كم عرفنا

محمد بن إبراهيم فايع

(كم عرفنا) مفردة أثارت سطور خاطرتي، نثرها على سمعي والدي الذي يسبح في وسط الثمانينات من عمره، ذات مساء، وأنا أستمع لحديث ذكرياته، لأيام خلت، وسنوات مضت، ولسان حاله يبكيها بقول أبي العتاهية (بكيت على الشباب بدمع عيني.. فلم يغن البكاء ولا النحيب) فتذكرت ما أكثر من عرفت من الناس، أقرأنا لي في السن، عرفتهم كزملاء طفولة ودراسة، وأصدقاء درب ومدينة، ورفاق حارة وملاعب صبا، وكم عرفت كباراً ألفتهم صغاراً، لقيت نفسي معهم، من الأقارب أو من المعارف والجيران، هم بالنسبة لي آباء أو أعمام، أنعم برؤيتهم كلما رأيتهم، منهم من قضى نحبه رحمة الله على من مات، ومنهم من مازلت أسعد حين أراهم في مناسبات اجتماعية عامة، أو مصادفة في دروب الحياة، ممن أمدّ الله في أعمارهم، ومازالوا بيننا كأنهم النجوم اللامعة، ظلوا كما عهدتهم، لم تغيرهم السنون، قلوبهم البيضاء ظلت بيضاء، ولم تتغير كتغير ملامحهم التي خُطّت بتجاعيد الزمن، وصارع البياض ماكان منهم مسوّدا، وأسوّد منهم ماكان أبيضَ، هؤلاء أحببتهم، وأشعر بقلبي يخفق بحبهم، وكم يحزّ في قلبي ويعتصره الألم حين تخبرني الأخبار؛ عن أن بعضهم قد غيبّه الموت، لأن الحياة دار ممر، ولم ولن تكون دار مستقرٍ لأحدنا، أو أسمع بمن عصفت به نوائب الدهر، وما آلمها حين تؤلم، فأتحسّر حينما أسمع بمواقفهم الشّهمة، ونبلهم، ودماثة خلقهم، وأدرك أنهم رحلوا، فأقول: ياخسارة، لكنه القدر المحتوم الذي أتاهم يوما ما، سيأتينا (وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي.. بقايا ليالٍ في الزمان أعيشها) ومنهم من عرفتهم رفاق درب، وعمر ودراسة، فأحّن لهم حينما أتذكرهم، كحنين النوارس للشطآن، وأشتاق لهم، كشوق الصحاري للمطر، حينما تمر عليّ صورهم، وتأخذني حكايات الأمس المسافرة إلى حيث كنا وكانوا، وذاك الزمن الذي كنّا معهم فيه، وهم معنا، فبدافع من الوفاء أتساءل دائماً عنهم حين تغيبنا الأيام في بحورها، وتأخذنا الحياة في دروبها، وننشغل بدوامة العيش وأعبائه، مرة نقترب، ومرات نغيب، فأقول أين هم؟ وكيف حالهم؟ وما أخبارهم؟ وماذا فعل الزمان معهم وبهم؟ أسئلة كلها تدور بشوق الحنين لهم، وبرسم الوفاء، وحين أتذكّر أن الحياة كما تفرق تجمع، وكم تجمع تفرق، تفرقنا إما بحياة نتباعد فيها، أو بموت لالقاء بعده إلا بمشيئة الله، فأجد حسرة تنتابني على فقدهم وفراقهم، وأسى يملأ قلبي ويرسم ملامحي، ثم أقول تحسّرا على أيامهم، وزمنهم الجميل، اللهعلى هاتيك الأيام، لقد رددت على مسمع صديق انسكبت معه هذه الخاطرة الحزينة على مائدة حديث مسائي، وأنا أحاول استرجاع شيء من حكايات المدرسة الابتدائية، رددت بيتا من الشعر يختصر ما وددّت أن أقوله:

(يموت قوم فلا يأسى لهم أحدٌ..

وواحد موته حزنٌ لأقوام)

فقال: صدقت، قلت: بل صدق المجرّب الشاعر، لأن هناك من الناس من حفر صورته، ورسم ملامحه في ذاكرتنا، وحجز مكانه داخل سويداء قلوبنا، فأحببناه، وعشناه، لكن قدر هذه الحياة أن نكون دوما على موعد مع الأحزان التي تخطفنا من لحظات الفرح التي نود أن نعيشها دوما، لكنها الحياة مرة تصفو ومرة تكدر، وحالنا معها كما قال الشاعر: (فيوم علينا ويوم لنا.. ويوم نساء ويوم نسّر).. فالله الله في هذه الدنيا كم عرفنا!.