11-11-2014

وبَقِيْتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الأَجْرِبِ..!

قَدِيما كان يُقال:- [وعداوة الشعراء بئس المقتنى]، وذلك حين كان الشاعر لسانَ عصره، يداريه العُظماء، وتتبعه الدهماء. وظل سلطان الشعر طاغياً، حتى فغرت الصحافة فاها، وحتى سُمِّيت بـ[صاحبة الجلالة]، ومن حَوْلها مُجْمل الوسائل الإعلامية.

وظلَّت الصحافة حاكمة بأمرها، تَصنع الرأي العام، وتنسج النسق الثقافي، وتوجه الأفكار، وتقترف نَحْتَ الأصنام، التي لاتحمل طهر الصَّنَم.

وهي اليوم في خريف عمرها، تسعى بخطى وئيدة إلى أرذل العمر، مُخَلِّفَةً أدق الأجهزة، وأقدرها على تغيير وجه الحياة.

ولاندري مالله صَانعٌ بهذا الخَلَف الاخطبوطي.

هل ينتهي به التاريخ، أو يُحْدِث الله بعد ذلك أمراً؟.

فمجال التخرصات، والتوقعات واسع الأفق. ونحن في زمن الممكن. ولم تَعُدْ مقولة:[الناسُ أعْداءُ ماجهلوا] على ماهي عليه من قبل! فالاكتشافات المذهلة، أسقطت كل التساؤلات، والاستبعادات.

هذا الإعلام الفضائحي عَمَّق الرؤى، واستحال معه الاستتار.

الشيءُ الممض في هذه الظروف العارية، كَوْنُ أُمتنا من سِقْطِ المتاعٍ، في زمن السباق الحضاري.

والأشد إيلاماً أن أجيال العصور الذهبية هم بناة الحضارة الإنسانية، وهم حملة مشاعل الهداية، وأن شمس معارفنا هي التي سطعت على الغرب، وأنارت ظلماته. وحالنا اليوم يكاد اليأس فيه أن يحملنا على إمْساكها، ودَسِّها في التراب، متذكرين بكائية [ميخائيل نُعيمة] حين قال في قصيدته الممتعة [أخي]:

أخي ! مَنْ نحنُ ؟ لا وَطَنٌ، ولا أَهْلٌ، ولا جَارُ.

إذا نِمْنَا، إذا قُمْنَا، رِدَانَا الخِزْيُ، والعَارُ.

لقد خَمَّتْ بنا الدنيا، كما خَمَّتْ بِمَوْتَانَا.

فهات الرّفْشَ، وأتبعني، لنحفر خندقاً آخَر.

نُوَارِي فيه أَحَيَانَا.

لقد يَئِس الشاعر حتى من الأَحْياء. فهب لمواراة أجسادهم الميتة، رغم أنها تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق.

فالحياة مجموعة قيم، وليست حياة بهيمية، غايتها الأكل كالسَّائمة. والحكمة تقول:- [كُلْ لِتَعِيش، ولا تَعِشْ لتأكل].

كان عالمنا العربي بِفِعْل شراذمه، ودَعْمِ أعدائه خارج التاريخ، تُقْضَى جَلائل الأعمال في غيابه، ولا يُلْتَفت إليه عند حضوره.

ولما تقلصت سلطة [الرجل المريض] اقتسمت دول [أوروبا] تَرِكَته المنتهية الصلاحية، وكان بإمكان أمتنا قَلْبُ المعادلة، كما فعلت [اليابان]، المتزامن اتصالها بالغرب مع اتصالنا به، ولكن أمتنا ظلت [أمَّةً تضحك من جهلها الأمم].

ومع الأيام بَدَتْ بعض الحركات القومية، والإصلاحية توقظ النُّوَّم، وتذكي فيهم روح الأنفة والإباء. فكانت حركات التحرر، وبدأ الاستعمار التقليدي يعيد حساباته، ويُفَكِّر في مصالحه، ووجد ألاَّ مُقَام في بلاد أدركت أن حُرِّيتها أهم من الطعام والشراب. فخرج، وفي نفسه إعادة الكرة بنوع آخر من النفوذ، إذ توسل بالتفريق، وخلق الكيانات الطائفية، والعرقية، والإقليمية، والقطرية، فكان ذلك سبيلاً لتفريق الكلمة، وذهاب الريح.

وهو اليوم لاينفق جهداً، ولا يبذل مالاً، وإنما يَحُوكُ اللعب القذرة، ويعتمد في تنفيذها على [طابوره الخامس].

هذه اللعب فعلت فعلها في توهين القوى، وتفريق الكلمة، وتعدد الولاءات، والانتماءات. وأصبح الأخُ يَشْفِي صَدْره بإراقة دم أخيه.

حتى لقد اسْتُدْعِي الاستعمار بعد طرده، لإنقاذ الموقف. وأنيط به الحل، بعد أن كان هو المشكلة. وساعتها كان الخَلَفُ الذي يشبه جلد الأجرب، بكل مايحمله من تشوُّهات، وروائح كريهة.

ذلكم هو عالمنا المريض، الميؤوس من شفائه.

الشيء الجارح للكرامة أنَّ الاستعمار التقليدي إبَّان غزوْة توسل بالجهل، والفقر، وقِلَّةِ العدد والعُدَّة، فاستغل خيرات الوطن العربي، واستنزف ثرواته، وزَيَّف وَعْيه، وأوهن عزماته.

أما اليوم فَعَالمُنا مُفْعَمٌ بالمعارف، مَلِيْءٌ بالخيرات، والخبرات، والكفاءات. لا ينقصه عِلْمٌ، ولا عَدَدٌ، ولا فَهْم. وهو بهذه الإمكانيات المهدرة مُهَيَّأٌ لجمع الكلمة، وتوحيد الصف والهدف، ونبذ الخلاف، وقطع دابر التنازع. إلا أنه لمَّا يَزَلْ يَمْضِي مع المكائد المكشوفة، والحيل السَّخِيفة. فكأنه أعمى يُقاد، أو أصم لايسمع. يَخْرج من كارثة إلى أخرى، ومن عثرة إلى سقوط.

وكل مواطن عاقل يَضَعُ كَفَّه على صدره، وكأنه مَوْعود بالخوف، والجوع، والمرض.

فإلى متى تتخلص أُمَّتُنا من أدوائها؟.

وإلى متى تستبين الرشد؟.

لقد عاب شاعر [غُزَيَّة] على أمته، لمجرد أنها لم تستبن الرشد إلا في ضحى الغد. فكيف يكون استياؤنا، والأيام، والسنون تَمْضي دون أن نستبين الرشد. بل ظل المتنفذون يفاجئون أمتهم بالويل، والثبور، وعظائم الأمور.

تتجسد رداءة واقعنا العربي، فيما يَعيشُه وطَنُنا، وطن المقدسات هذه الأيام، من مفاجآت مُنْكرة.

لقد فوجئ المواطن السعودي بالممارسات الإرهابيه المحسوبة بكل دقة، والمدبرة في أوكار خاسئة حَسِيرة خَائِبة، كُشفَ عفنها في لحظاتها الأولى. فبعد ساعات قليلة لملم رجال أمننا أطرافها، وقبض على المتورطين فيها.

هذه الممارسات أَعْراضٌ لِأَمْراضِ أمتنا، التي لم تفق بعد. ولم تع ماهي عليه من تخلف، وفشل في إدارة الأزمات، ومواجهة التحديات.

وواجبنا تَخَطيِّ العَرَضَ إلى المرض. لقد أجهضنا العمليات الإرهابية، وعسى أن نَضَع أيْدِينا على مَصَادِرها، لِنُتْبِع رأسَها الذَّنَبَا.

رهان المفلسين أن الشَّعْبَ السعودي بانتظار من يَقْدحُ له الزنادَ، لِتَهُبَّ ثورتُه المكبوتة، ويَسْلك طريق التيه، والضياع.

وحسابات الجهلة لم تتبدل، ولم تتحول، منذ أن تنفس الانقلابيون العسكريون، وَذَرَّ قَرْنُهم - كما قرن الشيطان - عام 1949م، وحتى هذه الأيام المترعة بكل الفشل.

الذين يَتَحَلَّبُ لُعابُهم على اشتعال الفتنة في المملكة أغبياء. لأنهم يمثلون بغدرهم كبرياء العائل، وناكر الجميل.

المملكة صَمَّام أَمَان، ورَجُل إطفاء، وجُنْدِي طوارئ، تُسْتَدعى حين تدلهم الأمور، وتضيق الحيل، وتبلغ الروح الحلقوم.

إنها ملاذ الخائف، ودفء المقرور، وزاد الجائع. ومع هذا تُحاك ضدها المؤمرات، لتفكيك لحمتها، وزجها في أتُون الفتن، التي تسعى جاهدة لإخمادها، بكل ماتملكه من أعماق: سياسية، ودينية، وامكانيات اقتصادية، وجغرافية، وحضور فاعل في كافة المحافل الدولية، وقدرات على الدفع، والحوار، والاحتواء. مُعَرَّضَةً بفعلها الإنساني مثمناتها للخطر.

ذلكم هو الخلف الذي يعيش فيه العقلاء. إِنَّه خَلَفٌ كَجِلدْ الأَجْربِ.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب