نماذج من وثائق الأوقاف على طرق الحج في القرن الثالث عشر

تشرف سكان هذه البلاد منذ القِدم بخدمة زوار البيت الحرام ومسجد النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ومن تلك الخدمات توقيف الأموال على زوار وفقراء الحرمين الشريفين، بل إن خدماتهم واهتمامهم قد شملت قاصدي الحرمين خارج المدينتين المقدستين، وذلك أثناء عبورهم طرق الحج الرئيسة أو الفرعية فنجد مثلاً أبناء القبائل الساكنين بالقرب من هذه الطرق وفي القرى والأودية الواقعة بين الحرمين يُشركون الزوار والغرباء من أبناء السبيل في الاستفادة من أوقافهم وصدقاتهم وينصون على ذلك في وصاياهم بكلماتٍ منها: ضعفاء الحرمين الشريفين، الغُرباء، الغُرب، مشّاية الدرب، مرَّار الطريق، الزائر وغيرها من الكلمات الدالة على ذلك. ولأن ما يقدمه هؤلاء لم يسلط عليه الضوء بالقدر الكافي لكونهم خارج حدود مكة والمدينة وبعيدا عن أنظار المؤرخين والكُتاب، ولأن تلك الأوقاف - في الغالب - لم يكتب لها أن تعمر طويلاً حيث انقطعت بانقطاع سالكي تلك الطرق من الحجاج والزوار وبفقد تلك الطرق لأهميتها بعد ظهورطرق المواصلات الحديثة، وتأثرت أيضاً بتدني مستوى النشاط الزراعي ونضوب الكثير من مصادر المياه التي يعول عليها استمرارية تلك الأوقاف. فقد أدى كل ذلك إلى غياب جهودهم عن الذاكرة للأسف، بل والأسوأ من ذلك أن يعتقد بعضهم بأن سكان تلك المناطق في القرون الماضية لم يقدموا للحجاج وعابري الطريق سوى السلب والنهب، ولكن الباحث في الوثائق المحلية التي تعتبر شاهد إثبات يجد أنهم لا يقلون شأناً عن غيرهم من المسلمين في تقديم الصدقات والمساعدات لمستخدمي تلك الطرق، وسوف نستعرض في هذا المقال شيئا من أوقافهم خلال فترة القرن الثالث عشر الهجري، مما دونته أثناء قراءاتي في وثائق منطقة الحجاز، واخترت هنا بعض النماذج، واقتصرت في إيراد الوثيقة على الكلمات الدالة على ما يخص الطريق تاركاً غيره من الكلمات والعبارات، فمن هذه النماذج:

1 - وثيقة وقف زاحم بن عمران في وادي حجر بين مكة والمدينة:

(هذه حجة شرعية محررة مرعية صدرت في ربيع آخر 1215، حضر بين يدي الحاكم الشرعي زاحم بن عمران(1) لما علم أن الدنيا فانية والآخرة باقية... وطامعاً في قول سيد المرسلين «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» وبعد ذلك أوقف زاحم المذكور وحبس وسبل جميع الثلاث نخلات في بطانة الشعبة... وذلك الثلاث نخلات نصفين نصف على المفتاقين (2) ونصف على الزائر...) (3).

2 - وثيقة وقف سليمان بن حميدان السمين في وادي الفرع بين مكة والمدينة:

(الحمد لله وحده، حرر ذلك يوم الاثنين والنصف من ذي الحجة سنة 1223، قد أقرت الحرمة الطاهرة المصيونة وهي بكامل التصرف وعدم كل مانع شرعي وهي سلمى بنت حميدان السمين بأنها أجازت وأماقت(4) جميع ما سَبَّل أخيها سلمان بن حميدان السمين (5) من نخل ودكاكين وغيره... وهو ثماني نخلات على الزوار وهم الغُرب...) (6).

3 - وثيقة وقف عايد بن مهدي الرحيلي في خيف الحزامى أحد خيوف وادي الصفراء غرب المدينة المنورة:

(...الحمد لله وحده، مؤرخ في يوم الوفا(7) من الجمعة من شهر جماد تالي، سنة 1227، حضر الرجل الكامل الرشيد عايد بن مهدي الرحيلي(8) وهو في حال الصحة وسالم من الموانع الشرعية، وأنه قد سبل وحبس... أصل ما أملك في البلاد المسماة العريضية في خيف الحزامى فيها أربع نخلات وقف... وفجة من الماء الجاري ثلاثة قراريط من عين ماء... وجعل تصريف ثمرته على وارد الماء من الضعفاء والمساكين في بئر الروحاء أو غيره من وارد الماء من الضعفاء والمساكين والمحتاجين من المسلمين أجمعين من الديرة أو عابر سبيل من مرَّار الطريق...) (9).

4 - وثيقة وقف الشيخ بطي بن زيادة البلادي في قرية أم العيال بوادي الفرع مؤرخة في 11/ 11/ 1238هـ:

(الحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده، أقول وأنا الشيخ بطي بن زيادة (10) أنني علمت أن الدنيا فانية والآخرة باقية وأن ليس للإنسان إلى ما سعى، وراجي غير الله خائب، قد سبلت وأبدت وحبست لوجه الله الكريم بلادي(11) (أبو صقر) وهي مثلثة، ثلث منها على الغريب والزائر، وثلث على الضعفاء والمساكين من أهل البلدة مدرج تحت الفاقة، وثلث لقمة حارة (12) في رمضان...) (13).

5 - وثيقة وقف جدعان بن بليهش في قريتي اليسيرة والمضيق:

(الحمد لله وحده، حرر ذلك يوم السبت وخمسة وعشرين من جماد أول سنة 1237، قد حضر عندنا يوم تاريخها الرجل العاقل الرشيد النافي للجهالة وهو وفي حالة الصحة والسلامة وعدم الموانع الشرعية وهو جدعان بن أحمد بن بليهش(14) وقد أقر على نفسه بأنه قد أوقف وحبس وأبد وتصدق بماله الكائن بوادي الفرع في اليسيرة والمضيق... وكذلك يؤخذ من رأس الوقف خمسة ريالات منها ريال يلحق حوض المشوي على الغرباء...) (15).

6 - وثيقة وقف جميل بن حامد الردادي في منطقة الفقرة غرب المدينة المنورة:

(الحمد لله وحده، حرر يوم 11 في شهر ربيع أول سنة 1242، بيان سبيل جميل بن حامد (16) المذكورة في البرود ثلث للطريق، وثلث لقمة حارة، وثلث لخادمه، ووديتين لزوجته رقية تأكل ما زالت حية في سبيله، بشهادة عابد بن عبيدالله الردادي، وعواد بن فليح الحازمي ومرشود بن عايدة الردادي، وكتب وشهد صالح بن شرف الدين الرويثي) (17).

7 - وقف مسعود بن سعدي البيضاني بوادي الفرع مؤرخة في 27-9-1265هـ:

(...الحمدلله وحده، أقول وأنا مسعود بن سعدي(18) أنني قد أوقفت وحبست كل ما أملك في وادي الفرع... على أولادي وأولاد أولادي ما تناسلوا...فإذا انقرضوا والمعاذ بالله على الأولى من العصبة فإذا انقرضوا والمعاذ بالله يعود على ذات الأرحام فإذا انقرضوا والمعاذ بالله يعود على مشاية الدرب(19)، والوقف المذكور.... وفيه ثلاث نخلات منهن نخلتان زقمة حارة (20) والثالثة للدرب...)(21).

ملحوظات واستنتاجات:

1 - بعض الأوقاف تبدأ أهلية على الأبناء ونسلهم ثم في حال انقراضهم يوجه الوقف لأبناء السبيل، كما في النموذج الأخير، أو على فقراء الحرمين الشريفين كما يرد ذلك في بعض الوثائق.

2 - يتضح للقارئ ما كان عليه ذلك المجتمع من فقه وتدين من خلال الاستشهاد بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والعمل بها.

3 - تكمن أهمية هذه الأوقاف في وجودها خارج المدن حيث الجوع والخوف وتدني مستوى المعيشة وندرة الخدمات في ذلك الوقت.

4- قرب ديار هؤلاء الموْقِفِين من طرق الحج سهل لهم التعامل مع أبناء السبيل سواء بتقديم المساعدات والصدقات أو بتبادل التجارة معهم أثناء المواسم.

5 - ما زال هنالك الكثير للباحث الجاد حول هذا الجانب المضيء من تاريخ إنسان هذه الأرض المباركة، من خلال الوثائق الأهلية التي أصبحت في متناول اليد.

- محمد بن سعود البيضاني الحربي

Mszh01@hotmail.com