11-10-2014

فؤاد الخطيب: شاعر النهضة العربية (2)

إلى مراحل ومحطات كثيرة؛ توقف عندها وأنشد فيها؛ إذ حركت قريحته الشعرية فاستعاد الماضي إلى محاولات مستمرة؛ ونقلنا من حال إلى حال أخرى؛ ورصد ذلك في ديوانه، وأرى أن الشاعر قسم أنماط شعره إلى ثلاث فئات.

الأول: مرحلة حال الشاعر وما يعتريها من صرور الأيام «الحدث»

الثاني: مرحلة الذكرى التي تركت صدىً لذا الشاعر؛ والحنين إلى الماضي الذي عاشه في أيامه الخوالي، وفي حال زمنية لا تخلو من الاضطراب؛ كقضية فلسطين، التي أفرد لها قصيدة بعنوان «فلسطين الثكلى»

في الباب الثالث، نجد للشاعر قصيدة بعنوان «أيها القصر» في مكة المكرمة؛ بتاريخ 11 ذي الحجة 1366 في القصر الملكي، فيها من الصور التي اختزنت ذاكرة الشاعر، بما حوت من تفاصيل كثيرة وصور بين موجعٍ ومفرح؛ بين أمل وخذلان، حالات التجاذب الكثيرة.

مرحلة ثالثة:ص 400:

التحول في حياة الشاعر؛ إذ يعود بنا مرة أخرى، راثياً حال الأمة العربية؛ منكراً على بعض العرب«بيع» أرضهم في فلسطين، ثم رثى الفقيد الكريم«موسى كاظم الحسيني رحمه الله في قصيدة عنوانها «الرُزء الفادح».. وهكذا نرى الشاعر مر بمراحل يستعيد مشهداً لم يسدل عليه الستار! فنقرأ في الباب الرابع قصيدة بعنوان «إلى جزيرة العرب» وقد قالها في مكة المكرمة يخاطب الأمة العربية من خلال ثورتها الأولى عام 1335هـ ص 416 فيقول:

الله أكبر – تلك أمة يعرُبٍ

نفرت من الأغوار والأنجاد

لبيك يا أرض الجزيرة واسمعي

ما شئت من شعري ومن إنشادي

هذه الوطنية العالية التي يحملها الشاعر في حناياه بما فيها من تفاصيل لأماكن وأراضي، وأشخاص، باحت بما جاشت به نفس الشاعر؛ في صور كثيرة؛ عرضها الديوان في كل سطر أو بيت كل صفحة وكلمة؛ تقف عندها لنستذكر بعض التفاصيل في شعره العميق، يذكر بها إلى حكايات قديمة تسرد أحداثاً شتى، آذنت بها ذاكرة الشاعر؛ حيث سكنت جنبات روحه، فجعل قصائده موقوفة لا يقبل التمثُّل في محبته لقضية تبناها«في قصائده»وقد كتبها في مرحلة زمنية محددة عاشها في خضم صدى؛ يغفو بين سطوره فيهدي إلينا مشهداً «لصرخة الجزائر» حيث يقول في ص«445»:!

ألا انظر وسل من شئت كيف«الجزائر»

بحار دمٍ فيها الرفاتُ جزائر

يدمرها المستعمرون وأنها لقد

آمنت بالشعب والشعب عامر

تلك القضايا، تبناها الشاعر؛ ذلك جرحت مداده وهو ينقلنا من قضية إلى أخرى موجعة! هذه الوطنية العالية في نفسه، مردها غيرته على العالم العربي! وثمة سؤال يمد عنقه:

كم هم الشعراء الذين تعنيهم أوجاع العالم العربي مثل الخطيب ومحمود درويش ومن إليهما ؟ لعل أهل الذكر معنيون الإجابة القاطعة؟ ولا أكاد أنهي قراءة قصيدة حتى أجد نفسي في شرك قصيدة أخرى تقودني إلى ظمأ محير! وكأن الرحلة مع هذه القصائد تأبى إلا المضي فيها!.

ويدفعني الشاعر إلى المضي في ديوانه عند قصيدة «حنين» التي نظمها الشاعر حين نأت به الغربة عن بلده إلى رجل سمح كريم، إنه معالي الشيخ محمد سرور الصبان رطب الله ثراه، وتاريخ هذه القصيده كان في عام 1373هـ وكانت بعنوان«الحنين إلى الحجاز«.كان مطلعها:

مهلاً علىّ، فإني الموُجع الدنف

وإن لوعة نفسي فوق ما أصِف

شط المزار وقد أمعنتُ مغترباً

عن مهبط الوحي أطوي الأرض أعتَسِف

ولعل مرارة الغربة وشجون الشاعر وحنينه إلى الوطن والصديق والمرض كلها حركت فيه ما جعل أبياته تئن، وهل هناك أقوي من الحنين إلى الوطن!؟

يا دار أحبابنا الأدنين باكرها

صوب الربيع براحٍ منه تُرتَشف

وأذكر ما قاله المتنبي «ولأهلهالأدنون غير الأصادق».

وما أحبك أرضاً كم حللت بها

تُقبل الأرض قبلي الأدمع الذُّرف

فالدمع الأجاج من أجلها؛ كان هذا التدليل بالمفردات دون أن تشعرك بأن هناك فجوة بين نص وآخر.

هذا الإبداع الذي سكبه الشاعر في الملح الذي مر من أمامنا كبحر ثائر لا يستكين.

إن سلّْ من حسك الحناء صحبتهم

هل يمنع الشوك أن الورد يُقتْطف

فالوطن غال، والرفاق أيضاً عند من يقدرون هذه القيم لدى ذوى الحس المرهف.

وقال في ص«460»:

ويا سرور لقد هاج الشجون صدى

والريح تعبث بالأصداء تختلف

هذه المشاعر المتقدة، تزيد من إحساسنا على غرار الكلاسيكيين، ذلك ما عناه الشاعر في قصيدته المتعددة النغمات والأنين والحنين والشجن!.

ثمة حزن تجيش به مشاعر الخطيب؛ وهو ينقلنا من قصيدة إلى أخرى لطائر يترقب الفجر في قلق، ولا زلت أتأمل هذه الفراغات التي اضطربت بها روحه بين المقاطع الشعرية؛ فالقضايا التي عنى بها حفيلة بالحب، فيها غيرة، وصداقة وحنين بالغ التوجع، تلك المناحي رسمها منوهاً بالصور؛ من أول القصيدة حتى آخرها، فبنية الجمل والمقاطع التي استخدمها في ثنايا القصيدة؛ وفي بنائها؛ ينبيء، عن قدرته في تح ليقه نحو المنحى الجمالي والنفسي!.

ففي قصيدة«السهم الصائب» قد صور الشباب المائع؛ ومجالسهم.على مكارم الأخلاق “. فقال:

ميتِ «الضمير» وفيه من أضغانه.

ما في المقابر من دبيب الدّود

إلى أن قال:

ويح الشباب فكم من تأنق مترف

منهم فأصبح كالكعاب الرّود

وأعرج على قصيدة بعنوان إلى«شوقي» قد بعث بها من جزيرة قبرص إلى الشاعر أحمد شوقي بك «وهي سيمفونية عتاب؛ لتخلفه عن حضور المهرجان الذي أقامته مصر وشعراء الأقطار العربية لتكريم شوقي في دار الأوبرا بالقاهرة عام 1927 لمبايعته بإمارة الشعر!» فأنشد قائلاً:

أجل، إنه الفجر الذي أنت آمله

تخايل في وشي الربيع غلائله

بدائعُ في الآفاق غُرٌ كأنها

بشائر بالوعد الذي خان آجله

إلا أن قال:

يدّ لك ياشوقي على الشرق باركت

يد الله فيها فأرعوي عنه باطله

في هذه التهنئة،أجاد الشاعر وأبدع ما قال في أمير الشعراء أحمد شوقي رغم العتاب لتخلفه عن حضور المهرجان، إلا إنها من القصائد التي لا بد أن يقف عندها الدارس لما عنت من حس عالٍ، لنرى أن العتب ما هو إلا احتفاء وصوت أدى واجب التهنئات للأكفاء، كما قال شاعر الأمة بلا منازع أبو الطيّب المتنبي.. وقال الخطيب:

جلست على عرش البلاغة سيداً

تبايعك الأمصار واليُمن شامله

ونلت الغنى والجاه، والعلم والحجى

تبارك من أولاك ما أنت نائله

وددت أن لا أحيد عن هذه القصيدة التي تبلغ صفحاتها الثمان؛ ولكن بوصلة الوقت السائرة إلى الأمام تستدعي أن نواصل هذا الجهد المبذول في قصائده؛ ولا بد أن نقف عليها لنجد أرواحنا تغمس في مبخرة الحب، ولتسافر بنا القصيدة فوق قزح سحاب؛ وقد كنت مع أثباج اليم تجذف في هينة؛ خارج تخوم المد التلقائي؛ وما تعتريه من انعكاسات، ترحل بنا إلى أشرعة الظل؛ لنقرأ لحن الأناشيد«على شفا قصيدة.

فأنشد قصيدة«الآلام والأيتام» في منتدى الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1943م؛ بطلب من جمعية عربية فيها؛ أخذت على عاتقها رعاية «اليتيم العربي»، والأبيات تبدو فيها لغة الحزن والشجن؛ فإذا صمت لاذ الحزن والدمع؛ قد نسكب العبرة، قائلاً:

هو اليتيم هو المنسي نضو ضنى

وما يُحرك بالوجد الدفين فما

ويقول أيضاً:

ولو جمعت دموع اليتم فاتسقت

عقداً، وكل أنين منه فانتظما

روعة التصوير الذي برع في نسيجه؛ كأنه ينظم عقداً من لؤلؤٍ رغم أنه يبحر في ضباب! ولكن هذا العقد انتقل بين أفياء القصيدة المشبعة بالحزن والأنين؛ لكن ما الطبيعة إلا ضرب فيه نمط من قسوة وأذىً فلم تَرع للحي عهداً صح أو ذِمما، وما الطبيعة إلا قسوة وأذى لم ترع للحي عهداً أصحّ أو ذمما.

لعل شاعرنا أرهقه الأين؛ ولعل ظل الأيكة الخضراء يذكره بجلسة اللقاء السعيد؛ فيصف جمال الريم الرقيق، الذي حباه الله جمالاً، فيعرج على مرأى في وصف شيء من فسيح الطبيعة الذي يشبه الروض؛ الذي يداعب أغصان البان في العشبات، في هذه الأبيات:

وترد الروض يسحب ذيله

ينازعنا سّر الحديث مُهيمنا

وما أنسى يوم القرب لا أنسى

أيكة كستها يدُ الوسمي بُرداً منمنما

الخطيب يختزل الصور الجميلة في ذاكرته ولا ينساها، فالشجرة الكبيرة الملتفة غطاها مطر الربيع فبدت وكأنها ترتدي ثوباً مزخرفاً منقوشاً حين باغتها مطر الربيع.. ويصوغ أعذب شعره على إيقاع «النوستالجيا»؛ يلتمس السعادة؛ المبطنة في معناها؛ فيجنح بنا نحو الخيال؛ فهو بليغ في ديباجة التشبيه والاستعارة، لذلك نقرأ له شعرا عليه طلاوة التأملات.

في هذا المناخ الذي لا يخلو من الحزن ممزوجاً بالألم، ذلك أنه ديدن الحياة، فهي تجر من حزن إلى أغيار؛ ولعل بعض توجه الشاعر وتاملاته؛ يشغله فؤاد الخطيب جعل طابع الشجن والحزن كان يخلع أسى آخر، وكأنه قادماً للتو من مأتم.. فنجد أنماطاً من شعره في رثاء يستلقي بين يدىّ يتنفس الحزن والألم؛ وكأنه مناخ متجدد سعد باشا زغلول، ثم مأساة الشهيد / عبدالرحمن الذي اغتيل في دمشق، وما أن يكفكف حزنه حتى يسمع بمصاب بيروت، والرزء الجسيم في إبراهيم بك هنانو.. ولأن الحزن حالة يعيشها الشاعر يقبض فيها على تلك اللحظات المرّة، فأنين قلمه مال إلى رثاء الشاعر أحمد شوقي أمير الشعراء هذا الحزن السادي في صدره لا يهدأ ولا يكل أنينا، فيقول:

خلا المجال واودى الشاعر العلم

لا الوحي باقٍ ولا الآيات والحكم

وخيم الصمت إلاّ أنه نطقت

بالحزن تخنقها الأنفاس تزدحم

أحافظ، ثم شوقي ؟ بغتهً ومعاً

يا ويح للدهر كيف الدهرُ ينتقم

ومن روائع الرثاء الذي أشاد به الشاعر في شوقي يقول:

بكتك مصر وضجت لوعةً وجوىً

وأظهر الحزن ما في النفس ينكتم

وصلت ما ضيها الأعلى بحاضرها

فكان شعرك سمطاً فيه تنتظم

روعة التشبه في البيت الثاني حين يشبه شعر شوقي بخيط ينتظم فيه اللؤلؤ والخرز؛ أي ربط بين الماضي والحاضر.

الخطيب في شعره يرجح نحو ال فقد؛ وصبغة الشجن التي تعلو شعره؛ فلا تخلو قصيدة أو بيت إلا ونقرأ له أنماطاً مما ينداح في الجديد!.بالصور الموحية؛ فيحدثنا عن نفسه، إنها التي تخرج من ذات الأعماق، أما اللغة العالية التي عنى بها الشاعر ذلك ما يسترعي انتباه القارئ؛ فهي ذات سبك وفصاحة بليغة، وكأنك تقرأ لكبار شعراء العرب القدامى وبعض المحدثين، فقد اهتم اهتماماً كبيراً بالتراكيب، واللفظ والمعنى، نجد التعبير لديه متناغماً ويمضي الخطيب في نصه الشعري المستخدم، ذلك أن لديه القدرة على توظيف اللغة بكلمات عربية؛ ليتاح للقارئ أن يقرأ النص عبر مستووين مباشر، والأخر بالقدرة على الانتساب للنص الشعري، فيقول في قصيدة «الشعرة البيضاء» وهو يصف «الشيب» ويداعب صديقاً له بلغ سن الشيخوخة، وما خمدت فيه حدة الشباب ولا فارقه نشاطه..

يا شيب، إن أوان الشيب

لم يحن فهل كففت فلم تغد ولم تخنُ

إلى أن قال:

وانظر إلى «الشعرة البيضاء» إنّ لها

معنى الهزيمة والتسليم للزمن

كأنها«الراية البيضاء» يدفعهافي الحرب من لم يُطق صبراً على المحن

هذا الوصف الجميل الدي يداعب فيه الشعرة البيضاء التي هزمها الزمن وسلمت كأنه راية بيضاء استسلمت في حرب خاضها ضدها الزمن فلم تطق صبراً.

شفافية النص في كتابته يعيدنا إلى قول «لا شعر بلا لغة» فاللغة أساس الشعر، إنها البلاغة التراثية في لغة ذات دلالات وحالة والتباس.

ما يميز الخطيب في قصائده تقوم على بلاغة غير مكررة أو متكررة، بعيدة عن الضعف والهزال الذي يصيب اللغة، ويرتبط بالتراجيديا المصاحبة للحالة محاطة بالشرط الإبداعي، كما أن الخطيب لم يمض في منعطفات الشعر الحداثي، ولكن ما يستوجبه الشعر عنده هو تكثيف المعنى.

ولا ننسى الحقبة التي عاشها فؤاد الخطيب والمنعطفات التي شغله في فترات حياته كانت له نسق أضفى على شعره ما عناه وما اختاره فكان لكل قصيدة بعداً جديداً، ومواقف ورؤية وأسلوب وتوجه، فكان شغفه ومطالعته وقراءته لآداب أجنبية كالروماني بشكل خاص ولشكسبير وبيرون وغيرهم من الشعراء، إلا أننا لم نلمح أي تأثر بهم في شعره؛ لكنه عاش بعمق في تراث أمته الشعري، وغذى الأدب العربي بمطالعاته المتعددة، ونظمه تعكس فيه تجليات مشاعره، وغربته وأحزانه وحنينه، يضفي على شعره خصوصية الخيال المجنح! ويبقى معه تلازم الاغتراب الذي يمضي كظله أينما حل أو رحل ولا يجد واحة يتفيأ بها أو عندها سوى واحة الشعر ذات الظلال الوارفة.

قصيدة «حِياَل جدّة» قالها وهو على متن السفينة يصف وداعه لمدينة جدة فمن أجواء القصيدة:

إني وقفت حيال جدة مدنفاً

وقد ارتدت ثوب الأصيل معصفراً

وعلوت من متن السفينة دكةً

ورميت بالبصر الحجاز تحسراً

لوّ حت باليد للشواطئ وهي من

هول الوداع تفر مني القهقري

ورأيت كيف تدافقت أمواجها

ثم ارتمت فوق الصخور تكسرا

وأمدها الدمع الذي حمل اسمها

لما استهل فكان «بحراً أحمرا»

هذا التداعي في العاطفة التي ساقتها القصيدة والمشهد المزدحم يحمل التماعات الحنين والفراق؛ وتبرز هذه الصور الفنية في مقاطع أبياتها؛ بين طياتها وداع لمدينة عزيزة على قلب صاحبها وهو مفارقها.

لنقل إن الظروف وأعني الغربة – والأصدقاء -، والمحطات التي مرت بحياة الخطيب الحافلة بالمآثر العديدة والسيناريو الطويل؛ هما سبباً أساسيا لدلق مداده على صفحات الورقه فكان الشعر بعمقه وتموج ظروفه والحالة السيكلوجية التي أحاطت به، أثر فيهما المكان والزمان والقراءات المكثفة العميقة لآداب أجنبية غذت قصائده وأدبه، فجاء هذا الزخم الشعري والأدبي النفيس وهو جدير وخليق بالتأمل والقراءة والدراسة؛ لأنه ثروة في منجم لم يبحث عنه.

ذلك ما تركه الشاعر فؤاد الخطيب رحمه، لحظات من العمر بكل معطياته فمرارته وجراحه في قصائد تحمل اليأس والأمل، الدمعة والفرحة، والعاطفة والفقد؛ كتب بصمت وصقل وفصاحة.

هكذا أمضى الشاعر حياته وسط المعترك السياسي والأدبي لبلاده وقضيتها، طفقت بقلبه ولسانه وقلمه«كما قال ولده رياض الخطيب، إذاً فإن الشعر باق كما قال رامبو: على الشاعر أن يكون رائياً ومسؤولاً عن الإنسانية وعلى نصه أن يكون مؤرقاً بأسئلة الوجود والإنسان«.

توفي الشاعر الكبير فؤاد الخطيب رحمه الله يوم 15 رمضان عام 1376هـ الموافق15 أبريل 1957م، في مدينة كابل، ثم دفن في لبنان بشحيم مسقط رأسه.نذير!

إن الشعوب الغيورة على لغاتها تعمل ما يشبه المستحيل في حماية لغاتها من الانقراض! صحيح إن اللغات تضعف بمرور الأيام، غير أن اللغة العربية في اعتقادي ستبقي! ذلك أن لها روافد قوية، إن هذه الروافد القران وسنة خير الأنام صلى الله عليه وسلم.

والكتاب باق لأن منزله على خاتم رسله قال: إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون«.. وبقاء القرآن ما شاء الله أن يبقى، وأن الأمة المسلمة في كل مكان ما فتئت تهتم بكتابها وسنة رسولها صلى الله عليه وسلم.. إن حرص الأمة المسلمة ولا أقول العربية هذه الأمة التي منها دولة ماليزيا المسلمة قالت هذه الدولة قبل بضع سنين علمسلمة قالت هذه الدولة قبل بضع سنين عبر إحدى صحفها: إن المستقبل للغة العربية«!

ومهد الإسلام مطالب أهلوه أن يغاروا على لغة كتابهم وأحاديث نبيهم ونحن في«منزل الوحي» أولى الأمم بالحرص على حماية لغتنا التي نزل بها دستورها على خير خلق الله صلى الله عليه وسلم وهو القائل: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش».

وحرص أمتنا يتمثل في جوانب من حياتهم، لعلي أنقل مقدمة قالها الشاعر«فؤاد الخطيب» رحمه الله فيما قدم في بعض صفحات ديوانه الشعري عن اهتمام بعض شعوب الغرب بلغاتهم! ونحن إذا قال قائلنا: إننا أولى الناس بحماية لغتنا من الضعف غير أننا لم نفعل بحيث نقول إننا حراص على حمايتها! فالكلام وحده لا يجدي إذا لم يدعمه عمل جاد قوي بوعي وغيرة!

1- أن نحرص على جعل لغتنا في مناهج التدريس بدءاً من المرحلة«التحضيرية»من خلال بساطة الدروس التي ينشرها متخصصون من الجنسين، وفي إلقائها على «البراعم» نحرص أن نحببها إليهم لا سيما في مرحلة الطفولة عبر تلقين سهل وبسيط، ونقول بحب«لغتنا جميلة» فأحبوها تحبكم حين تتغنون بها في دروسكم وحياتكم كلها، وتعلموا غيرها في دراساتكم عبر مراحل التعليم العام!

2- البيت مسؤول أن يشارك بجدية في التربية ومتابعة البنوة في تحصيلها في مراحل دراستها كلها!

3- المعلمون: في دروسهم العربية ينبغي أن يحرصوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؛ وأن يتحدثوا مع طلابهم بالعربية الفصحى؛ وأن يجعلوا الطلاب كذلك في التحاور مع المدرسين والمدرسات، وأن يشعروهم أن لا يعبأوا بمن يسخر ويهزأ منهم وهم يتحدثون«لغتهم الجميلة»! وأشعروهم أنها جميلة في نطقها والتحدث بها، وقولوا لهم: إنها لغة كتابهم العزيز الذي أنزله الله على رسوله، نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل شعوب العالم يحبون لغاتهم وأنهم لا يهملونها لأنها جزء من حياتهم كلها.

4- كل الذين يتقدمون إلى الوظائف ينبغي أن يتقنوا العربية وأن يختبروا فيها بحيث تكون لغتنا جزءا منا.

5- التعليم العام مسؤول عن عنايته بالعربية والتحدث بها!، إن«التعليم العام» يشبه عندي«البناء» فإذا كانت العناية بنقاء تربته والمواد التي تستعمل فيه من الحديد للتسليح وأعمدته وماؤه ورمله الخ، إذا كانت العناية بكل مقومات البناء القوي؛ روعيت كلها بصدق وحرص اطمأننا إلى«جودة البناء» واعتمدنا عليه! كذلك التعليم العام فهو الأساس والتأسيس! وأن نعلن أن كل ما ينهض به الإنسان في حياته«أمانة«فليتق الله فيما ائتمن عليه!

6- اللغة العربية ينبغي أن تكون في دمائنا قبل ألسنتنا، إنها أساس التعليم! وينبغي أن نغار عليها غيرتنا على أعز ما نملك في هذه الحياة! واقرؤوا معي هذه الصفحات التي قدمها الشاعر الكريم فؤاد الخطيب رحمه الله في بدء ديوانه. وهو بذلك يدعوننا أن نغار على لغتنا أكثر من غيرة الشعوب الأخرى على لغاتهم! ولا أقول جديداً إذا ذكرت وأذّكر أن هذه اللغة الشريفة لغة دستورنا الباقي ابد الدهر، ولغة سنة خاتم الرسل إلينا إلى أمتنا صلى الله عليه وسلم، والحديث حول لغتنا لا يمل من يعشق«اللغة الشاعرة» كما قال كاتب العربية الكبير عباس محمود العقاد رطب الله ثراه.

7- إن الحياة كلها أمانات، والإنسان الظالم لنفسه والجهول بأعباء«الأمانة» التي لا يُقاس عليها قوة إذا وضعت في الموازين التي لا نستطيع حصرها، ومع ذلك قبل الإنسان برغبة عارمة، قبل«الأمانة»!.. والسؤال الذي ينبغي على الإنسان أن يسأل به نفسه: هل قدّر هذه الأمانة وفداحة حملها؟.. وهل أدّاها كما يجب؟.. أقول بثقة إن أكثرنا فرّط ويفرّط فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإني أسجل للتذكير ثقل هذه الأمانة وأعباءها الجسام التي فرح الإنسان الضعيف بحملها!.. قال الحق: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.. صدق الله العظيم.

«فمفتشو المدارس»! كان هؤلاء المفتشون ينهضون بواجبات مهمة، وذلك بمباغتة المدارس بالزيارات والدخول إلى«الفصول الدراسية، والجلوس فيها، يصغون مع الطلاب إلى المدرس وهو يلقي درسه ويشرحه، وكانوا يسجلون ملاحظاتهم ويقدمونها إلى مراجعهم، وكان المدرسون يخشون هؤلاء المفتشين لأنهم أقوياء وواعون، وكان من هؤلاء المدرسون أعلاماً مثل: طه حسين وعلى الجارم في مصر، وكان عندنا كذلك، وكان إلغاؤهم خطأ كبيراً، لأن المفتشين كانوا أكفاء يعون مسؤولياتهم، وكان المعلمون يخشونهم رغم أن معلمي أيام زمان كانوا أقوياء في قدراتهم وثقافاتهم المتعددة، ومع ذلك كانوا يحسبون حساباتهم للمفتشين وما يسجلون عليهم من ملاحظات ذات قيمة! فهل وزارة التربية والتعليم تدرس فكرة إعادة مهمات المفتشين الأكفاء الذين سيكونون دافعاً قوياً، كي يشمر المعلمون جادين لإتقان دروسهم والارتقاء بما يلقون على الطلاب عبر مهارات تعين المتلقين عنهم، وقد أصبحوا ملايين يحتاجون إلى الكثير من التعويل على المعلمين الذين يتقنون أداءهم مجددين في المزيد مما يفيد أبناءهم ليتخرجوا أكفاء ينفعهم تحصيلهم الجيد، وليكونوا في الجامعات متميزين يرتقون في تعليمهم الجامعي في وطنهم وفي الجامعات الأجنبية!.. إذاً فالتعليم العام ينبغي أن يتميز إلى أعلى مستوى، وهذا المطلب لا يتحقق عبر خطاب ولملمة دروس ضعيفة لا ترقى بطموح الوطن والغُيّر في كل شرائح الوطن، ووزارة التربية والتعليم والدولة التي تنفق على التعليم الكثير، فينبغي أن يكون العائد يوازي الإنفاق طلباً للمزيد من الإنفاق ليتحقق المزيد من الارتقاء بالتعليم إلى المستوى الذي يماثل الأمم الراقية!

إنني أؤكد أنني لم أطالب بمستحيل، وأرجو أن أسمع وعوداً ليست كلاماً، وأن نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - قال:«لا قول إلا بعمل».. ولمزيد من التساؤل: هل هذا الطموح يمكن الوصول إليه ومتى!؟

ويحلِّق شاعرنا المجيد مع أعلام الغرب والشرق الذين قرأهم في أكثر من لغة الفرنسية وربما الإنجليزية فيقف ليقدم إلى القارئ العربي شيئاً من ثقافتهم في حسن تأمل وإحاطة بتلك الثقافة العميقة الجادة!.. ولم يقف فقط عند ثقافة أمته العربية العزيزة في قديمها وجديدها، من قراءته العميقة لأعلام كبار استوعبهم التاريخ في قديمه وجديده، من خلال إحاطة بثقافة أولئك الرموز الذين عرفهم من قراءته في وطنه لبنان، وأتبع ذلك في ترحاله في الوطن العربي بدءاً من فلسطين ثم مصر والسودان والأردن، فأحاط بما أتيح له أن يعرف ويستوعب في أناة ووعي، ولم يجعلنا نتوقف عند شاعر مجيد مع شعره وحده، وإنما قدّم إلى القارئ العربي في العصر الحديث نماذج من معارف من قرأ وأحاط ليعيش معه عبر ثقافة متعددة الأجناس ليكون بجانب شاعر النهضة، وأنه قارئ متميز يجد قارؤه معارف لأعلام من الغرب غير بعدين من عصرنا، مع آخرين من مصر في عصر النهضة قبل أن تصادر الثقافة ثورة قضت على ثقافة وطن منجز لثقافات متعددة أتقنها أعلام في زمن كان فيه حياة واستقرار فكري، فصُودرت معارفه المكتنزة إلى معارف كثيرة: فكانت الثورة، شؤماً أماتت بدل أن تحيي وتنجز، وهكذا النتائج هدم بدل الإصلاح وإضافة المزيد إلى كنوز المعرفة الحقة، غير أن الخسران هو البديل السيئ، لأن الجهل لا تكون معطياته سوى الهدم والهزائم المتعددة، فبدل الرقي كانت الهزائم وإماتة المعارف!.. وكان البؤس والفقر في كل شيء، وإماتة الشعوب المتطلعة إلى الرقي المدني والحياة الكريمة، إلى كرب وإذلال وسوء مصير، وهكذا الثورة أو الثورات العسكرية خراب وتدمير للحياة الكريمة وفساد في الأرض وبؤس وسوء مصير، وفي التاريخ غير البعيد كانت الثورة الفرنسية، تهدف إلى الرقي والحياة الكريمة لأمم طموحة، إذا حسن التغيير نعمة وإذا أدبر فهو نقمة وفساد كبير!

ونشير إلى بعض الأعلام الذين حفلت بهم قراءات شاعرنا المتعدد المعارف فؤاد الخطيب، وكان الحديث عن اهتمام الأمم بلغاتها، فنقرأ تحت: قوله بدءاً من ص«107» في ديوانه: بيان لا بدّ منه:

من الجزيرة الأم، حق الضاد على أهلها، اللغات الأوربية، في عصر النهضة - فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، بريطانيا، العربية واللاتينية، فترة الخمول، أدب روسيا السوفيتية،كلمة مستشرق مشهور.

.................................................... يتبع

مقالات أخرى للكاتب