قصة قصيرة

جوع

يوغل في أبحرها بجسارة.. يربت على قلبها بأنامل من بنفسج.. يعذبها بحنانه، يقتلها برقته، يحتويها بقوته، يعزف على مشاعرها كعازف فيولين محترف.. وربما باستبداد حان يغني كـ(بوتشيلي) «ترنيمة للعالم» حتى تصطخب روحها أو يضج الكون فرحا بالتفرد.

فى حضرتها يتلون بكل الألوان.. فهو حبيبها المتيم، صغيرها المدلل، ورجلها العنيد. هو أيضا ماهر في ابتكار أكاذيبه، لكنها مسكونة به، تتزود دوما فليلها الممتد يشتاق لصبحه بعيد..

يبذل جهدا خرافيا ليبدو صادقا. فتحبه أكثر، ليس عليه في حال تركها سوى أن يطوحها بطول ذراعه، لكنه لم يفعل. تنتظر تلعثمه حين يراوغ.. يصفر وجهه، فتدرك حاجتها الماسة إليه وترهقها حاجته الماسة لها.. يستجدي ثقتها، يفتش عن نظرة تطمئن توتر نبرته.. أو تحتوي ارتباك عينيه.. عن كلمة تلملم شتات حروفه وتذيب تكلسه.

لا يمكن أن تثور في وجهه فتنعته بأفاق في حال التقطت رائحة أخرى بأنفاسه، أو حين تفاجئها شعرة زائفة عالقة أو في حال لمحت بعض الحمرة بمنديله، أو بياقة قميصه، أو عندما يعود في المساء منتشيا بجنون أو شاحبا بتوجع فتثور أنفاسه فى وجهها بينما تدفنها ضلوعه، فتشمهن به، تلتقطهن كفأرة مذعورة... فتطلق العنان لخيالها المشحون بالصور، تحفظ خطوط وجهه التي باتت تلعنه، تراه بتفاصيله، فتكره أنامله المسافرة فيهن. فتضمه إليها أكثر.. فيهربن. تود أن تقطع رقصة دخانه المضطربة.. وأن تئد ضحكته.. فتسقط رجولته. ربما تنهار فى داخلها فتعلن بسرها أنها المرة الأخيرة ولن تفعل، ربما تتهاوى كشجرة فاجأتها فأس حطاب ثمل بصقيع يناير، فتظل مبعثرة بانتظاره ليشعل فيهما النار لينتهيا معا.

يعطيهن أسماء وهمية.. فسارة هي مجدي، وديما قد تحمل اسم محمود، ونيفين ينعتها بياسر ومنال ربما كانت أحمد وناداها مرة بـ سامي، سامي فقد امرأته بمخاض، كانت امرأة حنطية صنعها خيالها من الورق؛ فكيف يمكن لامرأة من ورق ألا تموت بمخاض؟! قال لها أنها صلبة تسمع موسيقى الجاز بينما ترسل في الفراغ حلقات الدخان وتداعب طرف أنفها بظهر كفها الممتلئ. ربما يقنعها أنه الرجل الأحفوري الذي يكره المدخنات البدينات والذي بالوقت ذاته يرجوها بأن تكون امرأة مشتقة من زهر البرتقال المختلط بعطر فلورانس الأخاذ.

تستمع لحكاياته عن ليل بعيد فتراه يبتعد، ولا تبصره. تقنع نفسها بأنه أخف من ذرة غبار يؤرجحها الهواء بقارة يخاصمها الضوء. فتستحيل لباقة ضوء متعامدة على خطوط وجهه المحترق بلذاته.

تتجنبه بخروجه، لم يعد يزعجها اختصاره لكلماته، ولا تلك النظرة الفاحصة لساعته أو لرسالة الجوال. تترك له العنان ليحتويه حذر وهمي، بينما يلفها خدر نفسي.

تتجه لمرآتها بتثاقل.. تمسح ما علق بها من غبار السنين. تتمعن بوجهها، ترسم عينيها بهدوء، وتضع أحمر شفاه قان.. تمشط شعرها، ترفعه عاليا فربما يباغتها من الخلف مرة على غير موعد. تختفي بقميصها البنفسجي من الدانتيل، تتعطر، تتأمل قوامها الناحل، تزفر بحرارة.. تضجع على فراشها لتنتظر.

- حرية سليمان