حينما يترجّل التربويون عن مواقعهم

محمد بن إبراهيم فايع

الباعث لمقالتي هذه كان «تقاعد بعض زملاء درب التربية والتعليم في منطقة عسير من المشرفين التربويين» فكلما ودعّت زميلا ألفته وقد اختار حياة التقاعد، إما نظاما أو اختيارا، وترجّل عن صهوة العمل بعد سنوات طوال من العطاء، وجدتني أمام فيالق من اللوعة والشجن تحاصرني عند رحيله، حتى أن تقاعد بعضهم يجعلني مهزوما أمام جيش من المشاعر الحزينة الآسفة لتقاعدهم، رغم إيماني بأن التقاعد سنة ستجري على الجميع وكم قيل «لكل شيء إذا ما تم نقصان»، ويجعلني تقاعدهم أحدّث نفسي بالرحيل مثلهم قبل الأوان، وما ذلك إلا لأحاسيس تملأ القلب بمشاعر الأسى، وألم التوديع، وقد كانوا حواليك يملئون أجواء العمل حيوية وعطاء، فرحيل التربويين عن ميادين العطاء والعمل ؛ليس كرحيل غيرهم في الميادين الوظيفية الأخرى، فتقاعد التربويين تتزاحم في لحظاته أمام بصري عشرات الصور والمواقف والذكريات، في ميادين المدرسة، وأروقة العمل وأنشطته المتنوعة، وما أكثر ما يحفل بها ميدان التعليم، وأعلم حقا أننا لا يمكن لنا إلا أن نبقى في هذه الحياة مع متناقضات من العيش حتى يسترد الله أمانته، فقدرنا أن نحيا مع أفراح وأحزان تأخذنا إلى حيث هي، فنركض خلفها راضين أم مرغمين، فنتذكر! والله الله كم زرنا المقابر لنودع أحبابا قضوا نحبهم، وسبقونا إلى الحياة الآخرة، وقد غصت أحداقنا بالسواقي، ولسان الحال ونحن نرمق نعوشهم والأجداث قول أحدهم «وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي.. بقايا ليال في الزمان أعيشها « فتجري أدمع سخينة تسيل على خدود خطها الزمن بمواجعه حتى أذهب نداها، وكم غشينا الفرح لحظات حين عانقناه في أبهى صوره، فنسينا في لحظة صفاء هموما كثيرة، حارقة لأكبادنا، فقمنا نلهو وسط أهازيج ننشدها، ورقصات نبدعها، وملء الفضاء من حولنا وفوقنا يعلو صوتنا بحثا عن الفرح آلا..لالالالا وهو ينساب من أفواه كل الراقصين كخرير السواقي، فأقول هي الدنيا هكذا، مزيج لا يمكن لنا إلا أن نتعايش معه، ونتقبّله، مخيم للعزاء هناك، وقاعة للفرح هنا وكما قال عنها أبو العتاهية» حلاوتها ممزوجة بمرارة.. وراحتها ممزوجة بعناء- وما الدهر يوما واحدا في اختلافه.. وما كل أيام الفتى بسواء «أعود إلى الزملاء المتقاعدين، فما أن غادروني مودعّين، حتى وجدتني أمام ألبوم من الصور يخصّهم، وشريط من الذكريات التي جمعتني بهم يستعرض بعض ملامح الأمس معهم، والملمح الكبير في كل مشهد يعرض وجوههم كان تلك الابتساماتالمشتركة التي كانت تزيّن محياهم، وأصواتهم التي طالما تردد صداها بين جدران المدارس، واختلطت بأصوات طلابهم، تشرح وتوضح، تعلم وتربي وتوجه، هكذا أنا حينما يرحل التربويون، وعن ميادينهم يترجّلون، أجدني متدثرا بمشاعر تفيض حزنا وأسى، ومعتزلا مع ذكرياتي أردّد «إذا تذكرت أياما لنا سلفت ..أقول بالله عودي يا ليالينا» إن رحيل التربويين، إما رحيل دنيوي أو أخروي قاس وأليم على النفوس فلا تلوموني.