رحمك الله يا أم محمد .. ذات الخصال الكريمة

طبعت هذه الدنيا على كدر، ونحن نريدها صفواً من الأكدار، ولولا تجلد المؤمن ويقينه بما عند الله تعالى، وأن ما عند الله تعالى خير وأبقى لهلك جزعاً، وهذه الدار لا تبقي على أحد؛ ولا يدوم على حال لها شأن، فمن سره زمن ساءه زمن آخر، وكل من في هذه الدنيا هالك، ويبقى وجه الكريم تعالى، وكل نفس ذائقة الموت.. والموت باب وكل الناس داخله..ومع أن هذه الحقيقة العظمى ماثلة للخلق وواقعة لاريب فيها وقاهرة لهم، يبقى أن ألم الفراق لا ينجو منه بشر، لأنها طبيعة وضعها الله عز وجل في فطرة الخلق، ومما يدل على ذلك أن أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأجلدهم صبراً لم يتمالك نفسه عندما رأى فلذة كبده وابن بنته تخرج روحه بين يديه، فسالت دموعه حزنا على فراقه ، كما صح ذلك في صحيح البخاري من حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي المَوْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ»، فَأَعَادَتِ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».وأسوق هذا عزاء لنفسي أولاً، وأمرها بالتصبر والتجلد مسترجعاً قول ربنا وأمره حين قال سبحانه: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، وعزاء لكل الأحبة في فقد الغالية أم محمد نفلا بنت مانع القحطاني رحمها الله رحمة واسعة..فقد كانت الفقيدة أسكنها الله فسيح الجنان أماً للجميع، لا تفرق بين القريب والبعيد، محبة للخير، باذلة له، لا تكاد ترد سائلاً، عظيمة السجايا والخصال، كريمة معطاءة، صوامة قوامة، مداومة على ذكرلله تعالى، بعيدة عن ساقط القول وبذيئه، واصلة لأرحامها وأقاربها، ولا يعرفها أحداً إلا وأحبها.وكان من مآثرها رحمها الله أنها كانت تخفي كثيراً من أعمالها ولا تحب أن يطلع عليها أحد، وكثيراً ما كانت تأمرني بإيصال مبالغ مالية للفقراء والمساكين خفية، وكانت تساهم كثيراً في الأوقاف الخيرية.وإنسان يتصف بمثل هذه الصفات لا خوف عليه من القدوم على الملك الرحيم، فالناس شهداء الله في أرضه، وهذه الكريمة لا يعرفها أحد إلا وشهد لها بمثل ذلك وأكثر، وقد صح من حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ» ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: «وَجَبَتْ» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: «هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ».وقد آلمني والله فراق هذه الصالحة الغالية ومن تعتبر بمقام الوالده ولم أكد أصدق الخبر لما وصلني من هوله على نفسي، فلله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، و{ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.وأسأل الله تعالى أن يرفع درجتها في عليين ويجعل منزلتها مع الصديقيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ويبدلها داراً خيراً من دارها، وأهلاً خيراً من أهلها.

- عبد الهادي العجمي