ياسر صالح البهيجان
إن حالة القراءة من أكثر عمليات العقل البشري ديناميكيّة، تُعلن نوعًا من السلم الهش والآيل للسقوط عندما تتحرك أطراف الصراع الثلاثية (الكاتب، النص، المتلقي) لاجتذاب المعنى ومحاولة احتكار التأويل، ما يجعلنا إزاء فوضى استبداديّة للإمساك بحقيقة المقصود مما يُقرأ، بيد أننا أمام حقائق متعددة وليس ثمة حقيقة واحدة.
أي لغة بشريّة تتأسس بالضرورة على الرمزيّة، ما يجعلها رهينة السياق الذي هو الآخر يُضمر في كينونته سياقات أخرى خارج النص المقروء، ما يفرض مبدأ تعددية الدلالة لا بوصفها خيارًا، بل مسألة وجود لغوي لا ينفك عن طبيعة اللغة ذاتها، كما أكد بول ريكور «تعددية المعنى والرمزية ينتميان إلى تكوين اللغة وعملها».
أحادية المعنى أو الاستبداد القرائي والزعم بأن النص لا يعني إلا شيئًا واحدًا هو تصوّر واهم اعتنقته أذهان البشريّة في حقب زمنيّة سالفة، والنصوص الخالدة في تاريخ الحضارة البشريّة كانت نتاج تعددية التأويل وإمكانات التلقي المنفتحة التي استطاعت أن تتخطى الفضاء الزماني والمكاني بقوة فعل القراءة التي تمنح القارئ قدرة على إعادة بناء النص انطلاقًا من ظروف عصره ومرحلته التاريخية، لتؤكد بأنه ليس ثمة قراءة تفوق أخرى، وإنما هي حالة هدم لقراءة سابقة وبناء لقراءة جديدة، أو كما قال المخرج السينمائي الروسي تاركوفسكي «الكتاب الذي يقرأه ألف شخص مختلف يصير ألف كتاب مختلف».
ماذا تعني أحادية التأويل وإنتاج المعنى الواحد إذن؟، هي تعني أن البشر يمتلكون تجربة ذاتية واحدة، ووجهات نظر متماثلة، وأيديولوجيات غير مختلفة، وما ذاك إلا ضرب من المستحيلات، لأن التنوّع الإنساني يفرض الاختلافات والتمايز عطفًا على تعدد المرجعيات الثقافية والدينية، أي أن القراءة محكومة بتعدد الأفهام بالضرورة، وإمكانية الإجماع البشري على معنى بعينه غير متحققة، إلا أن قرر اللاحق تعطيل عقله والاكتفاء بالمصادقة على فهم من سبقه، حينها ستفقد القراءة فاعليتها وتستحيل إلى عبث يسدل الأقنعة على القراءات السابقة ويمنحها مشروعية الديمومة بينما هي تتهاوى جراء التحولات الفكرية الراهنة والمتجددة.
القراءة الفاعلة هي انعتاق من أغلال أي تأويل سالف، وهي من منظور بريغسون محاولة تحايل على الأيديولوجيات المؤثرة في آليات استقبال النصوص، ليستحيل القارئ الحق إلى ممثل بارع يتقمص أدوار متعددة يمارس بها نمطًا من الخيانة لشخصيته الحقيقية حتى يواجه قطيعة نهائية معها، ليبدو أكثر انفتاحًا في تلقي النص وكأنه أول نص يقرؤوه، أي أن يتخلى عن خبراته القرائية السابقة عبر فن النسيان المؤقت، ليتحرر من الأحكام والتصنيفات المسبقة، وينقي ذاكرته من العوالق المعيقة للنمو المعرفي.