عبدالله القصبي بين النقل والعقل في مسارات الأمة والوطن

رحل إلى دار البقاء رمز من رموز الأمة العربية والوطن الأم المملكة العربية السعودية عبد الله بن عثمان القصبي العاصمي القحطاني غفر الله له، وأحسن أستاذ الإعلام الرائد الدكتور عبد الرحمن الشبيلي في مقاله بالشرق الأوسط أمس 11-11-2014 في التنويه المختصر عن الراحل الكبير، ولعلي اسهم هنا بإشهار للأجيال في الوطن العربي والسعودية عن مسارات ثرية عن رجل خدم الأمة العربية معلماً ودبلوماسياً في العراق، ومصاول في معارك فكرية واسعة رسخ فيها قوة فكر ورجاحة عقل وإيمان قومي واسع النطاق لقدرة العرب على التحضر والإنجاز. رغب أن يكون محامياً ورضخ لأمر أبيه فصار معلماً لا مدافعاً عن القتلة.

وقد شرفت بتوثيق لبعض مذكرات وذكريات له في كتابي: قصة الطرق في المملكة العربية السعودية، التحدي والإنجاز، شواهد وشهادات 2007م فقد كان عبد الله بن عثمان القاسم القصبي هو أحد الرموز الوطنية التي كان لها إسهام في النهوض بالأمة العربية إبان شبابه وعمله في مجال التربية والتعليم في العراق، وتمثيله العراق في مناسبات رسمية وعلى مستويات عالية، من خلال أعماله الفكرية وتطاول قامته في الندية والحوار مع قمم الفكر العربي كأمثال طه حسين والراوي وغيرهما. ثم من خلال عودته إلى الوطن والعمل فيه في وزارة المواصلات في بدايات التأسيس لها مع الأمير طلال بن عبد العزيز أول وزير للمواصلات ثم الأمير سلطان بن عبد العزيز رحمه الله.

كان عبد الله القصبي من القيادات السعودية التي كان لها مكانة كبيرة في مرحلة تأسيس أهم الوزارات في السعودية وهي وزارة المواصلات - النقل حالياً - وأهمية الوزارة أنه كان لها من اسمها نصيب، فقد كانت الركيزة الأهم في ربط أطراف الوطن، من أجل استكمال مراحل التواصل والاتصال بين جهات الوطن، وكان القصبي من أوائل من عمل في الوزارة في مستوى إداري عال، واستطاع مع الأمير طلال، أن ينشئ بدايات تكوين تشكيلات الوزارة وأعمالها المنتظرة لكن الوزير استقال فبقى القصبي في العمل مع الوزير الخلف الأمير سلطان بن عبد العزيز، وهنا كانت النقلة الكبرى في التفكير الاستراتيجي التخطيطي الهندسي والمالي الشمولي لوصل أطراف الوطن بطرق مزفتة، لعلها كانت بداية التأسيس الحقيقي لانطلاقة الربط بين مناطق الوطن.

عمل أولئك النخب في زمن شح الموارد المالية والبشرية فكانت لهم الريادة في وضع لبنات التأسيس التي سارت عليها الأجيال المتلاحقة في صناعة بناء الطرق والجسور والأنفاق والسكك الحديد والمواني والبريد.

ترك عبد الله القصبي العمل الحكومي لينطلق عائداً إلى أول عشيقة له الصحافة، فقد كان أول سعودي يسجل لدرجة الدكتوراه في الصحافة في مصر، لكن وقف دون ذلك رغبة الملك فيصل في أن يلي أعمالاً ذات أهمية، مع استكمال التحصيل. عمل عبد الله القصبي مديراً عاماً لمؤسسة المدينة المنورة للصحافة التي تصدر صحيفة المدينة، واستطاع أن ينهض بها إدارياً وتسويقياً وتقانة وإسهاماً في التحرير كاتباً وصاحب رأي.

حصلت نقلة في الحياة المهنية للرجل فاستثمر المعرفة المهنية المكتسبة في العمل في نطاق أعمال النقل والمقاولات فأنشأ شركة سمّاها كرا باسم الجبل الأشم الذي يطل من الطائف على المشاعر المقدسة، وقام بأعمال مقاولات في مناطق المشاعر المقدسة لعل أهمها أول توسعة وبناء لجسر الجمرات. مارس التفكير في التعديل لطرق التصميم والتنفيذ، ليس وفق المعرفة الأكاديمية التخصصية، ولكن وفق الخبرة والتجربة فنجح كثيراً ونال الثناء على إجازاته من الجهات التي عمل لصالحها.

لقد أنسأ الله للرجل في العمر، وكان له ترف واسع في الفكر والتفكير والإنجازات، فقد بهرني الرجل بما سمعته منه من أحاديث توثيقية لمناح كثيرة واسعة عن الطرق والنقل، وعن علاقات وظيفية وفكرية وشخصية نشأت بينه وبين شخصيات قيادية في العراق وفي السعودية..

لقد شغفت بفكر وتفكير الرجل كثيراً، وسافرت له في مقره الصيفي في الهدا، وفي ضواحي مكة المكرمة، وجدة والرياض، وسجلت معه توثيقاً جميلاً عن المواصلات والنقل، أشرت إليه سابقاً وهو ضمن محتويات كتابي سالف الذكر. وهنا استعيد نماذج من وحي ما قمت به لعله يكون منارة ضوء لأجيال الوطن السعودي. قال القصبي:

سافر جدي من بلدة القصب ومعه مجموعة من النجديين إلى العراق، ومعه والدي وهو طفل صغير، واستقر في الزبير، وكان جل سكانها سعوديين، عمل الجد والوالد في التجارة، وتخصص الوالد في تجارة الحبوب، وتمكن والدي من تكوين صداقات وعلاقات مع شخصيات عراقية كبيرة في مجال التجارة والسياسة والفكر. ولدت ودرست في مدارس العراق، وعملت في حقل التعليم في العراق. تخرجت من جامعة فؤاد الأول بدرجة الماجستير في الصحافة، ثم سجلت للدكتوراه وسجلت رسالتي مع الدكتور عبد اللطيف حمزة، وكان عنوانها الدعاية السياسية لجامعة الدول العربية، وكان ذلك عام 1952م قدمت للمملكة عام 1372هـ وصلت للطائف للسلام على الوالد، وصحبته للسلام على الملك عبد العزيز، قابلت بعد السلام على الملك عبد العزيز الأمير فيصل بن عبد العزيز نائب الملك في الحجاز، وفي تلك الأيام تعكرت العلاقات بين السعودية ومصر، وعند مقابلتي للأمير فيصل بن عبد العزيز، لم يقبل فيصل بسفري، وفي اليوم الثاني قابلت الأمير طلال بن عبد العزيز فأبلغني أنه قد اتفق مع والده الملك عبد العزيز، وأنه أمره بجلبي للعمل معه في وزارة المواصلات حيث إنه كان للتو قد عين في منصب وزير المواصلات.

وهنالك موقفان في ذاكرة القصبي:

في أواخر الأربعينيات الميلادية كنت مدرساً في ثانوية البصرة، وزارها الأديب المصري الكبير عبد القادر المازني، وحصلت له مشاغل عن معرفة البصرة ومركزها الأدبي، فألقيت كلمة زبدتها: إذا كان ذنب أهل البصرة أنهم يبالغون في إكرام الضيف فهو ذنب لا يعتذرون عنه بل هم يفخرون؟؟ فقام المازني ورد علي قائلاً: إنه إذا كان حصيلة كلامي قد دفع السيد القصبي إلى إيضاح أن أسواق الكتب القديمة عامرة بما يمكن أن يبني مركزها الفكري، فإن ما بدا مني أمر مستدرك، وإنني أعد بزيارة الأسواق التي ذكرها السيد القصبي وأغير خطئي الذي حصل، فإن هذا الإيضاح من السيد القصبي عمل إيجابي.

وفي عام 1950م عقد في الإسكندرية مؤتمر عن مستقبل سياسة الدول العربية في التعليم، برئاسة الدكتور طه حسين.. كنت حينها موظفاً في السفارة العراقية في مصر، تأخر وصول الوفد العراقي، فاستدعاني السفير العراقي السيد نجيب الراوي وذهبنا إلى المؤتمر في الإسكندرية، وطلب إلى السفير إلقاء كلمة العراق أمام المؤتمر عن مستقبل السياسة التعليمية في العراق. في تلك الأيام كنت متحمساً للقومية العربية وما زلت، وألقيت كلمة أكدت فيها أن العراق يهتم بتأكيد القومية العربية قبل اهتمامه بالثقافات الإقليمية، وفي اليوم التالي وصل الوفد العراقي الرسمي برئاسة وزير التربية وأكد أن اهتمام العراق بالثقافات الإقليمية الخاصة، فما كان من الدكتور طه حسين إلا أن أوقف الوزير العراقي، وقال الآن نريد من الأستاذ القصبي أن يوضح ما حصل من تناقض بين كلمته أمس عن العراق، وكلمة رئيس الوفد اليوم فقلت: إن العراق يؤكد اهتمامه بالقومية العربية في سياسته التعليمية واستشهدت بأن الأستاذ إدريس البغدادي القومي العربي الكبير الذي كان يشغل عميد كلية دار المعلمين العالية في بغداد والأستاذ الكبير ساطع الحصري قد اختار العراق للإقامة والسكن، فصفق طه حسين وصفق الحاضرون، كذلك وأيد السفير العراقي الراوي ما ذهبت إليه.

أراد عبد الله القصبي أن يدرس المحاماة، لكن والده لم يقبل، وقال له إذا أردت أن تدرس كما تريد أعطيك ديناراً في الشهر، وإذا أردت أن تدرس ما أريد أنا فلك 3 دنانير، وقبلت في الحقوق وبعد ثلاثة أيام لاحظت أن اسمي مشطوب بالقلم الأحمر، وأبلغني عميد الكلية الأستاذ أنور القاضي أن رئيس غرفة تجارة بغداد السيد كامل الخضيري وهو شخصية لها وزن سياسي في العراق قد أخبره بضرورة شطب اسمي؟ وعند حضوري للسيد كامل طردني بعنف قائلاً: أنتم الشباب تعصون آباءكم، وأنا لا أستقبل العصاة لآبائهم، وذهبت إلى الوالد في البصرة أستفسر فقال لي الوالد: يا بني أجبني على ما سوف أسألك عنه بوضوح تام؟ لو تخرجت محامياً وجاءك رجل قاتل يطلب منك الدفاع عنه وأعطاك 100 دينار، هل تقبل الدفاع عنه أم ترفض؟ فقلت أقبل الدفاع عنه عسى أن يخفف عنه الحكم. قال أبي: ولو كان قاتلاً مخطئاً؟ قلت ولو كان ذلك، قال يا بني أتريد أن أدرسك لكي تدافع عن القتلة؟ اختر أحد أمرين: أما هذا البيت أو كلية الحقوق؟؟ فتركت كلية الحقوق طاعة لوالدي، وفي نفسي ما فيها من حب لكلية الحقوق!! وتخرجت من كلية دار المعلمين، وعملت مدرساً في البصرة.

يذكر السيد القصبي أن الأمير سلطان طلب سيارته للذهاب إلى وزارة المالية ولم يجدها، فقال أين سيارتك يا عبد الله فقلت هنالك وهي مستعارة وقرنبع لا تليق بمقام سموكم؟ فقال أحضرها، وركب معي في سيارتي القرنبع وأوصلته إلى مقصده وأنا أشعر بحرج بالغ، بينما كان هو في غاية السعادة.

كانت رؤية وتوجه الأمير سلطان عقب مباشرته العمل أن تكون الطرق الرابطة بين أطراف المملكة هي المنطلق والأساس قبل أي منظور آخر، ثم أن يتم الحرص على أن تمر الطرق بأغلب قدر ممكن من البلدات حتى لو طال المسار ولهذا فإن أغلب الطرق الرابطة بين مناطق المملكة قد تمت دراستها في عهد الأمير سلطان إذ قام بالدراسات مهندسون من مصر ولبنان أمر بإحضارهم من جميع البلدان، وكان هذا النهج هو ما سارت عليه أغلب الطرق التي تمت كمرحلة أساس ولقد كان الأمير سلطان محباً وعاشقاً لبناء الطرق، وهو بحق المؤسس للطرق في المملكة.

كان أول مشروعات الطرق طريق الرياض - جدة وقد نفذه ابن لادن. ثم تبعه طريق المدينة - تبوك وقد جاء لهذه الأسبقية، لما له من بعد إستراتيجي وأهمية بالغة في الربط وخدمة الحجاج.

بعد ترك القصبي وزارة المواصلات عمل رئيساً لبلدية جدة، وقال استفدت من خبرتي في أعمال وزارة المواصلات في أعمال البلدية، وعملت على إقامة طرق الربط فكان طريق جدة مكة هو أول اهتماماتي، وهو لم يكن مزفتا بالكامل، بعد كل هذا الثراء ترى ألا يستحق عبد الله القصبي تكريم الوطن له، بعد رحيله! فلا أعلم أن كانت بلدية جدة أو وزارة النقل قد فعلتا شيئا حتى لو بإطلاق اسمه على طريق أو شارع ما!

البقاء لله والعزاء لنا فيك أيها الراحل العظيم عبد الله القصبي العاصمي القحطاني أحفاداً وأبناء.

محمد بن ناصر الأسمري - كاتب وباحث ومستشار إعلامي

Yosr46@hotmail.com