26-10-2014

ضرورة تخليص الخطاب السياسي للأمة الإسلامية من خطاب الحركيين ومشاغبة لمغامرين

مفهوم الدولة في الإسلام تقود ولاتقاد، ومفهوم ولي الأمر يُوَجِّه ولايُوَجَّه وإلا لما حصل المقصود في ضبط المجتمع المسلم تحت ظل دولته الإسلامية، وسيادتهما -الدولة وولي الأمر- من الإسلام ومن ألزم ما على المسلمين في النصوص الشرعية، والمشاغبة عليهما من فكر الخوارج والجهال والمغامرين،

ومن ينعم النظر ويمعن الفكر يجد أن هيمنة القرار السياسي على مفاصل الأمة ملزمة واستشارة أهل الحل والعقد من المصلحة انطلاقا من قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) (سورة آل عمران)، وفي المشاغبة على القرار السياسي يحدث الخلل وترتفع المصالح وتستحضر المفاسد وتفقد الأمة هيبتها وتفتح أبواب الشر والفتن بما لاتحمد عواقبه، وخير دليل على ذلك ماحدث لسيدنا أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حينما تمت المشاغبة عليه والتشويش على قراراته من الخوارج والمغامرين وطلبة الدنيا وشذاذ الآفاق...

وحينما نكون صرحاء فإننا لاننسى في وطننا الغالي نجاح القرار السياسي المنضبط بضوابط الشرع والمصلحة المرسلة في اختيار الأصلح لمعاش الناس لأن الخاصية العظمى في فهم المصالح والمقاصد يمكن أن تجعل الفهم الديني والعمل الفقهي أكثر مرونة وتفاعلاً مع معطيات الواقع، وكي نعلم أهمية المصلحة التي تدور في كنف الشرع لابد أن نقف على رأي الإمام نجم الدين الطوفي حينما غالى في المصالح برغم كونه من علماء الحنابلة واعتبر المصالح هي الدليل الشرعي الأساس فنادى بتغليب المصلحة على النص إذا تعذر الجمع بينهما، وسواء اتفقنا أم اختلفنا معه إلا أن ذلك يوضح أهمية الوقوف عند مصالح البشر واحترامها. وإضافة إلى ذلك فإن من أهم ما تميز به علم أصول الفقه أنه يتفاعل ويتطور بحسب ضرورات المرحلة ومستجدات الحياة كما قال العلماء الأجلاء، فكثيراً ما كان الفقهاء يعملون على تأصيل أصول جديدة للاستنباطات مثل فقه المصالح والمفاسد وقاعدة سد الذرائع، وهل مقدمة الواجب واجبة، وهل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده وقاعدة الضرر وقاعدة الحرج وغيرها من العناوين التي كانت تتسع تدريجياً لتتجارى مع الواقع. ومن أشد ما ابتليت به الأمة في العصور الحديثة الجمود الفقهي وأزمة الفقهاء التي ساعدت الجهال على الهيمنة والوصاية على القرار السياسي لولي الأمر حتى بدأت ظاهرة السعي لتوجيه القرار والتشكيك فيه وهذا ليس من الإسلام ألبتة، ولا يتوافق مع الصلاحيات الممنوحة لولي الأمر مادام أنه يدور في كنف الشرع والمصلحة المضبوطة...

نعم نجح القرار السياسي ابتداء من فرض تعليم البنات إلى دخول المرأة مجلس الشورى إلى غير ذلك، وفي غالب كل ما مضى من صور القرار السياسي يثبت الواقع والمآل نجاحه في إدارة حياة الناس على الوجه الشرعي الصحيح بالرغم من معارضة بعض الفضلاء من طلبة العلم الذين يعتقدون أنهم يوقعون عن الله في حرمان الناس من حقهم الطبيعي في العيش بكرامة وعدالة والله بريء من تلك التوقيعات التي تخضع للمزاج البشري بعيدا عن روح الإسلام الذي ضبط قواعد سد الذرائع بضوابط لا يمكن أن تتفق مع ما نراه اليوم من تحريم كل شيء بلا دليل علما أن الأصل في الأشياء الحل والبراءة والإباحة وإلا لكان العنب حراما بحجة إمكانية صنع الخمر منه وكان التعليم حراما لأنه يساعدك على قراءة كتب الزندقة وكانت قيادة السيارة حراما لأنه سبب للحوادث والموت والإعاقات، وهكذا تتعدد الصور السيئة لطرفي المعادلة، والإسلام أجل وأسمى أن يحرم كل ذلك ولكن يضع ضوابط تحقق الخيرية وتدفع الشر، والأمثلة كثيرة ولا تقتصر على حياتنا اليوم بل من أيام الإسلام الأولى وبخاصة أننا لم نجد ولي الأمر في قراره السياسي يأمر الناس بالطواف على القبور ولا بالذبخ للكهنة والمشعوذين ولا بفتح نوادي للعراة وشواطئ للزنا وبارات للخمور وإنما يقر كل مافيه مصلحة للمسلمين تتفق مع تعاليم الإسلام العظيم وحاجات الناس.

الخلفاء والسلاطين والحكام والملوك المؤثرون في الأمة الإسلامية لم يكونوا أبطالا وحدهم بل كان كل من حولهم يتمثل البطولة ابتداء من العلماء في خطابهم الديني وجمع الناس حول الدولة وولي الأمر وانتهاء بشعوب تدرك تماما مالها وماعليها في ظل الرحمة واللين والنصح، وساعدهم على ذلك المنجز المستحيل دين يسمح لهم بالتمدد في أطر إنسانية تحفظ المصالح وتدرء المفاسد وتحقق الخيرية، وتكمن عظمة الإسلام حينما ألف بين رجل السياسة ورجل الدين في بيئة متآلفة، ليكمل المشهد في إطاره الصحيح وطغيان أحدهما على الآخر وغياب أحدهما عن الآخر يفسد ذلك المشهد ويفرغه من مضمونه فللأول القرار وللآخر المشورة والنصح والطاعة في غير معصية الخالق، وكارثة حقيقية على عالم الإنسان أن تفرغ الدولة الإسلامية من مفهومها السياسي والكارثة الأكبر أن يشاغب رجل الدين على رجل السياسة ويفرض عليه تحنيطا ووصاية تعطل الحياة المدنية وتفاصيلها الدقيقة لتفرز تلك الوصاية دولة معلبة وفاشلة وغير قادرة على التأثر والتأثير وحينئذ لامكان لها في المجتمع الدولي المحكوم...

وانطلاقا من مفهوم السياسة الشرعية الذي يمكن أن نختصره في قيام الراعي أو ولي الأمر بتدبير أمر الرعية والسعي لإصلاح شؤونها الدنيوية والأخروية بما يصلحها ويدرأ المفاسد عنها وفقاً لنصوص الشريعة الإسلامية ومقاصدها العامة. وعطفا عليه ماذا لوكان سيدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب السياسي الفذ العبقري في زماننا هذا وقد منع سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة التي نزل بها القرآن، وضعف العقاب في بعض الحدود وهي توقيفية لا تخضع للاجتهاد، ومنع الزواج من الكتابيات وقد نزل القرآن بذلك، ومنع الجزية والسبي عن بعض العرب وكلها نزلت في القرآن، وخير ما يصور تلك الصلاحيات في مفهوم الدولة الإسلامية التعزير في القضاء الإسلامي والذي يصل إلى القتل والسجن والنفي، ومالتعزير إلا حكم قاض هو بشر، وليس حكم الله جل جلاله، ماذا لو كان الحركيون اليوم في ذلك العهد ورأوا من سيدنا أمير المؤمنين كل ذلك، وأعتقد جازما سيجدون صعوبة في التعايش معه وتحت ظله وسيشاغبون عليه وربما أفتوا بردته وكفره نسأل الله السلامة.

إن الإسلام العظيم حينما منح ولي الأمر (السياسي) صلاحيات مضبوطة كان يترجم سماحته على أرض الواقع، ويكفي أنه ألزم الأمة باجتهاده في اختيار رأي من بين الآراء وإن كان مرجوحا، ولذلك من يقرأ سيرة سيدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يدرك عمقه السياسي في إدارة شؤون الدولة وبخاصة أنه سطر للخلف أن مفهوم الدولة في الإسلام مفهوم إنساني قائم على الرحمة بالخلق وما يحيط بهم وما يحيطون به، لأن هذا الدين الرباني العظيم لا يرضى الضرر ولا الضرار ولا يشرعن الوصاية على حياة البشر إلا بمسوغ، وقد وضع ضوابط السياسة الشرعية التي ترشح منها الحكمة والإدارة وفن الممكن وكثير من المغامرين لم يفهموا مقاصده السمحة حينما يشاغبون على الدولة وقراراتها المبنية على المصلحة والمستمدة من روح الإسلام العظيم ولا يعلمون أنهم في مشاغبتهم يسيئون لهذا الدين وسماحته وصلاحيته للعالمية وإقناع البشرية بتعاليمه، ولست حانثا إن قلت إن أكبر كارثة حقيقية لحقت بالإسلام هي ما تقوم به الأحزاب والحركات والتنظيمات التي ينسبها أصحابها إلى الإسلام اليوم، والتي نجحت في توحيش الناس والصد عن سبيل الله وفرض الحرج على المسلمين في الوقوف أمام تمدنهم وتحضرهم وإنسانيتهم وتعاملهم مع العالم الآخر وفي الجانب المقابل فشلت تلك الحركات في تقديم أنموذج ناجح في خدمة المجتمع الإسلامي والنهوض به من النواحي كافة وبخاصة أن السياسة فن الممكن والبحث عن المصلحة والبعد عن الخلل، وأساس الإسلام مراعاة مصالح العباد في المعاش والمعاد، وها هو الإمام ابن قيم الجوزية، رحمه الله، يقول في كتابه العمدة «إعلام الموقعين عن رب العالمين»: «إن الشريعة مبناها وأساسُها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالح كلُّها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدلُ الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلّه في أرضه، وحكمته الدّالةُ عليه وعلى صدق رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أتمَّ دلالة وأصدقها».ويقول الفقيه الحنبلي ابن عقيل: «والسياسة ما يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي». وهذا يدل على عدم انغلاق مفهوم الدولة في الإسلام، ويدل أيضا على أهمية الالزام مع القرار السياسي لولي الأمر مادام يصب في المصلحة ولايختلف مع الشرع سواء في ترتيب شؤون الدولة ومؤسساتها ومكوناتها أم في التحالفات العسكرية والمعاهدات الدولية والتعاملات الاقتصادية والتجارية وعدم المشاغبة عليه لأنها غير محققة لمقاصد الشريعة السمحة، والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com

مقالات أخرى للكاتب