حتى لا يأتي الأسوأ..

حتمية المواجهات مع الدون كيشوتيين الجُدد

سعادة الأستاذ خالد المالك رئيس تحرير صحيفة الجزيرة..

لقد وضعتم يدكم في مقالكم الصادر في عدد الجزيرة رقم 15371 تحت عنوان (أفيقوا يا عرب) على محاور بالغة الأهمية في سياق الاضطراب السياسي والأمني الذي يضرب دول المنطقة حول المملكة، الذي لا أظن المملكة بمنأى عنه؛ في ظل وجود تيارات فكرية وعناصر موالية لقيادات مشهد تكفير عاصف عابر للحدود؛ أرى أن هناك حاجة ماسة إلى مواجهة حتمية معه، أيضاً بالفكر، وليس بالحلول الأمنية، ولا أجد هذا عصياً على المملكة، وهي الدولة التي سعى كثير من دول العالم إلى الاستفادة من خدماتها، بعد نتائج لافتة حققتها الاستراتيجية السعودية اللينة لمكافحة الإرهاب، إبان واحدة من أعنف موجات الإرهاب الأسود، شهدتها المملكة في أخريات القرن الماضي، وشهد مطلع القرن الحالي انكسارها، ليس بالحلول الأمنية وحسب، وإنما بحملات توعوية واسعة، ومناظرات فكرية غذت رافداً ثقافياً قوياً، جرف من أذهان المراهقين والشبان كثيراً مما غرسته أيادي الإرهاب السوداء من أفكار دامية، سعى أصحابها المجتهدون منهم والمغرضون، من الدون كيشوتيين الجدد، إلى حمل سيوفهم في وجه كل مَن كان، من أجل إقامة دولة خلافة هلامية متوهَّمة، بأيدي خلفاء المسلمين الجدد الآتين من كهوف العالم.

إن الأسوأ لم يأت بعد، وإن كانت بوادره بدأت تلوح في الأفق، بعدما أصبح في وسع أي مراهق أن يصنع بيديه قنبلته الخاصة بأي من الطرق المنتشرة على صفحات الإنترنت، ويضعها في طريق الناس وفي أماكن تجمعات مجتمعاتنا الكافرة، وفق وجهة نظر الخلفاء الجدد وأبواقهم النشطة التي تعرف جيداً طريقها إلى عقول المراهقين والشبان، في غياب دور حقيقي فعال لأهل العلم الحقيقيين الوقافين على حدود الله، وأولها الدماء التي أصبحت إراقتها في أوطاننا مثل شرب كأس من الماء، بأيدي حفنة من المراهقين والأميين، تحولوا إلى قنابل موقوتة تنفجر فينا في كل طريق.

فلماذا يكتفي فقهاؤنا ودعاتنا بإنكار فكر التطرف وشجبه من دون أن يوضحوا الأسباب للناس ويبصروهم؛ فلم يعد هذا زمان الطاعة العمياء للفقيه؟ لماذا لا يخرج علينا أهل العلم ليفصلوا الحديث في فقه الحاكمية التي تراق باسمها دماء المسلمين، وتستحل مقدرات بلادهم؟ ما هذا الصمت الغريب من علمائنا الذي لا يتناسب مع الكارثة التي حل بنا منها النزر اليسير، وبقيتها في الطريق؟ أم أن الأمر على هوى بعضهم، ولاسيما أصحاب القاعدة العريضة من المتابعين على شاشات الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي؟ هل يخشى هؤلاء انفضاض شطر من متابعيهم عنهم، أم أنهم داعشيو الهوى؟

لقد أفزعني تصريح لأحد الدعاة المشهورين على إحدى الفضائيات، كان يدفع عن نفسه تهمة إفتائه بجهاد النكاح للفصائل الإسلامية المقاتلة في سوريا والعراق، ثم تطرق الرجل بقوله «هؤلاء مجاهدون، ولديهم ما يشغلهم عن النساء». هكذا، من دون أن يفرق بين أي من الفصائل التي نَسب إليها صفة الجهاد، وأعرب عن تعاطفه معها على نحو مكشوف. فشتان بين جهاد وجهاد. ومع الأسف، فهؤلاء الدعاة الذين تتسابق الفضائيات في المنطقة على استضافتهم هم مَن يعرفهم الناس، ويتبعونهم، ويتأثرون بأفكارهم وآرائهم، رغم أن كثيرين منهم دعاة، وليسوا فقهاء بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، في حين لا يتبقى لكبار العلماء الذين لديهم بالفعل الدواء الناجع لأمراض أمتنا الفكرية سوى فتاوى النساء على الفضائيات المحلية التي تجاوزها طموحُ المشاهد، ومعه ألف حق، في ظل أدائها المتواضع، ولا أريد أن أقول الهزيل.

إن مما يؤسَف له أن تبلغ الصفاقة مبلغها بقطاع غير قليل من حدثاء الأسنان والأميين والموتورين ومرضى الدون كيشوتية الجديدة، ويتجرأ هؤلاء على الراسخين في العلم من العلماء، ويتهموهم بأنهم علماء سلطة، في محاولة لتحييدهم وإخراجهم من المشهد وإبطال أي مفعول لتأثيرهم، المحاولة التي أراها - مع عظيم الأسف - بدأت تؤتي ثمارها الشائكة، من قِبَل دعاة الظلام الذين خرجوا إلى النور أخيراً، بين صامت صمت الراضي المؤازر بالصمت، وهماز يدس رسائله المبطنة في ثنايا أحاديثه، ومشهر للسلاح على جبهات قتال أصبحوا ينهبونها نهباً، ويتمدد زحفهم على ميادينها، في غياب أي صوت لمواجهات فكرية حان وقتها، قبل أن يتسع الخرق على الراقع، ويستفحل الأمر على نحو لن يكون من الإنصاف أن نلوم المؤسسة الأمنية إن هي - لا قدر الله - عجزت عن احتوائه.

وللحديث تتمة.

- أسامة الزيني