25-10-2014

الأزمات لا تحل بمعالجة نتائجها

كما سبق وأن كتبت مراراً أن الملفت للنظر هو أن العنف في مناطق عدة في وطننا العربي والإسلامي هو عبارة عن موجات متكررة ودائمة باسم الدين، وهو عبارة عن مغناطيس قوي يجذب أبناءنا وشبابنا ويودي بهم وبإخوانهم إلى التهلكة..

..، بل ويجذب حتى أبناء الجيل الثالث من الجالية المسلمة المقيمة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية بل وحتى أستراليا. فلا يمكن الاستخفاف بهاته الداهية العظمى ولا الإعذار، فنحن مهددون في ديننا وأوطاننا وتاريخنا وثقافتنا وتواجدنا بين الأمم، وهذا يشمل «داعش»، و«جبهة النصرة»، و»بوكو حرام» في مالي و«أحرار الشام»، و«أنصار الشريعة» في ليبيا، و«القاعدة» في اليمن، وغيرها من التنظيمات المتطرفة في سيناء، ومنطقة جنوب الصحراء الأفريقية... وهي كلها مسميات لإرهاب واحد حيث يضع مريدوها للانتهازية عنوانا من الدين، ويقدمون للظلم وسفك الدماء البريئة تبريرات من الآيات، ويعطون لأفعالهم وأعمالهم وجشعهم أسماء من الشريعة، ويضفون على انحرافهم هالة من الإيمان، ويجعلون سفك الدماء ظلما وعدوانا عملاً من أعمال الجهاد.... وهاته أمور ليست من الإسلام في شيء، وإنما خروج عن الدين والعقل وتصرف جاهلي يتشح بالدين ويتسربل بالشريعة لتذوب من خلال هاته الأفعال قيم الإسلام السامية، وتمحى بهاته الأفعال مُثُل القرآن العليا، والإسلام بريء منها.

فالإرهاب مصيبة آزفة وداهية عظمى ليس لها من دون الله كاشفة، والإرهاب لا دين له ولا ملة، والإرهابيون عقولهم مشوشة، وقادتهم كما يكتب المستشار محد سعيد العشماوي يقدمون فهمهم من منهج الدعاية لا العلم، وبأسلوب الإلحاح لا الإقناع، وبطريق التوكيد دون ما تدليل أو نقاش أو نقد. وهم لا يسمحون لأنفسهم -حتى لا يهتزوا، ولا لأتباعهم- حتى لا يهربوا، ولا لخصومهم - حتى لا ينتصروا، بأن يناقشوا هذا الفهم بالعقل والمنطق، أو يقرأوا أي فهم غيره، أو يطلعوا على أي فكر سواه، أو يتبعوا أي منهج خلافه، لأن ذلك - إن حدث - لا بد أن يكشف ما في فهمهم من قصور وما في أسلوبهم من عوار؛ ومن ثم فهم يعادون أي فكر غير فكرهم (الذي يسمّى فكرا من قبيل التجاوز)، ويرفضون أي منطق سوى منطقهم (الذي يعد منطقا من حيث الجدل) ويأبون أي حجة ما لم تكن حجتهم هم. لذلك فهم لا يردون بالمنطق العام بل الشائعات، ولا يجادلون بالحسنى بل يرفعون على الدوام عصا التهديد وسلاح الاغتيال، ولا يواجهون بالعفو والتسامح بل بالعنف والعدوان.

وهم يكذبون ويتهمون غيرهم بالكذب، يحرفون ويتهمون غيرهم بالتحريف، يزيفون ويتهمون غيرهم بالتزييف، لسان حالهم العاثر يقول: من ليس معنا فهو علينا، ومن لم يتبع منطقنا فلا منطق له، ومن لا يؤمن بأهدافنا فهو آثم باغ، ومن يقف في طريقنا فهو كافر مرتد. وكل من درس أو قرأ في الطب النفسي يعرف أن من خصائص مرض الذهان أن يلجأ المصاب به إلى الإفراط في المنطقة والتوكيد؛ لكنه يجنح في ذلك إلى منطقه الخاص لا إلى المنطق العام، ويسرف في التصورات الشخصية غير الواقعية، ويعجز عن مطابقة فهمه وتصوره وتعبيره للواقع؛ ومن ثم فهو يعيش في حالة من الفصام بينه وبين الحياة السوية السليمة الواقعية.... والواقع يستدعي في الإبان وجود مؤطرين دينيين من علماء وأئمة مؤهلين وواعين بمقاصد الدين ومصالح الأمة في انسجام مع شروط السلم والمعروف، كما يجب توفير الخدمات الكافية بعيداً عن الاستغلال الأيديولوجي ومن ضمنها تأهيل التعليم الديني؛ فالتيار الإرهابي ينحدر من تيار ديني يقرأ النصوص قراءة حرفية مقطوعة في الغالب عن سياقها الزمني والموضوعي وانتقال أصحاب هذا التيار إلى النشاط السياسي تجعلهم يظنون أن هذه القراءة تجيز لهم استعمال العنف ويدفعهم إلى تحطيم توجه الغالبية الساحقة من المسلمين في العمل بالثوابت العقدية التي بناها المؤسسون على قراءة شاملة رصينة للنصوص.

ثم إن الأزمات لا تحل بمعالجة نتائجها، وإلا فإنها ستولد أخرى وأخرى إن بقيت الأسباب الجوهرية والبنيوية والتكوينية من دون علاج وهاته هي النقطة التي نادرا ما يتطرق إليها للأسف الشديد.

فلا يكفي استئصال الإرهابيين وإعادة ترتيب الخرائط السياسية واستئصال الجمرات المذهبية المتناثرة هنا وهناك وإعادة بناء الدول الفاشلة والمنظومة العربية من جهة أخرى، بل لابد من التأثير على عقول البشر وهذا العمل لا يمكن أن تقوم به إلا المجتمعات العربية... فالغلو هو أحد أبرز مظاهر الإرهابيين وهو الجهل بالطابع المركب الذي خلق الله به الأشياء، ورتب به القوانين، وبالتالي أدرك به العقل هذه الأشياء والقوانين، فبنى على ذلك المفاهيم بطريقة مركبة.

من ذلك أن الغلاة ينحُون نحو التبسيطية المخلة، فالأمر إما حق أو باطل، والموقف إما هدى أو ضلال، والألوان إما أبيض أو أسود، والحاكم إما ملاك أو شيطان، والشخص إما مسلم أو كافر، فلا تركيب ولا تنسيب ولا تطييف ولا تعقيد ولا تشابك، وإذن فلا اختلاف ولا اجتهاد ولا عقل، ولا خطأ ولا شك ولا حرية ولا تطوير ولا تحسين، وإنما الأشياء بسيطة حاسمة جاهزة حازمة.

وما دامت هاته الفرق الداعشية القاعدية تدعي لنفسها احتكار الحق وتزعم أنها على جادة الإيمان وترمي غيرها باتباع الباطل وأنها كافرة ملحدة بالدين، فإن المشكلة العظمى إذن في عقولها وتكوينها وجهلها، بمعنى أن المنظومة التربوية والتعليمية والتكوينية في مجتمعاتنا أفرزت مثل هاته الفيروسات الخطيرة.

فلماذا لا تقوم منظومتنا التربوية بزرع المبادئ والقواعد الدينية السمحة في أفئدة وعقول الناشئة منذ صغر سنهم، وتزيل عنهم الطغيان في التعصب الديني والتنازع والفرقة والاختلاف، وتشرح لهم خطورة الفهم الحرفي والسطحي والجزئي المتوجس من المقاصد الضابطة لبوصلة النص والحكم الشرعيين، ولماذا لا نزرع فيهم الرؤية المقاصدية الصحيحة التي تعاني من غلوين، غلو معطلة المقاصد باسم النصوص وغلو معطلة النصوص باسم المقاصد، ثم لماذا لا نرتب في أذهانهم منطق الأولويات: الأصول قبل الفروع، الكلي قبل الجزئي، المسالم قبل المحارب وغير ذلك؛ ولماذا لا نحارب في أذهانهم الجهل بأحكام الشرع وأصوله وقواعده ومقاصده السمحة ونعطيهم رؤية شمولية للنصوص والمعالجة المنهجية للأحكام، وهي مسائل يمكن أن ندرسها لمن سيصبح أستاذا أو طبيبا أو مهندسا أو نجاراً أو حداداً ولأدمجناه بذلك إدماجاً صحيحاً في مجتمعه ولقضينا على سيكولوجية الإنسان المقهور المطعم بأفكار وقناعات دينية ضالة ومضلة...فالمستوى الثقافي عند الداعشيين محدود ومضل وخطير، ينزعون النصوص من سياقها ويسيئون فهم مناطق استعمال القوة في القرآن الكريم ويخلطون مرحلة الدعوة بمرحلة الدولة ويخلطون بين الوعيد الإلهي والمعاملة البشرية ويخلطون الحق بالصواب فتتكون عندهم لا شعوريا عقلية عسكراتية..

فسوء السياسات في مجتمعاتنا العربية بما فيها السياسات التربوية ولدت مثل هاته الفئات الضالة. وما قاله مؤلفو كتب التنمية الإنسانية العربية في القرن الحادي والعشرين عن أن تأخير التنمية العربية ليس ناجما عن نقص الموارد، وإنما عن سوء السياسات؛ أي أن تعثر مسار التنمية ليس قدرا مفروضا على المنطقة العربية، بل نتيجة قصور محدد ناتج من إدارة قاصرة للموارد المتاحة فنفس الشيء يقال عن الإرهاب فإنما في كثير من تجلياته هو نتيجة لسوء سياسات متعددة.

مقالات أخرى للكاتب