إبراهيم بن سعد الماجد
الحديث عن الحج منذ القدم, كان من الأحاديث التي سالت بها أقلام الأدباء والشعراء والفقهاء, وكان الإبداع الأدبي حاضراً في الكثير من مشاهدها, وما ذلك إلا لأن الحج بصفته رحلة إيمانية فإن التجليات الروحانية تكون حاضرة دون أي تكلف أو تصنع, ولعل السالفين أكثر تميزاً في كتاباتهم من المعاصرين, كون رحلاتهم تمتد في بعضها لأشهر, فيكون الذهن الإبداعي متوقدًا طوال تلك الفترة والمشاهد متسلسلة متصلة برحلة الحج.
إليك إلهي قد أتيت ملبيا
فبارك إلهي حجتي ودعائيا
قصدتك مضطراً وجئتك باكيا
وحاشاك ربي أن ترد بكائيا
ويأتي كتاب (في أرض الحجاز) لأحمد حسن الزيات من أبرز المؤلفات التي تحدثت عن الحج في أدبنا العربي الحديث, وهذا الكتاب جاء في الوقت الذي كانت البلاد العربية ترضخ تحت وطأة الاستعمار, يقول رحمه الله (ما أحوج المسلمين اليوم إلى شهود هذا المؤتمر, فلطالما حاصرهم المستعمرون في أوطانهم المغصوبة, ثم قطعوا بينهم الأسباب, وحرموا عليهم التواصل, وفصلوا حاضرهم عن الماضي الملهم, والمستقبل الواعد بطمس التاريخ, وقتل اللغة, وإطفاء الدين فلم تكن لهم جمعة إلا موسم الحج لو خلوا بينهم وبينه, ويسروا لهم اللقاء فيه).
كان يتحدث عن مصاعب تحول بين المسلمين وبين القدوم إلى أرض الحجاز.. أرض بيت الله الحرام والمشاعر المقدسة, ولم تكن الأرض المقدسة بأحسن حالاً من الأوطان العربية قبل مجيء الحكم السعودي, فقد كان السلب والنهب ظاهرة متفشية, أورد تلك الحال الرحالة في مذكراتهم, وكذلك الشعراء, مما وثق لتلك الحقبة المظلمة في رحلة الحج.
كتب عن هذا وليم شكسبير وخير الدين الزركلي والعقاد وغيرهم كثير, ليس هذا محل استعراض ما كتبوا.
اليوم.. الحال مختلفة تماماً, فمنذ تأسيس هذه البلاد على يدي الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله- والحاج يعيش رحلة إيمانية مختلفة, رحلة تحفها الرحمة والأمن والطمأنينة من أول خطوة يخطوها المسلم أرض هذه البلاد الطاهرة, فالحمد لله أولاً وآخرًا.
الحملة الأميرية
وهذا هو صلب هذه المقالة, والدافع الأساس, فقد كان فضل الله عليّ أن أكون ضيفاً على حملة سمو وزير الدفاع, ولأن من لا يشكر الناس ليس بحري أن يشكر الله, فالشكر مما أوجبه علينا ديننا الحنيف, كما هو الدعاء (من صنع إليكم معروفًا فكافئوه فإن لن تقدروا فادعوا له) فإن حروفي تأتي تتهادى خجلاً لكونها لن توفي حقاً, لتشكر أولاً المنعم المتفضل سبحانه وتعالى الذي منّ علي بهذا الفضل ولن أوفيه سبحانه حقه, فله الحمد وله الشكر بلا منتهى وحتى يرضى وبعد الرضا لا نحصي ثناء عليه, ثم لصاحب الحملة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز تلك الحملة الموفقة والمسددة في كل شؤونها, نسأل الله أن لا يحجب ما دعى به الداعون لسموه في أجمل وأعظم لحظات الحج في عرفات ومنى والمزدلفة والحرم, فقد كانت الألسن تلهج سراً وجهارًا بذلك, فما أعظمه من عمل يُجزى عليه الإنسان أجور عظيمة سيجدها لميزانه مثقلة {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}.
حقيقة يعجز البيان أن يصف رحلة حج هذا العام 1439 بشكل عام كونها جاءت على أعلى وأرقى ما يمكن أن يكون عليه مثل هذا الحدث العظيم والكبير في عدد حضوره وزمن إقامته وجغرافية تنفيذه, لقد نجح نجاحاً لافتاً وكبيراً ومبهرًا.
ويعجز البيان أن ينقل لكم دقة تنظيم -الحملة الأميرية- وتفاصيلها المبهرة, ولكنني أكتفي بالقول إنها جاءت على مستوى يفوق الممتاز بمراحل, وهذا نتيجة الجهد الذي يبذله رجال صدقوا ما عاهدوا عليه, على مختلف رتبهم من برتبة لواء وإلى من هو برتبة جندي وما بينهما من رجال مدنيين كانوا بحق المثال الأنصع على تحمل المسؤولية بل والتفوق في ظروف صعبة جداً, لا أتجاوز الحقيقية إذا قلت إنني لم أشاهد -تكشيرة- ولو عابرة من أحدهم فضلاً عن سيء القول أو فظه.
الحملة ضيوفها من الداخل والخارج ومشاربهم مختلفة وجنسياتهم كذلك كما هي نفسياتهم, ومع كل هذا كان هؤلاء الرجال الذين أقول لسمو الأمير محمد هنيئاً لك بهم, كانوا على مستوى المسؤولية في تعاملهم وتقديم كافة الخدمات سواء داخل المخيمات أو خلال التنقلات, فقد كان تنظيماً في غاية الدقة والسلاسة.
مشاهد من الحملة
* تنظيم تحرك الباصات لم يكن عادياً أبداً فقد كان دقيقاً إلى درجة عدم وجود ولو خطأ واحد!
* تقديم الوجبات الثلاث كان وفق أعلى مستويات الجودة التي تضمن سلامته, والأجمل من ذلك وضع منشور إرشادي إلى وجوب حفظ النعمة, حيث إن الفائض عن حاجة الحاج يوضع في مكان مخصص يُعاد تجهيزه ليوزع على المحتاجين, وهذه نقطة في غاية الأهمية كونها جاءت من منطلق شكر المنعم سبحانه وتعالى بحفظ نعمته.
* كان هناك مسابقات ثقافية قُدمت فيها جوائز مجزية.
وبعد:
الحج مدرسة كبيرة نتعلم منها وفيها دروس مختلفة يأتي الصبر على رأسها كما يأتي الإيثار, وقد وجدت جنودنا وكافة العاملين في كافة المشاعر يتصفون بهذا, فالصبر حدث عنه ولا حرج, فهم الصابرون المحتسبون في أجواء لاهبة معها تغلي الأدمغة فتكون الأنفس سيئة ولكنهم شهادة لله تغلبوا على ذلك, بل قلبوه فكان التعامل اللطيف والتعاون المثمر, وأما الإيثار فقد يكونوا ممن تنطبق عليهم الآية الكريمة (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) فهم يقدمون للحاج الماء الذي أحياناً يكون لهم ويفسحون له في الظل وغير ذلك من وجوه الإيثار.
في حملة سمو وزير الدفاع كان الأخوة سؤالهم الدائم (عسى أموركم زينة؟ عسى ما فيه تقصير؟) في تفقد لحظي لكل ما يمكن أن يحتاجه الحاج, وفوق ذلك تلك الأخلاق العالية والابتسامات المشرقة طوال رحلة الحج.
اختم مكرراً تهنئة سمو الأمير محمد بن سلمان برجاله الذين هم في الحقيقة عيّنة تمثل كل جنودنا ورجالنا العاملين في كل المشاعر المقدسة.
شكراً لكم أيها العاملون في حملة سمو وزير الدفاع الكرماء في أخلاقكم الكرماء في ابتساماتكم في زمن صارت الابتسامة مطلبًا.