، عدت إلى ربِّي، ومشاعري الروحانية فدخلت في صلاة الليل والأسحار وتماهيت مع الدعاء والاستغفار: «يا فارج الهم يا رب العباد، خفف على عبدك هذا الحمل الثقيل. اللهم اغفر لي وأجرني وارزقني الصبر الجميل، اللهم سامحني وتجاوز عني واكتب لي الأجر الجزيل!!».

وها أنا أقترب من صلاة الفجر أتوكل على الله وأستند على مرافقي ريان، وأنتقل للاستحمام وتبديل الملابس السريرية البيضاء، بملابس غرفة العمليات الأزرق البحري البلاستيكي.. وأنتظر الصلاة!! وها أديت الصلاة فيارب القبول!!

يوم الثلاثاء 28/2 يوم ثقيل استعداداً للعملية، الأطباء يتأخرون، الاستدعاء لغرفة العمليات لم يصل حتى الساعة الثانية ظهراً، النفس مضطربة وأنا أتابع الاستعدادات لماراثون تعليم الكبار الذي خططت له بمناسبة اليوم العربي لمحو الأمية ولم أسعد بالمشاركة والإشراف.. أرسلت ولدي تركي وصهري فهد للحضور والتصوير وكذلك الزملاء المشرفون على الماراثون كانوا في قمة الحزن وهم يعيشون فعالية تربوية ولم أكن معهم وبينهم!!

لكن الصور التي التقطت، والنجاح الذي تحقق والذي شاهدته بعد عشاء هذا اليوم - بعد إفاقتي من العملية وتخديرها - أعادت إليَّ البسمة والروح المعنوية المرتفعة!! ليلتئذ قلت وكتبت: قلبي مع الجميع وجسمي مع مبضع الجرَّاح!!

في غرفة العمليات تذكرت أول عملية جراحية أجريتها في حياتي كان ذلك عام 1412هـ عندما كنت أستعد للسفر إلى باكستان موفداً للمدرسة السعودية هناك. كنت كثير الأفكار قلقاً، ومنزعجاً مما سأقدم عليه في غربة لأول مرة ومع عائلتي الصغيرة (زوجة وثلاثة أطفال)، وذات صباح شعرت بأعراض الزائدة الدودية، فما كان مني إلا الخضوع لعمليتها في نفس هذا المشفى!!

ما بين 1412هـ و1435هـ تجددت غرف العمليات في هذا المستشفى (الملك فهد بالمساعدية - جدة) وتجدد الأطباء والمساعدون!! أدخلوني غرفة التخدير استسلمت لقدري: one ، three، two وبدأت العملية لم أشعر إلا بوخز إبر خفيفة كأني أستمع إلى صوت ماكينة الخياطة وهي تحيك ثوباً مخملياً!!

ثلاث ساعات أو أكثر. نجحت العملية، خرجت، أفقت من التخدير، لا زالت آثاره على جسمي وقدمي كان مساءً متعباً نوعاً ما لكن ما خفف هذه الآلام أخبار الماراثون وصوره المتتالية وكان الجميع في فرح وبهجة وسرور وإحساس بالنجاح!!

«لم يطل ليلي ولكن لم أنم

ونفى عني الكرى هذا الألم

خففي (يا نول) عني واعلمي

أنني (يا نول) من لحم ودم

كيف أنساك وجسـمي متعب

وفؤادي بين نار تضطـرم

أسعديني بسـلام هاتفـي

أو تعالي ثم قولي لي نعم»

اتصلت بي الحبيبة أم أولادي في ساعة متأخرة - تطمئن وتهنئ بنجاح العملية فكتبت لها هذه الرباعية وأرسلتها ولما قرأتها اتصلت باكية وداعية ومودعة إلى لقاء وزيارة ظهر اليوم التالي إن شاء الله.

3-5 العَـمَّ (حسن) ونهر السكون:

جاري الجديد في الغرفة (326) (العم حسن) سوداني الجنسية، يتألم طوال الليل، والأطباء لا يجدون له علاجاً، ورحمة الله تحيط بالجميع، فوجئت ليلتها بابنه المرافق يستقبل في ساعة متأخرة أحد المشايخ الرقاة الذي قرأ عليه آيات الرقية ودعا له. ثم جاءني مسلماً وداعياً بالشفاء. بارك الله فيه.. وهكذا الناس إذا لم يجدوا عند البشر علاجاً اتجهوا لرب البشر يستقرئون القرآن ويبحثون عن المعالجين بالقرآن، والنفس بين هذا وذاك تحتاج إلى تربية وتدريب، فالله مع الجميع في كل حين وآن، والقرآن علاج للأرواح والأبدان، ولكننا عنه بعيدون وعن هديه منشغلون وفي ساعة العسرة نبحث عنه ونهرول إليه.. لا حول ولا قوة إلا بالله!!

الغريب في الأمر كيف سمحت إدارة المستشفى بدخول هذا الراقي وفي ساعة متأخرة ليس فيها زوار؟ هل هناك تعليمات بذلك أم كيف تسلل إلى الحجرة (326)؟؟! عرفت فيما بعد أن ذلك يمكن بطرق يتقنها مرافقو المريض بعلاقاتهم الشخصية!!

صباح الأربعاء 29-2، نقلوني إلى غرفة الأشعة في الدور الأرضي من المستشفى، لأخذ الصور للقدم المصابة بعد العملية وعرضها على الأطباء الذين بشروني وطمأنوني.. وأثناء الجولة الطبية الصباحية المعتادة جاءني طبيب العلاج الطبيعي الذي نصحني بعدم الاستسلام للنوم الطويل، وطالبني بالقيام عن السرير والخروج إلى فناء المستـشفى بالعربـية/ الكرسـي المتحرك والمشـي بالعكـاز الرباعـي حتى تتحرك الدورة الدموية ولا أصاب بتراخي العضلات أو ضمورها لا سمح الله، وعلى التو خرج الابن ريان يبحث عن كرسي متحرك/ عربة. فلم يجد في المستشفى لأنها كلها تالفة أو معطوبة ومشيها وئيداً وكأني بالزباء تخاطبها:

ما لِلْجِمَالِ مشيها وئيداً

أجندلاً يحملين أم حديدا

بل هي قليلة ولا تفي بحاجة المحتاجين من المرضى وفيما بعد اشترينا ما نحتاجه من الصيدليات!!

يوم الخميس 1-3 وحوالي الساعة العاشرة صباحاً خرجت مع مرافقي ريان على الكرسي المتحرك إلى فناء المستشفى، تجولنا، وجددنا النشاط.. وحوالي الساعة 12.30 عدنا للدور الثالث لأداء صلاة الظهر، فوجئنا بأن (العم حسن/ الجار المريض السوداني) قد توفي - رحمه الله -، والغريب في الأمر أن أبناءه قد وجدوا فرصة لنقله إلى المستشفى الجامعي لتلقي العلاج هناك على يد طبيب ماهر في الوجع المستعصي على أطباء مستشفى الملك فهد. وحصلوا على الموافقة الطبية.. وقد جهزوا كل شيء للخروج عصر اليوم نحو مستشفى الجامعة، ولكن سبق القدر ومات المريض فخرج إلى المقبرة - نهر السكون، رحمه الله وأسكنه الجنة ورزق أهله وأولاده الصبر الجميل.

كانت الغرفة (326) مزدحمة بذوي الميت والمعزين من جماعتهم، فلم يكن لي مكاناً أستريح فيه، عدت إلى فناء المستشفى حتى الساعة الثالثة عصراً ثم عدنا للغرفة!! وفي هذا الفضاء الجنائزي تذكرت أمل دنقل رحمه الله وقصيدته السرير:

«أوهموني بأن السرير سريري

أن قارب (رع) سوف يحملني عبر نهر الأفاعي

لأولد في الصبح ثانية... إن سطع

...

أوهموني فصدقت

وهذا السرير

ظنني - مثله - فاقد الروح

فالتصقت بي أضلاعه

صرت أنا والسرير جسداً واحداً في انتظار المصير

...

صرت أقدر أن أتقلب في نومتي واضطجاعي

أن أحرك نحو الطعام ذراعي

واستبان السرير خداعي

فارتعش

وتداخل كالقنفذ الحجري على صمته وانكمش

قلت يا سيدي.. لم جافيتني؟ قال: ها أنت كلمتني

وأنا لا أجيب الذين يمرون فوقي سوى بالأنين

فالأسرة لا تستريح إلى جسد دون آخر

فالأسرة دائمة

والذين ينامون سرعان ما ينزلون

نحو نهر الحياة كي يسبحوا

أو يغوصوا بنهر السكون!!

أمل دنقل: أوراق الغرفة (8)

قصيدة - السرير

وها أنت يا عم (حسن) نزلت نحو نهر السكون رحمك الله وأنا أنتظر أحد النهرين إما الحياة وإما السكون!!

** ** **

(*) جزء من كتاب تحت الطبع.

(1) شاعر من جازان. له مجموعة من الدواوين الشعرية ينشر قصائده باستمرار في المجلة الثقافية بجريدة الجزيرة.

- د. يوسف حسن العارف