مفتي طرابلس والشمال الشيخ الدكتور مالك الشعار لـ«الجزيرة»:

حرب طرابلس انتهت .. وأهل المدينة مع الجيش

طرابلس - منير الحافي:

بعد كل جولة أمنية أو عسكرية في عاصمة الشمال طرابلس، تتوجه الأنظار إلى دُور مسؤوليها السياسيين والدينيين، الذين يمتلئون بالناس من داخل المدينة وخارجها، يتباحثون في سبل الخلاص، وفي كيفية تجنب السيئ والأسوأ. من هذه الدور، دار مفتي طرابلس والشمال الدكتور مالك الشعار، الذي يحمل «دكتوراه» في الحكمة إلى جانب كونه مفتياً دينياً أجمعت عليه الأطراف السياسية جميعاً.. «الجزيرة» حملت هموم طرابلس إلى مفتيها. وقد تحدث بإسهاب وفيما يلي نص الحوار.

* سماحة المفتي مالك الشعار، انتهت للتو أحداث جديدة في طرابلس، بين مجموعات مسلحة والجيش اللبناني. هل نعتبر أن «حرب طرابلس» انتهت إلى غير رجعة؟ وما هي الضمانات؟

- للوهلة الأولى أجيب وبدون تردد، نعم يُفترض أن تكون هذه آخر جولات الصراع المسلح على أرض طرابلس، لأن الجيش اللبناني قد أزال كل البؤر المسلحة، وبالتالي لم يعد هناك من مبرر لأية جولة اقتتال في هذه المدينة الصابرة والصامدة، أما عن الضمانات فهي المؤسسة العسكرية أي الجيش وسائر القوى الأمنية. فطرابلس أمانة بيد هذه المؤسسة. والجيش وبقية القوى الأمنية قادرة مجتمعة، وكلٌ على حدة، على حفظ أمنها واستقرارها لأن المشكلة ليست بين أبنائها مع بعضهم، كما أنها ليست مع الدولة أو الجيش أو قوى الأمن الأخرى. وهناك خطة أمنية اتخذت لطرابلس، وهي من أهم هدايا الرئيس ميشال سليمان في آخر عهده لهذه المدينة التي تنبض بالحياة والولاء للوطن. وأهل طرابلس خاصة والشمال بصورة عامة، متمسكون بالخطة الأمنية وتنفيذها العملي ولم يعلن أحد على الإطلاق تفلته منها، أو الاعتراض عليها. فمطالب أهل المدينة يتقدمها إصرارهم ونداؤهم للقيادة السياسية والعسكرية أن تكمل تطبيق الخطة الأمنية التي استقبلها الناس بالأرزّ والزهور وماء الورد. ولم يعد خافياً على أحد أن اعتماد أهل طرابلس والشمال على هذه المؤسسة وهم داعمون لها وحاضنون لأبنائها وقيادتها. ولذلك فإني آمل أن تكون «حرب طرابلس» قد انتهت إلى غير رجعة بإذن لله.

* قيل في هذه المعارك الأخيرة إن تيار المستقبل والسنة عموماً في طرابلس أثبتوا أنهم مع الدولة ضد الإرهاب، ونالوا «الثناء» على ذلك من شركاء في الوطن. على ماذا اعتمد أهل المدينة في قرارهم محاربة التطرف ودعم الدولة؟

- ربما كان من المسلمات والبديهيات ما ذاع صيته على مساحة الوطن أن خيار السنة هو الدولة، وأن السنة والإرهاب لا يلتقيان لأن قيمنا الدينية لم تحرّم علينا التطرف والإرهاب والعنف فحسب، وإنما أمرتنا بالرفق واللين وحسن المعاملة وخفض الجناح. فالسنة منذ أن كان وجودهم، أهل اعتدال ورفق ولين وعفو وتسامح .وحضورهم يقوم على تجذر قيمهم الدينية وقوة هيبتهم واحتضانهم لكل الآخرين. ولقد علّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصل من قطعنا ونعطي من حرمنا ، ونعفو عمّن ظلمنا. فالسنة على مدار التاريخ لهم مناخ ثقافي ديني، يقوم على رحمة الآخرين والرفق بحالهم. لأن الله تبارك وتعالى قال : «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم». ولأنه تعالى قال : «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن».

صحيح أن القرآن جاء فيه «وجزاءُ سيئةٍ بسيئة مثلها « لكن قال بعد ذلك مباشرة: «فمن عفا وأصلح فأجره على الله». هذه هي تربيتنا الدينية، وثقافة التعامل عندنا تقوم على هذه القيم، خاصة أن النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصحيح: «إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف».

هذا هو حال أهل السنة في طرابلس ولبنان وفي سائر بلاد الله. أما تيار المستقبل فلقد أخذ على عاتقه، مؤسُسه الأول شهيد الوطن والعروبة والإسلام دولة الرئيس رفيق الحريري - رحمه الله - بناء الإنسان وبناء الوطن وبناء المستقبل. ومقومات البناء لا تقوم على الكراهية والبغضاء والتطرف والعنف. ولذلك كان من الطبيعي جداً أن يسلك الخلف، الزعيم سعد الحريري طريق السلف الذي رسمه والده رفيق الحريري - رحمه الله - من أن خيارنا هو بناء الدولة وبناء الإنسان وبناء الوطن، والعنفُ يدمر ولا يبني، كما أن التطرف يهدم ويغرق ولا يجمع أو يؤلف. لذلك نال السنّة وتيار المستقبل الذي يمثل وجودهم ، نالوا الثناء والمدح وأطنب كثيرون من أهل الرأي والفكر والقلم على رأي السنة وزعيم تيار المستقبل، على مواقفه الواضحة التي تدور في إطار: نحن مع الدولة، نحن مع الوطن، نحن مع الآخر، نحن مع الجيش، ونحن مع العدل الذي يبني الحاضر والمستقبل.

أما سؤالك على ماذا اعتمد أهل المدينة في قرارهم محاربة التطرف ودعم الدولة، فيعود إلى معتقدنا أن التطرف مرَض، وأنه خارج عن الفطرة وسائر القيم الدينية التي جاءت بها رسالات الأنبياء.

* كان هناك خوف من انتقال معارك عرسال (السنية) بين القوى المسلحة والجيش، إلى طرابلس. وهذا ما حصل. هل تتخوفون من انتقال ما حصل في طرابلس إلى مدن لبنانية أخرى ذات طابع سني؟ ولماذا يوضع «السنة» في مواجهة الجيش؟

- أولاً في الشكل، لا أحب أن توصف عرسال أو طرابلس بالسنية وإنما بمدينة من مدن لبنان، ولو أن أكثرية السكان هم من أهل السنة حتى لا نعطي مبرراً لأي منطقة من مناطق لبنان أن تكون مذهبية، فلا أحب أبداً أن يُقال إن الجنوب شيعي وإن كسروان مارونية وإن طرابلس سنية، لأن هذا من شأنه أن يفكك الوحدة الوطنية. ولا يخفى على أحد أن طرابلس فعلاً تحتضن في عيشها المشترك سائر أبناء المذاهب والطوائف. ولقد أخطأ من قال إن طرابلس هي عاصمة السنة لأن طرابلس هي مدينة السلام ومدينة العقل والعقلاء، والعلم والعلماء، والحكمة والحكماء. ونقطة أخرى في الشكل، لم يحدث في طرابلس تصادم بين أبناء المدينة والجيش، وإنما بين أنفار يمثلون بعداً تخريبياً أصفهم بالطابور الخامس، هم الذين تسللوا إلى بعض المناطق ومنها طرابلس، من أجل إحداث هذا الإرباك ليصنعوا مناخاً سياسياً عاماً في لبنان بأن طرابلس عندها مشكلة مع الجيش أو أنها خارجة على القانون أو ضعيفة الانتماء إلى الدولة والوطن. كل ذلك لتشويه قيمنا الإسلامية والدينية. ولكن أقول بصدق ودقة وإصرار: إن الحياة في طرابلس والعيش بين أبنائها فيه من متعة التقارب والتزاور بين المسلمين والمسيحيين، كما بين المسلمين والمسلمين أنفسهم. ولذلك، فإني مطمئن أن لا خوف على طرابلس، لشيء أساسي أن المشكلة ليست بين أبنائها المسلمين والمسيحيين وليست بين أبنائها السنة والعلويين، وإنما هي معارك مفتعلة لم تجد مأوى لها أو احتضانا. كما أنها من المستحيل أن تؤثر على هوية المدينة وتاريخها الوطني. وأقول استطراداً إن طرابلس مستهدفة لتشويه صورة المسلمين فيها، وليستفيد الخارجُ من هذا التشويه، وحتى يتسنى للأفّاكين وأهل الباطل أن يقولوا إن المسلمين غير قادرين على أن يستوعبوا غيرهم أو أن يعترفوا بالآخر، وبالتالي لا يصلحون لإدارة حكم أي بلد كالعراق وسوريا! فالتشويه للمدينة له بعده السياسي لخدمة الخارج لكن طرابلس أثبتت أنها عصية على الفتنة بين السنة وإخوانهم العلويين، وأنها عصية على حدوث فتنة أو تصادم مع الجيش. لذلك حَكَمَ السنة أقطارا وعلى مدى قرونٍ طويلة وأثبتوا في سعة حكمهم وعدلهم أنهم حاضنون لكل آخَر، أياً كان انتماءه السياسي أو الديني أو الثقافي.

* مدينة طرابلس، عانت لمدى ست سنوات تقريباً (2008 - 2014) لنزف بين التبانة (السنية) وجبل محسن (المنطقة العلوية)، وانتهت الأزمة بتدخل الدولة عبر الأمن والقضاء. وأمس جرت اشتباكات داخلية بين الجماعات المسلحة (السنية المتشددة) والجيش. هل يمكن اعتبار طرابلس ما زالت خاصرة رخوة في لبنان، وأن أي رسالة إقليمية سوف تمر فيها لا محالة؟

- صحيح ما ذكرتموه من المعاناة الطويلة، ولكن الأصح كذلك أنه عندما بدأ تطبيق الخطة الأمنية في جبل محسن والتبانة، التقى الأهل والأصدقاء في لقاء كأنه عرس للدلالة على أن المشكلة ليست بين أبناء المنطقتين والمذهبين، وإنما هي حوادث مفتعلة وأياد مشبوهة وطابور خامس، صحيح أن الأزمة انتهت بتدخل الدولة عبر الأمن والقضاء، لكن الأهم أن الأزمة انتهت بتضميد الجراح وترميم البيوت وإعادة بناء المحلات والمنازل من خلال هبة كريمة قدمها الرئيس سعد الحريري، وكانت بين عشرة ملايين و12 مليون دولار. واخذ العلويون نصيبهم كما اخذ الستة نصيبهم، ولعل هذا يضاف إلى ما ذكرناه من أن قيم السنة تقوم على الاستيعاب والاحتضان والرفق والمحبة والرحمة.

* سماحتكم كنتم تحضّرون لمؤتمر جامع إسلامي - مسيحي لرجال دين مسلمين ومسيحيين وممثلي المجتمع المدني، في طرابلس، لتثبيت فكرة أن المدينة منفتحة على كل الديانات وأنها مدينة للسلام، وتأجل المؤتمر بسبب المعارك الأخيرة. ماذا ستقولون في المؤتمر عند انعقاده مجدداً؟

- لعل مضمون المؤتمر معروف في معظم أطره، وكنا نتمنى أن نسابق الزمن حتى نحول دون حدوث الفتنة ولكن إرادة الشر عند الآخرين ربما كانت أسبق وأمضى من إرادة الخير عند أبناء أهل طرابلس، أو أن الآخرين أرادوا اغتيال مشروعنا الوطني والديني. لكن هذا لا يغير الحقائق. فأولئك الذين يعملون ليل نهار لتشويه سمعة المدينة وتلطيخ نصاعة هويتها، سنعاقبهم بالإحسان إليهم وبإصرارنا على مواقف ثابتة ورباطة جأش عالية، دون ردة فعل ودون توجيه اتهام مباشر لهم، ليعلم الناس أنهم لن يستطيعوا أبداً اغتيال حلمنا وصبرنا وقيمنا وثقافتنا التي ترفعنا، بمقدار ما يشدهم كيدهم ومكرُهم إلى مستوى لا يليق بنا أن نذكره.

* لطالما قيل إن الشمال ينقصه أمن وإنماء. هل ترون أن إنجاز ذلك قريب؟ ما المطلوب من الدولة، وماذا تطلبون من موقعكم في الشمال من الدول العربية الشقيقة خصوصاً المملكة العربية السعودية في مجال دعم الدولة والشمال خصوصاً؟

- طرابلس خاصة والشمال عامة، مناطق محرومة ومهملة، ولعلّ هذا الظلم والحرمان والإهمال من أهم الأسباب التي تصنع خاصرة رخوة في كيان الوطن وجسمه. ولم تشهد هذه المدينة إنماء أو ازدهاراً أو مشاريع استثمارية منذ زمن يعود إلى أربعين سنة وما قبل. بل إن الأغرب والأعجب أن المرافق الحيوية التي من شأنها أن تفتح المجال أمام الحركة الاقتصادية والاستثمارية وتهيئ فرصاً للعمل، معطلةٌ من الألف إلى الياء. فـ»معرض رشيد كرامي الدولي» في طرابلس الذي تزيد مساحته على مليون متر مربع معطل ومهجور ، رغم أنه قليل أمثاله في الشرق الأوسط كله. وكذلك «مطار رينيه معوض» في القليعات في الشمال، يُحرم على أحد أن يتحدث عن تشغيله أو إعماره! ومرفأ طرابلس كذلك، الذي بدأت الحركة تدب فيه أيام الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وشهد مشروع توسعة في السنتين الأخيرتين، العمل به الآن أكثر من متواضع! ومشاريع المياه والجسور والطرقات والبنى التحتية متوقفة في مدينة قد تكون الأجمل على حوض البحر المتوسط. والمدينة تحتضن قلعة يندر وجودها في الدول العربية، معطلة الحركة فيها، والمدينة فيها أهم آثار مملوكية بعد مدينة القاهرة، لكن السياحة تتوقف عند حدود جبيل والبترون. لهذا قلتُ إن طرابلس مصدومة ومحرومة ومهملة. ولا أقول فاتها الإنماء المتوازن، بل فاتها الإنماء كله.

لذلك، أنا أحمّل دولتي المسؤولية الأولى، وأحمّل كل مسؤول بمقدار حجمه ومسؤوليته، حرمان المدينة. ولا يسعني إلا أن أوجه النداء لأقول: ارحموا طرابلس، وارحموا أهلها، وارحموا شوارعها.

أعطوا طرابلس الأمل في الحياة وفي المستقبل. اجعلوا لطرابلس صندوقاً كصندوق الجنوب أو صندوق المهجرين، أو صندوق الإنماء والإعمار. اجعلوا لطرابلس صندوقاً يحفظها من الموت ويبعث الأمل في غدها ومستقبلها.