خلال سبتية الجاسر

د.مناع: وسائل التواصل حولت الرقابة إلى أزمة!

الجزيرة - علي بلال:

حل الدكتور عبدالله مناع الأديب والمفكر المعروف والكاتب بصحيفة «الجزيرة» ضيفاً على ضحوية الشيخ حمد الجاسر يوم السبت الماضي, وألقى محاضرة بعنوان (عن الثقافة والمثقفين والرقابة..!), وأدار المحاضرة الزميل الأستاذ محمد بن عبدالعزيز الفيصل عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود ومستشار رئيس التحرير بصحيفة «الجزيرة», وعقدت بدارة العرب بمنزل الشيخ حمد الجاسر, وذلك بحضور جمع من أصحاب المعالي والسعادة والمثقفين والأدباء.

وفي البداية افتتح الأستاذ الفيصل المحاضرة بكلمة قال فيها: ((لا بد وأن أعترف لكم بأنني وقعت في حيرة من أمري؛ فكيف سأعرف بقامة ثقافية وأدبية بحجم الدكتور عبدالله مناع، العَلم الذي أسهم بشكل فعال وحيوي في رفع مستوى الثقافة والفكر في الوطن العربي، وكانت وما تزال رؤاه وتطلعاته الجريئة تنير الدرب الصعب والوعر، درب الثقافة بكل ما تملكه من أدوات سامية يفتقر إليها الكثير من سالكي هذا الطريق، فالدكتور عبدالله مناع تجاوز مرحلة التعريف، ليكون علماً أدبياً تفخر البلاد بوجود أمثاله، فهو علامة مسجلة بامتياز في ميدان الفكر، قدم للوطن الكثير وما زال عطاؤه مستمراً وننتظر منه المزيد، فمنذ بداياته الأولى إبان دراسته للطب بجامعة الإسكندرية ارتبط بالقلم وارتبط القلم به، ليشكلا ثنائياً فريداً اصطحبهما الإبداع إلى حقول الصحافة والأدب والإذاعة، فنتج عن تلك الحالة الإبداعية ظهور العديد من المؤلفات في ميداني الثقافة والفكر، فمقالاته الأحدية بصحيفة «الجزيرة» نقرأ فيها كل الفنون الأدبية من رواية وقصة ومسرحية وسير ذاتية خلاّقة، كيف لا والشعرية تقرؤنا قبل أن نقرأها في مقالاته الأسبوعية التي يجد فيها المثقف والأديب والسياسي والاجتماعي ضالته.

أستاذنا الأديب د.عبدالله مناع, الذي سيحيي هذه السبتية بموضوع شيق وحساس عن مفاهيم الرقابة والحرية التي هي أسمى ما تتوق إليه النفس البشرية منذ بزوغها على ظهر هذه الأرض، فالحرية مَطلب وهَمْ، سيرافق النفس البشرية ما دامت تركض في معترك هذه الحياة.

لقد شكلت المناخات الصحفية والمقالية لعلاقات مضطربة بين (أكسجين الحياة) والدوائر الحمراء التي تتوسع وتتقلص وفق الظروف والمعطيات السياسية والاجتماعية والثقافية، ولكن من حق المتلقي أن يتساءل قبل أن يسأل، هل ستظل الرقابة والرقيب المقصلة التي ستتساقط أمامها آمال المثقفين وتطلعاتهم ورواهم تزامناً مع هذه الثورة المعلوماتية التي أنتجت لنا منصات عظمى للتواصل الاجتماعي كـ»التويتر»، و»الفيس بوك»، وغيرهما من الوسائل والآليات التقنية التي يغيب فيها الرقيب القسري، ليبدأ الرقيب الذاتي الغائب والمغيب في ممارسة سلطته الجديدة فعلياً، وما زلنا بانتظار ما يخبئه لنا المستقبل في هذا الميدان.

كل هذه الأفكار والآمال سيناقشها ضيفنا الكريم في هذه الضحوية المشهودة عبر محاضرة بعنوان: (عن الثقافة والمثقفين والرقابة).

لا أريد أن أستأثر بالوقت عن ضيفنا العزيز الذي قطع أكثر من ألف كيلومتر من عروس البحر الأحمر إلى يمامة الخير لكي يحدثنا عن هذا الموضوع الشيق والحساس، والآن أنقل المذياع للدكتور عبدالله)).

بعد ذلك ألقى د.عبدالله مناع محاضرة بعنوان (عن الثقافة والمثقفين والرقابة..؟!) قال فيها :((إخواني وزملائي..

أسعد الله صباحكم بكل خير:

عندما شرفت قبل عام.. تقريباً بدعوة (ضحوية الجاسر) للمرة الثانية.. للتحدث إلى ضيوفها في مثل هذا الصباح.. كان طبيعياً أن أسائل نفسي: ترى أي المواضيع - مما يشغل اهتمام المثقفين خاصة والناس عامة - أنسب للمكان والزمان.. ليكون موضوعاً للحديث فيه أو عنه، فكان أن خطر ببالي سائتذاك.. أن يكون موضوع حديثي عن (سقف الحرية) في إعلامنا بصفة عامة.. وفي صحافتنا بصفة خاصة، فأخبرت سكرتارية (الضحوية) بذلك.. إلا أنني لم أجد لديها حماساً للموضوع، فنامت الدعوة بالقدر الذي نام لديَّ حماسي لتلبيتها.. ومضت شهور عام 2013م إلى نهايتها، إلى أن فاتحني أمين عام الضحوية أخي الأستاذ معن حمد الجاسر بعيد عيد الفطر المبارك.. برغبتها في تجديد الدعوة مع بداية موسمها لهذا العام (1436هـ)، وهو ما جعلني أذهب إلى الاعتقاد بأن موضوع الحديث عن (سقف الحرية في إعلامنا) أصبح مقبولاً لدى (الضحوية)، إلا أنه فاجأني بـ(اقتراح) أن أتحدث عن واحد من موضوعين: حياة وتجربة المرحوم الأستاذ محمد سعيد عبدالمقصود خوجة.. أول رئيس تحرير سعودي لصحيفة (أم القرى)، التي صدرت في الشهور الأولى من حكم الملك عبدالعزيز للحجاز.. وكان من بين دوافع صدورها الرد على صحيفة (المقطم) المصرية، التي كانت تتبنى فكرة ترشيح الملك فؤاد - ملك مصر آنذاك - لـ(الخلافة) الإسلامية.. بعد سقوطها في اسطنبول عام 1923م على يد كمال أتاتورك، أو حياة - ابنه - الشيخ عبدالمقصود خوجة وتجربته الرائدة في إقامة ليالي (الاثنينية)، التي كان منشؤها اللحاق بتكريم الرواد الأوائل في الأدب والشعر والفكر.. إلا أنها لم تخل من بصمات ندوات ليالي أيام التشريق بـ(منى) التي كان يقيمها والده لمثقفي العالم العربي والإسلامي ممن كانوا يؤدون مناسك الحج.. والتي انطبعت في وجدان الطفل آنذاك (عبدالمقصود) فأراد أن يسترجعها وفاءً لـ(فكرة) والده.. من جانب، وتقديراً وإكباراً لأولئك النجوم من الأدباء والشعراء والكتاب والمفكرين الذين كان يراهم وهم يشاركون في الاحتفاء بمثقفي العالم العربي والإسلامي: استماعاً لهم.. وحواراً معهم.. وتعقيباً عليهم.. أو رداً على بعض استفساراتهم في (ليالي أيام التشريق).. من الجانب الآخر، إلا أنني تحفظت على فكرة الحديث عن المرحوم الأستاذ محمد سعيد عبدالمقصود.. وكانت حجتي في ذلك أن الصديق الأستاذ الدكتور محمد بن سعيد - رحمه الله - أصدر عنه عبر (سلسلة الكتاب العربي السعودي)لتي كانت تتولاها (شركة تهامة) أيام نجمها الأستاذ محمد سعيد طيب.. كتاباً مرجعياً عن حياته وآثاره لم يترك فيه صغيرة ولا كبيرة من حياة وتجربة الأستاذ محمد سعيد عبدالمقصود إلا وأحصاها بل ووثقها.. حتى ليبدو كما لو أنه لم يدع مساحة للقول من بعده عن حياة وتجربة الأستاذ محمد سعيد، الذي سمعت بـ(اسمه) لأول مرة في تعليق من تعليقات الأستاذ الشاعر الفنان (طاهر زمخشري) أو (بابا طاهر).. عندما قال لي وهو يزورني في عيادتي في أوائل تسعينيات القرن الهجري الماضي: (إنك تشبه محمد سعيد عبدالمقصود في أمرين: في طوله.. وفي حرارة قلمه)، أما (خياره الثاني) بـ(الحديث) عن أخي وصديقي العزيز الشيخ عبدالمقصود خوجة و(اثنينيته) باعتباري معاصراً لولادتها وصاحب كرسي دائم في لياليها.. بل واضعها على أجندة قلمي بعد كتابي القادم (شموس لا تغيب نجوم لا تنطفئ) في كتاب بعنوان (ليالي الاثنينية وروادها)، وكما هي نيتي في الكتابة عن (الثلوثية وجلسائها) إن شاء الله.. وهو ما دعاني للترحيب بفكرة أخي معن، إلا أنني رجوته.. أن يمهلني حتى أستأذن أخي عبدالمقصود، الذي أعلم أنه يفضل الحديث عن (اثنينيته) بأكثر مما يحب الحديث عن شخصه، وهو ما كان.. عندما طلب مني الشيخ عبدالمقصود أن أتوسل بمكانتي لدى أخي (معن) في إعفائه من طلب الحديث عن شخصه مع ترحيبه بالحديث عن (الاثنينية) منى أو من أي شخص آخر في تلك (الضحوية) التي أصبحت معلماً ثقافياً من معالم الرياض، لأعود إلى مربعي الأول في البحث عن بديل لموضوع (سقف الحرية).. الذي ربما لم يعد صالحاً في ظل هذه الغيوم الكثيفة من الأحداث التي تغطي سماء الوطن العربي.. ليلمع في خاطري حديث عن الثقافة والصحافة والمثقفين والصحفيين والرقابة.. باعتباره أحد هموم المثقفين قبل وبعد النشر، مع ما حفل به تاريخ الرقابة والمراقبين من قصص وطرائف، وقد بدا لي أنه أليق بي وبتجربتي وبقيمة حضور هذه الضحوية من الصف الأول من أدباء وشعراء وباحثي وصحفيي العاصمة.

إخواني وزملائي:

بداية.. لم يكن لـ (الرقابة) تاريخ يذكر مع بداية عهد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود - طيب الله ثراه - إذ لم تكن هناك صحف غير صحيفة (أم القرى) التي سبقت الإشارة إليها، أما باكورة كتب النهضة الأدبية.. الثلاث: (أدب الحجاز) و(المعرض).. اللذان أصدرهما الأديب والشاعر وصاحب المكتبة العربية في العاصمة (مكة) آنذاك: محمد سرور الصبان، فكتاب (خواطر مصرحة) للأديب والشاعر الأستاذ محمد حسن عواد، فلم تمر على رقيب ولم تجزها إدارة رقابة.. لم تكن موجودة أصلاً آنذاك، وقد طبعت ثلاثتها في المطبعة العربية بالقاهرة.. ثم جيء بها إلى (مكة)، ليرد على أهمها (خواطر مصرحة).. الشيخ يوسف ياسين - رئيس الشعبة السياسية في ديوان الملك عبدالعزيز وأول رئيس لتحرير صحيفة (أم القرى) - بعشر مقالات بتوقيع (قارئ) - كما قال الأستاذ الأديب والباحث حسين بافقيه - عندما أعاد إصدار الطبعة الأولى من (خواطر مصرحة).. لتمضي سنوات ما بين الحربين رخاءً على الصحافة رغم زيادتها بـ(صوت الحجاز) الأسبوعية.. وبـ(المنهل) و(المدينة) الشهريتين، إذ لا أذكر فيما قرأت - أو سمعت - أن هناك رقابة على ما كانت تنشره تلك الصحف خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، ولكن مع تولي الملك سعود بن عبدالعزيز مقاليد الحكم عام 1953م أنشئت مديرية عامة للإذاعة والصحافة والنشر برئاسة وزير الدولة - آنذاك - الشيخ عبدالله بلخير، الذي شهدت إدارته توسعاً صحفياً ضخماً حيث صدرت في تلك الأيام - من الخمسينيات الميلادية - صحف: (الأضواء) و(الأسبوع التجاري) في جدة، والندوة وحراء وعرفات في مكة، واليمامة في الرياض، وأخبار القصيم، في القصيم وأخبار المنطقة الشرقية في الدمام إلا أن صوت الحجاز كانت قد اختفت.. ليتم توحيد صحيفتي (عرفات) و(البلاد) السعوديتين في صحيفة واحدة هي (البلاد)، وتوحيد صحيفتي (حراء) و(الندوة) في صحيفة واحدة هي (الندوة) مع ظهور صحيفة أخرى هي (قريش) لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ أحمد السباعي مع بقاء المجلات الشهرية على حالها، فلم تعرف تلك الصحف رقابة قبل النشر ولكنها عرفت شيئاً منه بعد النشر من استدعاءات واستجوابات كانت تقوم بها الإدارة العامة لـ(النشر) وهو ما كان يسميه شيخ الصحافة الأول.. الأستاذ عثمان حافظ بـ(الجرية) التي كانت تنتهي عادة بسلام، إلا أن الصحافة.. عرفت الرقابة قبل النشر مع العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصروهو ما عرف بالعدوان الثلاثي -، وقد وضعت المملكة آنذاك كل إمكاناتها المدنية والعسكرية في خدمة الدفاع عن مصر ضد العدوان الثلاثي الذي كان رداً عسكرياً على تأميم عبدالناصر للقناة في السادس والعشرين من يوليو من عام 1956م، ولكن ومع الانسحاب البريطاني الفرنسي الإسرائيلي من مصر في مارس 1957م وعودة الأمور في مصر إلى طبيعتها أعلن ولي العهد آنذاك الأمير فيصل بن عبدالعزيز.. عن رفع الرقابة المسبقة عن الصحف وما يكتبه الصحفيون والأدباء ثقة بـ(الصحافة) ودورها الوطني.. وتأكيداً لذلك أصدر قراره بتعيين رئيس تحرير صحيفة (البلاد السعودية) الأستاذ عبدالله عريف أميناً للعاصمة المقدسة.. ليضع أفكاره التي كان يكتبها في (همساته) الصحفية اليومية حول مكة وحاراتها وشوارعها وميادينها.. موضع التطبيق. لكن.. مع وزارة الأمير فيصل الأولى وإنشاء وزارة للإعلام بوزيرها القانوني الشاب جميل الحجيلان، كان كل شيء يتغير مع قيام سبع مؤسسات صحفية.. انتقلت فيه ملكيات الصحف من الأفراد إلى المجموعات - وهو ما أرضى تلك المجموعات وأغضب بعض ملاك صحافة الأفراد -، ليأتي معه عهد افتتاح التليفزيون ببداياته، المتواضعة الأولى التي شغلت أغلبية المواطنين.. فبتطوراته السريعة اللاحقة بألوانه وأفلامه ومسرحياته ومسلسلاته المصرية والأمريكية وتقديمه لروائع سيدة الغناء العربي - أم كلثوم التي كانت مفاجأة المفاجآت السعيدة جماهيرياً - بينما ظلت الرقابة - بعد النشر - على حالها في يد (إدارة المطبوعات) التي كانت تستعين بمندوبين عن بعض الوزارات والمصالح الحكومية في مساءلاتها لـ(الصحف) المتجاوزة والكتاب المتجاوزين للخطوط الحمراء، ثم جاءت وزارة الشيخ إبراهيم العنقري للإعلام التي لم تدم طويلاً، ليأتي الدكتور محمد عبده يماني.. وزيراً للإعلام في سنوات عهد الملك خالد بن عبدالعزيز السبع، التي كانت وكأنها السبع السمان في حياة الثقافة والصحافة بل والمواطنين والمقيمين عامة.. إذ أكثر الدكتور اليماني من لقاءاته برؤساء تحرير الصحف والمجلات والمديرين العامين لها وبـ(الكتَّاب) لمناقشة هموم الصحافة وقضاياها، بل وكان يمازح الصحفيين والكتاب حول (حرية الصحافة) قائلاً: إن لديكم كامل الحرية في أن تمتدحونا كيفما تشاءون. فمم.. تشكون؟!، وقد استمرت إدارة المطبوعات - التي أصبح اسمها (الإعلام الداخلي) - في الرقابة على الصحف والمجلات بعد النشر، إلى أن جاءت وزارة الفيقعلي الشاعر لـ(الإعلام) وتبعتها وزارة وكيله الدكتور فؤاد فارسي لأكثر من عشرين سنة مجتمعة.. حيث تشدد الإعلام الداخلي في رقابته بعد النشر، وكثرت معه إقالات رؤساء تحرير الصحف، ليقول الأستاذ خالد المعينا رئيس تحرير صحيفة (عرب نيوز) الناطقة بالإنجليزية.. (قفشته) الموحية بـ(أن الأسد.. شال أحمد محمود، وبورقيبه شال المناع، ومبارك شاله «هو»)، ثم سرى جدل فقهي بعد ذلك.. حول من له الحق في محاسبة الصحف والكتّاب في قضايا النشر: أهو القضاء.. أم هي وزارة الثقافة والإعلام..؟ ليحسم أمر هذا الجدل لصالح وزارة الثقافة والإعلام مع عهدي الأستاذ إياد مدني فالدكتور عبدالعزيز خوجة.. باعتبار أن قضايا النشر.. هي قضايا رأي خلافية واجتهادية في المقام الأول وليست مخالفات قانونية أو جنحاً أو جرائم.

إخواني وزملائي:

حفل موضوع الرقابة طوال السنوات الماضية بالكثير من الانتقادات لها والسخرية منها.. ولعل أبرز ما قيل من تلك السخريات هو توصيف الأديب الشاعر الفنان والإنسان المفتقد الدكتور غازي القصيبي.. لأولئك المراقبين بأنهم (ديناصورات منقرضة) أمام فضاءات (الإنترنت) التي سمحت بنقل الأفكار والكتب ونصوص الروايات والدواوين الشعرية والقصص والمقالات.. بل والأفلام السينمائية إلى كل إنسان فوق ظهر المعمورة.. من وراء ظهر (الرقيب) ودون علمه بل وفوق قدراته على ملاحقة نهر الثقافة المتدفق من كل بقاع الأرض: دانيها وقاصيها!! كما حفل عالم (الرقابة) و(الرقباء) نفسه - على الجانب الآخر.. بالكثير من المواقف والطرائف المضحكة في فهم الكثير من النصوص، فقد تلقى على سبيل المثال الشيخ عبدالله بلخير طلباً من أحد الرقباء الدينيين بإيقاف إذاعة أغنية أو (زومال) بـ(العشرة خلى الحجر يمشي. بالعشرة يمشي على رمشي) الذي كان يستعين العمال بغنائه وترديده على مشقة العمل وطوله وإرهافه.. بينما كان (الرقيب الديني) يرى فيه (شركاً) بـ(الاستعانة) بالعشرة وليس بــ(الله) العلي القدير، وقد استقام في وعيه أن المقصود بهؤلاء العشرة (المبشرون بـ (الجنة))، فلم يجد الشيخ عبدالله خيراً من الاستجابة لطلبه.. حتى يريح دماغه من أخذ ورد لا طائل من ورائه، أو عندما طلبت الإذاعة من الأديب والكاتب المسرحي الدكتور عصام خوقير - أمد الله في عمره - أن يسجل (حديثاً) إذاعياً عن التعليم - وقد كان من موظفي وزارة المعارف ومديراً لعياداتها الطبية - لإذاعته في اليوم الأول من أيام الدراسة آنذاك.. فقام بتسجيل الحديث الذي استشهد فيه بذلك الحديث أو القول المأثور (اطلب العلم ولو في الصين).. فما كان من الرقيب الإذاعي إلا أن يضيف كلمة (الوطنية) إلى الصين.. ابتعاداً عن مظنة الدعوة لطلب العلم في (الصين الشعبية) الشيوعية الملحدة، والتي كانت لا تعترف بها المملكة آنذاك لشيوعيتها أو إلحادها، أو كما حدث لشيخنا الجميل والجليل (حمد الجاسر) إبان رئاسته لتحرير صحيفة الأسبوعية (اليمامة).. عندما نشر خبراً عن وصول رئيس وزراء الهند آنذاك البانديت (جواهر لال نهرو) إلى الرياض تلبية لدعوة رسمية من المملكة.. تحت (مانشيت) على الصفحة الأولى يقول: (رسول السلام يصل إلى الرياض.. أو في الرياض).. حيث قامت عليه قائمة المحافظين والرقباء - من ذوات أنفسهم - إذ كيف تسمي (صحيفة) عربية إسلاميةذا البراهمي - الملحد - بـ (رسول)، ولم ينقذ شيخنا آنذاك إلا تكرار شرحه للدور الذي كانت تلعبه (الهند) في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة في إدانة العدوان الثلاثي على مصر والتعجيل بانسحاب قواته الغازية منها.. عبر رئيس وزرائها نهرو الذي يعتبر أحد ألمع رجالات السلام في العالم، ووزير خارجيته البارع (كريشنا مينون)، وأن توصيفه بـ (رسول السلام).. ليس أكثر من التقدير له ولدوره المسموع في دحر العدوان على مصر، والذي أثمر فعلاً.. بـ (انتصار) مصر السياسي على ذلك العدوان وخروجها منه أقوى مما كانت عليه.

أما تجاربي الشخصية مع الرقيب والرقابة في صحيفتي البلاد والمدينة أو في (اقرأ) و(الإعلام).. فهي كثيرة، لا تتسع هذه الضحوية المختصرة لسردها، ولكنني سأكتفي بذكر أكثرها طرافة. فبعد أن عدت في أواخر الستينيات الميلادية من رحلتي الأولى الطويلة والجميلة لـ(إيطاليا).. وقد كانت بدعوة من الخارجية الإيطالية للتعرف على إيطاليا وحياتها ومجتمعها الثقافي والسياسي ولقاء من أحب من أدبائها، وقد التقيت فعلاً بروائيها الأشهر والأعظم (ألبرتو مورافيا) والشاعر (سيلفادور كوازيمودو) الحاصل على نوبل للآداب عام (1959م).. كان ضرورياً أن أكتب عن تلك الرحلة، وقد كتبت فعلاً أربع حلقات مطولة بدأتها بالحديث عن روما وحديقتها الشهيرة (فيلا بورجيزي) كما هي بالإيطالية و(حديقة الخالدين).. كما هي ترجمتها بـ(العربية) والتي تضم في جنباتها تماثيل لأساطين الفكر والأدب والشعر والفلسفة في العالم ومن بينهم تمثال لـ(شوقي) الذي ذهبت لرؤيته، لكن مصحح الجريدة الشيخ الجميل أبو تراب الظاهري.. وقد كان يعمل بها مساءً بينما يعمل موظفاً بـ (إدارة المطبوعات) في وزارة الإعلام صباحاً اعترض وهو يقوم بعمله على كلمة (حديقة الخالدين).. لأن (الخالد) هو الله وليست هذه التماثيل وأصحابها، فقلت له: وما العمل..؟

فقال: نغير اسمها (!!)

قلت: إلى ماذا..؟

قال: إلى (حديقة النابهين)!!

قلت: ولكن القارئ سيلتبس عليه الأمر، فلا يعرف عن أي حديقة أتحدث.. خاصة أنه لا توجد في (روما) حديقة اسمها (حديقة النابهين)..!

ولم نجد حلاً إلا باستخدام كلمة (حديقة: فيلا بورجيزي).. دون استخدام كلمة (الخالدين) التي تحفظ عليها الشيخ أبو تراب.. رحمه الله.

إخواني وزملائي:

لم يختف الرقيب من حياة الصحافة والصحفيين والثقافة والمثقفين، ولم يتحول إلى (ديناصور) منقرض.. كما تنبأ الدكتور غازي القصيبي، بل تقدم وتطور وأخذ يراقب (تغريدات) التويتر ورسائل وتعقيبات وتعليقات التواصل الاجتماعي الـ(Facebook)، ليتكرس واقع الخلاف بين المثقفين كمنتجي ثقافة: رواية ومسرحية وقصة وقصيدة ومقالاً وبحثاً.. والرقباء المعيقين لهذا الإنتاج، ورحم الله الكاتب العربي الليبي الكبير (الصادق النيهوم) الذي هاجر بقلمه وفكره واستقر في (سويسرا) بعد أن قال كلمته عن حال المثقفين والثقافة في (ليبيا): (مثقف لا يملك حق الكلام، في مجتمع لا يملك حق النشر تحت سلطة لا تحبذ تبادل الأفكار).

(مثقف وحيد لا يضمن الناس حقه في إبداء الرأي.. مهمته أن يضمن حقوق الناس وأن يدافع عنهم، وأن يقول جهاراً ما لا يطيق أحد سماعه سراً)!!

ومعذرة.. إن تجاوزت خطوط ما هو مسموح به في هذه (الضحوية)، ولكن عذري في هذا أنني أتحدث في ضحوية رجل.. هو رائد التنوير الأول في نجد بـ(مكتبته) وبـ(صحيفته) و(مطبعته) هو (طهطاوي الصحراء) حمد الجاسر كما ذكرت في محاضرتي عنه في نادي أبها الأدبي)).

بعد ذلك فتح مدير اللقاء الأستاذ محمد الفيصل المجال للمداخلات والتعليقات حيث أكد معالي الدكتور أحمد الضبيب أن الدكتور عبدالله مناع مدرسة في الصحافة والإعلام وفي الأدب والثقافة, وقال: لقد عرفت الدكتور عبدالله منذ زمن طويل ربما هو لا يذكره كنا طلاباً مبتعثين إلى جمهورية مصر العربية في الخمسينيات الميلادية وإذا نرى الدكتور عبدالله يوزع علينا كتابه في ذلك الوقت روايته الأولى التي طبعها في جمهورية مصر العربية وهو لا يكاد يذكر هذه الرواية في الحقيقة اندهشنا منها كثيراً ونحن شباب مبتعثون في تحصيلنا العالي وإذ الدكتور يفاجئنا برواية في جمهورية مصر العربية وهذا كان من بشائر نباهته.

ورد عليه الدكتور عبدالله مناع قائلاً: أنا سعدت بهذه التعقيبات لأنها أضافت إضافة للمحاضرة وأنا أكتب بقلمي وأنا خائف صراحة ولذلك اختصر الكثير من الآراء وتحدثت في المحاضرة عن زمن الذي نحن فيه زمن المملكة العربية السعودية والرقابة فيها ولو كانت هناك رقابة على الفكر والقلم لما وصل لنا هذا الشعر الجاهلي العظيم أبدا لكان الرقباء قصفوا رقابهم، الحمد لله لم تكن هناك رقابة في ذلك العصر ووصل الشعر العظيم، وقال تقيدت أنا بالمرحلة التي نحن فيها واعتمدت على ذاكرتي وليس على المراجع إلا ما ثبت في هذه الذاكرة حتى أصبح لنا نص محفوظ وأنا أحفظ الكثير من الشعر. وقال الدكتور عبدالله الجعيد في مداخلته: المحاضرة أعادت للأذهان كل من عمل في مجال الإعلام وأعادت «سلطة الرقيب» ذلك الذي شهر سيفه دائما قبل النشر وبعد النشر قبل القول وبعد القول, الرقباء مع الأسف الشديد لم يتعلموا أيضا إلى هذا الوقت الذي سقطت فيه جميع الحواجز باكتشاف أو وجود الشبكة العنكبوتية «الإنترنت» لهذا أتساءل ألا أن يستحي «الرقيب» أن يقول أنا موجود.

وقال الدكتور عبدالله الشبيلي في مداخلته: أتمنى لو سعى الدكتور عبدالله مناع ليجعل من الموضوع لهذا المجلس كتابا يدون أو يوثق فيه تاريخ الرقابة وتطورها فكنت أتمنى لو يتحول هذا الحديث لكتاب يقوم على تعليمه الدكتور عبدالله مناع ليتحدث فيه عن منشأ «الرقابة» وعن تطورها في هذا المجتمع.

وقال الدكتور عبدالله مناع معلقاً على مداخلة الدكتور الشبيلي: الدكتور الشبيلي رجل الإعلام وقد التقيه هنا وهناك ولم نكن متفقين دائما هو صاحب رأي وأنا صاحب رأي آخر وإذا كانت صحيفة «أم القرى» قد أنشأت عام 1344هـ، والملك عبدالعزيز والإخوان - رحمهم الله جميعا - دخلوا مكة المكرمة عام 1343هـ، فمتى أمكن أن تسوى هذه «الرقابة» في دولة ما زالت فتية فكيف أمكن أن يكون هناك «رقيب» وهذه نقطة تاريخية تحتاج إلى فتوى. وقال الدكتور عبدالله مناع: إن الشيخ جميل الحجيلان كان صاحب دور كبير جدا وضخم في حياة الإعلام السعودي إلى أبعد الحدود، بل كان نجم الإعلام وكان إضافة ضخمة للعالم صنع وقدم الكثير وأنه لولا جميل الحجيلان لما سمح في قنوات الأولى السعودية بإذاعة تلك الروائع الغنائية لأم كلثوم التي كانت تذاع في كل الوطن في الرياض وجدة والمدينة المنورة ومكة المكرمة أغنية «هل رأى الحب سكارى... وما هم بسكارى». وقال الدكتور عبدالله مناع أنا كاتب في جريدة الجزيرة والحقيقة أحظى برعاية كاملة وترحيب وغض الطرف عن كثير من شطحاتي من قبل الأستاذ خالد المالك الذي له الفضل الكبير يقوم بغض الطرف عن تجاوزاتي، حيث إنني في مرحلة لا تسمح لي بذلك، كما أنني أحظى بهذا الاهتمام والعناية والتجاوز وعض الطرف والحقيقة هناك شاب جميل ومحترم اسمه الأستاذ محمد عبدالعزيز الفيصل فهو الحقيقة أحد الأسباب في استمراري، فهو يعطيني من الاهتمام والرعاية والمتابعة حيث كنت في الزمان الأول اكتب فقط لكن الآن اكتب وأراجع وأحسن وأجمل وأحياناً تنشأ معلومة أو تاريخ فاتصل بالأستاذ محمد الفيصل واسأله هل هناك فرصة فيقول هناك فرصة وأفاجأ يوم الأحد بالمقال إن هناك 4 و5 و8 و10 ملاحظات إذ إنه عكف على المقال لساعات فالأستاذ محمد الفيصل له الفضل الكبير في استمراري.