25-10-2014

عَوْدَةٌ إلى تحرير العلم

قال أبو عبدالرحمن: مبدأُ (الْهُوِيَّةِ) هو مصدرُ كلِّ تصوُّراتنا، وهو مصدر كلِّ أحكامنا في الوجود نفياً وإثباتاً.. ومنه أحكامنا في الوجود: وجوباً مُتَعَيِّناً، أو ممتنعَ الوجود، أو مُحتملَ الوجود..

ومنه أحكامنا في درجاتِ عِلْمِنا بين اليقين والرجحان والاحتمال، ومنه تحديدُ سلوكنا في العمل بما عَلِمْنا بدافع وضرورة اعتقاده من جهة يقينيَّة أو رُجحانيَّة أو احتمالِيَّة من غير نفي أو إثبات، وضرروةِ التوقف عما لا علم لنا به.. ومبدأُ الهُوِيَّة مصدر معرفتنا الأول اُشْتُقَّ منه مبدآن ضرورِيَّان عامَّان: أولهما برهان السبب والعِلِّية الذي لا يتصور العقل حصولَ الهوية إلا به؛ لأن السببية مشاهدة عامة، والعقل مفطور على البحث عنها؛ ولأن ممارسته الحسية لم تنخرم عنها.. وثانيهما برهانُ رفعِ التناقض والتضاد: بأنْ لا يجتمع ولا يرتفع نقيضان؛ لأن ذلك عدمٌ محض كالجمع بين الحياة والموت في آن واحد وأنت تريد الحقيقة لا المجاز كما قالت الخنساء لَمَّا سُئلتْ عن حال أخيها صخر: «لا حيٌّ فيُرْجَى، ولا ميِّتٌ فيُبْكى».. إننا نَنْتَقِلُ مِمَّا حصل لنا مِن معرفةٍ وعِلْمٍ إلى قوانينهما المُسْتنبطة من قانون الهُوِيَّة والعلاقات والمفارقات بين الهُوِيَّات، ثم ننتقل إلى الأحكام؛ وهي الواجب المتعيِّن، والمُحال الممتنع، والمُحتَمل الممكن بلا مُرَجِّح، والمحتمل الذي يكون مُتَعَيِّناً بوجود المقتضي وتخلُّف المانِع.. ولكنَّ الإيمان بالله يجعله مُحْتملاً راجحاً؛ لأن المفاجأة التي لا نعلمها من إرادة الله سبحانه وتعالى: قد تسلب المقتضي، وقد توجِد المانع.. ويتبع هذا التقسيمَ صفاتُ العلم وعدم العلم من اليقين والرجحان والتوقُّف.. وفي نظرية العلم والمعرفة ثنائية التصوُّر والحكم (التصديق)، والواقع أن التصديق تصوُّرٌ إلا أن ما يُسَمُّونه تصوُّراً إدراك ساذَج بسيط كعلمي بطعم العسل؛ فهو حكم بحلاوته؛ فإذا قارنتُ بين حلاوة العسل ودبس التمر وقصب السُّكر كان ذلك تصوُّراً حُكْمِيَّاً للفروق بين حلاوتها؛ فذلك هو التصديق في اصطلاحهم.. وفي نظرية المعرفة والعلم ثنائية الوجود في الأذهان والوجود في الأعيان مع أنه لا وجود في الأذهان لغير موجود في الأعيان؛ فحينئذ نُفرِّق من غير نفي لما في الأعيان، فنقول أجزاء ما في الأذهان موجودة في الأعيان، ولكن الخيال ركَّب منها موجوداً لا نُثبت ولا ننفي وجوده في الأعيان؛ لأننا غير محيطين بما هو في الكون.. ونقول: محال أن يتخيَّل العقل شيئاً لا وجود لأجزائه في الخارج الذي يُسمُّونه الأعيان.. ثم ننتقل إلى المعايير التي يحصل بها زيادة معرفة بحس آخر وهو معرفة طعمها حينما أذوقها، ويحصل لي زيادُ علمٍ بالانتقال من الحس البسيط إلى الحس المركَّب الذي أعلم به قيمتها الغذائية.. إلخ.. وهكذا الحليب والعسل وعصير البرتقال؛ هو شرابٌ ذو هُوِيَّة أخرى غيرُ هُوِيَّة الحليب وحده، وهوية العسـل وحده.. إلخ.. وأما إيجاب السبب الكافي للمتغيِّرات في الكون فهو خبرة العقل الإنساني المشترك.. يرى لكل متغيِّر سبباً، ويرى للسبب سبباً، وقد يجهل السبب ولكنه موقن بوجوده.. ويعلم يقيناً أن كل الأسباب راجعة إلى سبب واحد يُسمِّيه الفلاسفة (علة كافية ما وراءها علة)؛ وتلك إرادة الله وقدرته بالبراهين العلمية من الأنفس والآفاق على أن الله واحد بالكمال المطلق لا شيئ قبله ولا بعده، ولا بداية لأوليته، وأنه الآخر لا شيئ بعده، وصِفتُه الدائمُ الباقي المهيمن الفعَّال لما يريد سبحانه وتعالى، ويستحيل تفسير الكون بغير ذلك.. وخبرة العقل منتجة بالله ثم بالفعل والحركة؛ فنواميس الله في كونه هي خَلْقُه، وهي سنته الكونية في تنظيم خلقه، وقد أذن لخلقه على مدى التاريخ باكتشاف عشرين ومئة عنصرٍ كيميائي اكتشفوها مما أذن الله بمعرفته من نواميس كونه؛ فأفادوا منها اكتشافَ السِّرِّ في ظواهرَ من المخلوقات، وأقدرهم الله على أن يصنعوا بها من مخلوقات الله إنتاجاً بشرياً، والله خالقُ البشرِ وما صنعوا.. والناموس بهذا المعنى هو سنن الله في نظام كونه، وهي فصيحة مولَّدة بالمجاز من كلمة أعجمية استعملها العرب؛ إذ حوَّلوا (صاحبَ السِّر) إلى السر نفسه.. والعقل بخبرته يعلم ببادي الرأي علمَ اليقين بعواصف مدمِّرة تأتي، وفيضانات، وسحبٍ داجنة عريضة تهطل صبَّاً لا رشاً؛ فيوقنُ بالغرق، ولا يجد بالاستقراء مانعاً من ذلك، ثم يُفاجأُ بالسحب الداجنة العريضة التي تصب الماء صباً تتوقف، وتتقطَّع، ويتحول بعضها إلى جهام (نفيضٍ) متطاير لا ماء فيه كما قال أبو الطيب:

ومن الخير بُطْءُ سَيْبِك عنِّي

أسرعُ السحبِ في المسير الجَهامُ

لماذا؟.. لأن المانع مفاجئ بإرادة الله؛ فليس هو على الحقيقة من علم البشر إلا بعد وقوعه، وقد يُمضي الله القدر؛ فتكون نتيجةُ علمِ البشر يقينيةً وهي قبل ذلك رجحانية وإن ظنوها يقينية.. والعلم لا تحصيلَ له إلا بالعقل من مصادره؛ فالمصادر التي توصِّل العلم إلى العقل هي الحواس الظاهرة والباطنة، ويدخل في ذلك العلوم؛ فالعلم الشرعي كان مصدرَ التصديق به العقلُ أوَّلاً، وقد حكم بأن الشرع على العصمة والصدق في أخباره والعدل والإحسان في أحكامه؛ فكل ذلك حاصل بنظر العقل في براهين الله في الآفاق والأنفس على أن الله واحد مُتفرِّد في الكمال المطلق؛ والتنزُّه المطلق؛ فتلك البراهين العقلية مصدرها الحسُّ.. ثم جاء ثانياً براهين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام على صدقهم، وأن الشرع من عند الله.. ثم جاء ثالثاً براهين الشرع نفسه على أنه لا تصلح حياة عباد الله ولا يسعدون إلا بالشرع الذي هو تنزيل خالقه، وفي الشرع التذكير بكل ما سلف من براهين الله.. والشرع مسموع ومقروء بلغة القوم الذين نزل إليهم الشرع؛ فَحِفْظه وفهمه ممارسةٌ حسية بحضور العقل وشهادته.. والعقل يتصوَّر، ويحفظ ما تصوَّره، ويستذكر ما حفظه.. وفي تصوره معرفة العلاقة والفوارق التي تَصوَّرها، والتمييزُ بينها، والتجريدُ منها (أي تجريد المعاني العامة للأشياء)، والتأليف من الأجزاء المُتَصَوَّرةِ المعاني المجرَّدة بملكة الخيال.. وما تخيَّله قد لا يُعلم وجوده في الأعيان بذلك التأليف، وأما أجزاء ذلك التأليف فلا بد أن تكون في الأعيان؛ لأن العقل لا يتصوَّر إلا ما أدركه من الأعيان، والخيال لا يستطيع التأليف إلا من أجزاءَ تصوَّرها العقل من المحسوس.. وأما الواقع المغيَّب فغير معروف بتصور العقل، ولكنه معلوم؛ لأن المعرفة ما عرفه العقل بالمشاهدة الحسية، والعلم معرفة الشيئ المشاهد مع زيادة المعرفة بأحواله وخصائصه والحكم فيه بالاستنباط وبالممارسة الحسية المُكرَّرة (التجربة).. والوجود مَعلومٌ موجودٌ بآثاره، ومعلومُ الصفات من آثاره، ومعلوم مِن وَصْفِ العليم به إذا ثبت الخبر عنه دلالة وثبوتاً كصفات الله سبحانه وتعالى نعلمها (بتفصيل الشرع، وبمجمل دلالة براهين الله في الآفاق والأنفس) على الكمال المطلق والتنزُّه المطلق بصفة الوحدانية؛ وبهذا ينتقل العقل بملكة الاستنباط من معرفة المحسوس والعلم بأحواله إلى العلم بالواقع المغيَّب حسبما وصل إليه من مشاهدة الآثا، وسماع أو قراءة الأوصاف بالخبر المعصوم.. ووصفُ المغيَّب علمٌ مُقارِب لا مطابِق بالنسبة للمخلوقين، فإن جاء الوصف على الكمال المطلق فهو علم مطابق بدلالة الكمال والإطلاق، وهو وصف مطابق في علم ذي الخبر المعصوم جل جلاله.. وهكذا صفات نعيم الجنة؛ ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ فالعلم المطابق أنه فوق كل ما نتصوَّر من نعيم، ولا نبلغ العلمَ بمنتهى كماله إلا أنه عطاء من ذي الكمال المطلق جل جلاله القدير الغني الذي لا ينفد ما عنده ولا يُعجزه شيئ، وإذا أراد شيئاً قال له: (كن) فيكون.. وجاء شرع الله مصحوباً ببراهين صدق الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن الشرع من عنده.. وجاء الشرع آياتٍ بينات مذكِّراً الناسي، مُعَلِّماً الجاهلَ بالبراهين عليه في الآفاق والأنفس -، ثم وَجَد ممتثلو الشرع براهينَ صدقِ الشرع وعدله وإحسانه وعصمته طمأنينةً في قلوبهم.. وجاء الشرع المتعلِّق بأفعال العباد بعد قيام الحجة على أن الله هو الحق، ودينه الحق.. وبعد هذه الجولة يتلقى العالِم المسلم - والعامي بسؤالِه أهلَ الذكر - شرعَ ربه على أنه حق واجب يترتب على فعله الثواب، ويترتب على تركه العقاب، وأن الثواب والعقاب يقعان في الآخرة وفي الدنيا.. ومن عقاب الدنيا هلاك المعاندين بالريح والصيحة والحاصب والغرق، ومنه حرج الصدر والمرض النفسي والجنون والانحطاط عن شرف الإنسانية، ومنه الاستدراج بالخيرات ليزداد المحادُّ لله إثماً.. ويتلقَّى المسلم شرع ربه على أنه صدق، وعدل، ورحمة، وحكمة، وأنه معصوم، وأن فيه خير البلاد والعباد؛ فلهذا كله يتلقَّى ما جاء على أنه شرع الله بنظر العقل بمصادره الحسية من ثلاث جهات سأذكرها إن شاء الله في السبتية القادمة.. وهذا أقصى ما أقدر عليه من تيسير مسائلَ في غاية الغموضِ والتعقيد؛ وذلك مِن إملاء العلم بأنَّ مِنْ طَبْعِ النفس البشرية حُبُّ الثناء، وَحُبُّ التفوُّقِ على الأقران، وحُبُّ بُعْدِ الصِّيت.. كما أن من ضرورات ذي الحرفة القلمية أن يرتزق بقلمه؛ لأنه لا يُحْسنُ الصفقات التجارية، بل لا يحسن غير حِرْفته القلمية.. ولعلَّ هذا يكون مُغْتفَراً عند ربي في الثقافات الدنيوية المُباحة من الفنون والآداب وتحميضات العلوم الكيانية؛ ولكنَّ الجهادَ الذي هو أشدُّ من رياضة الدواب ولا سيما عَسْفُ الخيل الجامحةِ الغاضبة على اللجم: إنما يكون في تحقيق دين الله ونشرِه؛ فلا بد أن يكون هذا العملخالصاً لوجه الله لا نبتغي فيه سُمْعةً ولا شهرة، ولا نتشوَّف به إلى مالٍ إلا ما جاءك من ولي الأمر وأجهزته؛ لنستعين به بعد الله على النوائب، وقد فَرَّغَ المُسلم نفسَه لهذا الغرض عن التماس أي مكسب؛ فرواتب القضاة، والمُفْتين، وأهل الحسبة، ومدرِّسي علوم الدِّين: كلُّها من توسيع الله على عباده.. وذو الحرفة الجادُّ بين نوازع الجِبِلَّة البشرية في حب الثناء، وبين الوجل والخوف الشديد من رَبِّه أن يُعْرض على ربِّه - وقد اجتهد في العلم ونَشْرِه -: (إنما فعلتَ ذلك ليقال إنه عالم).. فهذا لا سبيل له إلا بالإلحاح على ربه بالدعاء: أن يكون عمله كلَّه صواباً لا شِركَ فيه لأحد، وأن يجاهد نفسه ابتداءً بشكر الله الذي أنعم عليه بهذه الوظيفة الكريمة، ويبدأ عمله بالإخلاص لله وحده؛ فإن خطرت له بدوات شيطانية من حُبِّ الثناء فليمض في عمله العلمي، وليقل في نفسه: (إن حصل لي ثناء فذلك عاجل البشرى من ربي)، ولا يغفل أبداً عن أدعية الهداية والتثبيت؛ فعسى أن يبلغ المرحلة التي بلغها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى عندما قال لتلميذه الزعفراني: «وددتُ أن الناس يفهمون ما في كُتبي مِن معاني الكتاب والسنة، وينشرون ذلك وإن لم ينسبوه إليَّ» [الانتقاء ص 139].. ومن إخلاصه للحق ما ذكره عبدالرحيم الأسنوي [ -772هـ] رحمهما الله تعالى.. قال: «وقال [أي الشافعي] ما ناظرتُ أحداً إلا وددتُ أن يُظهر الله الحق على يديه» [طبقات الشافعية للأسنوي ص 13 / دار العلوم بالرياض عام 1401هـ] إلا أنه نقل تفسيراً غامضاً لكلام الشافعي؛ فقال: « وحِكْمتُه كما قال البيهقيُّ: أنه لا يستنكف عن الأخذ به بخلاف خَصْمه؛ فإنه قد لا يأخذ به» [المصدر السابق].

قال أبو عبدالرحمن: معنى هذا التفسير أن أُمْنِيَة الإمام الشافعي أن يُظهر الله الحق على يدي مُناظِره: تقتضي أنه سيأخذ بهذا الحق، بينما مناظره قد لا يأخذ بالحق إن أظهره الله على يدي الشافعي.. والجملة الأولى من كلام البيهقي صحيحة، والجملة الثانية لا دلالة عليها من كلام الشافعي رحمهما الله تعالى؛ لأنه لم يتعرض لانقياد مخالفه أو استنكافه؛ فلا نُقوِّله ما لم يقل، والله المستعان، وعليه الاتكال، وإلى لقاء عاجلٍ إن شاء الله.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب